ليلة الاعتقال
إنه فجر الـ30 من كانون الأول/ ديسمبر 2019، وقد سبقته إحدى الليالي الباردة والممطرة من شتاء ذلك العام. وحين كانت أجراس ليلة عيد الميلاد على وشك أن تُدق لتعلن انتهاء العام، عدت من عملي إلى منزلي قبل منتصف الليل بساعة، وكنت في غاية السعادة لحصولي على الراتب الذي سيمكنني من جلب متطلبات منزلي. عقب تناولي وجبة العشاء، وعندما هممت لأتوجه إلى النوم، عند الواحدة صباحاً تقريباً، فوجئت بطرق قوي ومتتابع على باب شقتي، ما تسبب في إفزاع زوجتي، وطفلي الرضيع. لم يتوقف الطرق، فذهبت لأفتح الباب، وأُفاجأ بعدد من الأشخاص المرتدين أقنعة سوداء تغطي كامل وجوههم، ما عدا الأعين. وبمجرد فتحي الباب، اقتحموا شقتي. وفي الأثناء، سألتهم عن هويتهم فردّ أحدهم: "إحنا الأمن الوطني". قاموا بتفتيش شقتي بشكل غريب، إذ لم يتركوا شيئاً في مكانه، وجعلوا "عاليها سافلها"، وتحفظوا على عدد من الأغراض المتعلقة بعملي كمصور صحافي، ثم اصطحبوني إلى إحدى سيارات الميكروباص التي جلبوها معهم. تحركوا بشكل سريع جداً حتى وصلنا إلى مقر الأمن الوطني، فتساءلت عما إذا كنت سأمكث هنا 15 يوماً، أو 45 يوماً، أو أنه لن يقدر لي أن أرى النور مرة أخرى؟ وما الذي في وسعي عمله حينها؟ وما الذي جنيته أصلاً لآتي إلى هذا المكان بتلك الطريقة؟
عند دخول مبنى أمن الدولة، قطع تساؤلاتي تلك شخص ذو صوت غليظ دفعني لأنزل من السيارة بعدما وضع كيساً قماشياً على وجهي حتى يمنعني من الرؤية، ثم اصطحبني، وأنزلني على سُلمٍ. وفي أثناء نزولي معه، سألني عن اسمي، وأعطاني رقماً، وطلب مني عدم ذكر اسمي أمام أحد، فأنا هنا أدعى بالرقم 10، وظل يردد على مسامعي بعض التعليمات حول طرق التعامل في هذا المكان، بينما كنتُ في وادٍ آخر لا أفكر سوى في كوني سجيناً لا يعلم ماذا يفعل، ولا إلى متى سيظل هنا. ثم أدخلني هذا الشخص إلى إحدى الغرف حيث أجلسني، ثم قام بوضع الأصفاد في يدي، وربطها بحديدة تخرج من الحائط المجاور لي. بعدها همّ بالخروج صائحاً في وجهي بألا أحاول رفع الغمامة عن عيني حتى لا أتعرض للسب والضرب. وظللت هكذا في مكاني حتى الصباح عندما أيقظني قدوم شخص آخر يحمل معه رغيف خبز، وقطعة من الجبن، وقال لي: "ده الأكل بتاعك". وفي هذا الوقت، سمعت همهمات من حولي، فرفعت الغمامة قليلاً لأتمكن من الرؤية، فوجدت شخصين معي في الغرفة يبدو على مظهرهما أنهما هنا منذ مدة طويلة. استجمعت شجاعتي لأسألهما عن المدة التي قضوها هنا حتى باتوا على تلك الحالة المزرية، فأخبرني أحدهما أنهما في هذه الغرفة منذ ما يزيد عن 45 يوماً، وكانت تلك صدمتي الأولى.
كنت وزميلاي نرى في الأحلام أملنا في الحياة. كنا ندعو أن نرى فيها أحباءنا وذوينا، وكنا نسعى إلى حفظ ما نراه في أحلامنا كي نرويه على بعضنا البعض، كما يروي الناس أحداث الأفلام والمسلسلات
بدأت الشكوك والوساوس تراودني تجاه من معي في الغرفة، إذ لا أعرف كيف ستكون استجابتهما إذا علموا أني شيعي المذهب؟ هل سيعاملاني بجفاء، أم سيتصيدان زلاتي حتى يوقعاني بمشكلات ونزاعات قد تودي بي إلى القتل؟ خاصةً أني أعلم أن حملات التحريض ضد الشيعة لا تخجل من التصريح بتكفيرهم، وتحليل سفك دمائهم. أفكار ظلت كلها تدور مراراً وتكراراً داخل رأسي، ولم أستطع إبعادها عني إلى أن قطع حبل أفكاري سؤال أحدهما حول سبب اعتقالي، فأجبته أنه ربما يكون بسبب عملي في الصحافة. وقد علمت في أثناء حديثي معهم أن أحدهما كان يعمل في إحدى شركات البترول، وسُجن بسبب قيامه بقتل شخص سبق واعتدى جنسياً على أحد أطفال قريته، أما الآخر فكان ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 2014. ثم خيم الصمت على الغرفة مرة أخرى، إلى أن أوقف ذلك الصمت قيام أحدهما بإخراج مصحف ليقرأ، وكان ذلك بمثابة شعاع النور الذي انتشلني من حزني، وآنس وحشتي، وساعدني على تحمل المرار والقلق. تبدد قلقي على نفسي، وعلى أهلي، إذ أصبحت قراءة القرآن هي شغلي الشاغل، ورحت أختم القرآن كاملاً كل ثلاثة أيام، وكنت أدعو الله أن يفرج كربي، وكرب زملائي في السجن.
الأحلام هي الواقع
كنت وزميلاي نرى في الأحلام أملنا في الحياة. كنا ندعو أن نرى فيها أحباءنا وذوينا، وكنا نسعى إلى حفظ ما نراه في أحلامنا كي نرويه على بعضنا البعض، كما يروي الناس أحداث الأفلام والمسلسلات، محاولين تحليل هذه الأحلام، وتفسيرها، لنُمنّي أنفسنا بقرب تحققها. حلمي الأول داخل المعتقل كان عن شيخي محمد إسماعيل النمر، إذ رأيته وهو ينتظرني، وكان برفقته بعض الأشخاص، وكلهم على الهيئة نفسها، كأنهم شخص واحد. وقد اطمأنيت كثيراً بعد رؤيتي لذلك الحلم، إذ كان إشارة إليّ بأني في رعاية الله وحفظه. وكنت أتمنى رؤية حلم واحد يشير إلى موعد خروجي؛ أنتظر قدوم الليل حتى أنام، وأدعو الله أن يرسل لي أي إشارة لتريح بالي، أو أن أحلم بالنبي حتى أسأله ماذا أفعل؟ وكيف أدبّر أموري؟ لكن ذلك لم يتحقق للأسف. كنت أحلم بأشياء أخرى لا أعلم تفسيرها. وكانت تسعدني تارة، وتخيفني تارة أخرى. لكن لم أتخلَ أبداً عن الأمل في رؤيا تريحني، وترشدني.
بعد مرور شهر على اعتقالي، بدأ أشخاص جدد بالوفود إلى الغرفة، وخرج رفيقاي القديمان، وانقطعت أخبارهما. فلا أعلم هل أُفرج عنهما، أم أنهما نُقلا إلى مكان آخر. وكنت قد حمّلتُ أحدهما رسائل لطمأنة أهلي على حالي. كذلك كنت أقوم بطمأنة زملائي الجدد بأنهم سيعودون إلى منازلهم قريباً، وأُسمعهم آيات الصبر على البلاء، على الرغم من حاجتي الماسة إلى شخص يربت على كتفي، ويطمئنني. وقد استجاب الله لدعائي، وبعث إليّ شخصاً يحمل قدراً كبيراً من السماحة والرحمة. كان يعاملني معاملة حسنة على الرغم من اختلافنا المذهبي، والذي صرحت له به سابقاً. وكان هذا الشخص يردد على مسامعي دائماً عبارات محفزة مثل "عمرنا اللي فات كله عدّى بحلوه ومرّه، والبلاء ده كمان مصيره هيعدّي، وبكرا نفتكره، ونضحك عليه".
وجدت أن أمامي خيارين لا ثالث لهما: إما أن أقطع السلك الموجود حول "الدش" في يوم الاستحمام، أو أن أستخدم بنطالي مشنقةً. وقررت التنفيذ عند مرور مئة يوم على اعتقالي، محاولاً إقناع نفسي بأن الله سيسامحني، لأنه يعلم قدر معاناتي
هروبي من مقر الأمن
كان شعوري الدائم بالقلق على أسرتي يتملكني ليل نهار، وقد جعل عقلي وقلبي يفقدان صوابهما، خاصةً أن والدتي كانت على وشك إجراء عملية جراحية، ولا أعلم ماذا حدث لها بعد معرفتها بخبر اعتقالي. هل ساءت حالتها أكثر يا ترى؟ أم ربط الله على قلبها، واستطاعت تجاوز هذه الصدمة؟ كنت دائماً أبكي، وأشعر بأني سأكون السبب في إصابتها بالأذى. كنت أمنّي نفسي بأني على وشك الخروج، ربما غداً، أو بعد غد. وكان اليوم يمر عليّ في المعتقل كأنه عام أو أكثر.
بدأت أفكر في الهروب من هذا المكان الموحش لأستطلع حال عائلتي. لكن كيف عساي أهرب، والأبواب جميعها مصفدة، والأغلال في يدي طوال اليوم. ظلت الأفكار السلبية تهطل على ذهني كالمطر، وكان أكثرها استحواذاً عليّ فكرة الذهاب إلى الذي لا يُظلم عنده أحد. لكن الانتحار عمل شاق لعدم توافر الأساليب، فلا يوجد شيء أُنهي به حياتي، والتي كانت في نظري ظلاماً دامساً. ظننت أن معاناة أهلي ستنتهي عند موتي، فالحزن سيكون لمدة، والأيام كفيلة بالنسيان. وبعد تفكير، وجدت أن أمامي خيارين لا ثالث لهما: إما أن أقطع السلك الموجود حول "الدش" في يوم الاستحمام، أو أن أستخدم بنطالي مشنقة. وقررت التنفيذ عند مرور مئة يوم على اعتقالي، محاولاً إقناع نفسي بأن الله سيسامحني، لأنه يعلم قدر معاناتي.
وبعد مرور 80 يوماً على جلوسي في تلك الغرفة، رأيت في المنام أحداً يعطيني عدسة جديدة للكاميرا خاصتي بمقاس 85، فشعرت عند استيقاظي بأن شيئاً جيداً سيحدث لي. وفعلاً لم يخب ظني، فبعد رؤيتي لذلك الحلم بخمسة أيام، جاء أحد أمناء الشرطة ليقول لي إنه عليّ الاستعداد للخروج من هذا المكان، وقد شعرت بسعادة غامرة على الرغم من عدم معرفتي بوجهتي الجديدة؛ هل ستكون إلى منزلي، أم إلى سجن آخر؟
هذا هو النصّ الأول من سلسلة نصوص سأروي فيها أحداثاً عايشتها ظلماً، لأني "شيعي داخل مجتمع سنّي"، فحسب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...