تكشف الأماكن في بيروت عن روّادها، عن أذواقهم ورغباتهم وقدراتهم الاقتصادية أيضًا. محال كثيرة أقفلت أبوابها وقرّرت الانسحاب من السوق حفاظًا على ما تبقى منها وأخرى بقيت بصيغة جديدة تتماشى مع تداعيات الانهيار. هناك من ودّعوا زواياهم المفضّلة وهناك من لم يعد بإمكانهم تحمّل تكلفتها. وفي ظل الأحداث السريعة التي تباغتنا راح وجه المدينة يتغيّر، وحدها واجهتها البحرية تبقى مفتوحة أمام الجميع.
يجلس الشبان على الصخور وإلى جانبهم الفحم والنراجيل، يرفض أحمد أن يلعب مع أخوانه لأن لا رغبة له بذلك. تعد الفتاة الصغيرة الموج وتفاجأ هي وأصدقاؤها بالجرذ الذي هرب
على الكورنيش البحري الممتد على طول المدينة، تجتمع كل الفئات والطبقات، فهنا بحسب تعبير حسن لا توجد تكلفة دخول و"كلّنا نتساوى تحت السماء". وفي بيروت، المدينة المخنوقة بالباطون والمشاريع الداخلية المترجمة بالمقاهي والمطاعم والبارات والمراكز التجارية، لا يملك السكان سوى الواجهة البحرية كمتنفس خارجي أخير أمامهم، وهي حتى اليوم تكتظ بهم على الرغم من الظلام المسيطر عليها.
أقدم بائع ورد على البحر
فراس العبدالله - تصوير جنى خوري
يلقي فراس العبدالله مزهرية الورد على كتفه اليسرى ليعود وينقلها نحو الكتف اليمنى، يقدّم وروده للمارّة لأنهم ابتسموا له ويصف نفسه بأنه أقدم بائع ورد على الخط البحري.
قبل 37 عامًا حين كان يبلغ من العمر أربع سنوات، خرج فراس من منزل ذويه المهجّرين في منطقة وادي أبو جميل وقصد الكورنيش ليبيع الورد وينشل نفسه من الفقر، ومن هذه المهنة أعال ذويه ثمّ أنشأ عائلته الخاصّة. يستذكر فراس أيام “الكراسي والشماسي” وأيام الحرب، ويؤكّد أن الحرب العسكرية كانت أسهل من الحرب الاقتصادية الحالية، وأن الكورنيش تغيّر كثيرًا، يقول: “الكل يعلم من هو فراس، وأنه أقدم بائع ورد هنا. الكورنيش كان ولا يزال متنفس الفقير ولذلك لا أضع سعرًا على ورودي بل أدع الشخص يحدّد سعرها كي لا أحرجه أمام حبيبته، وحين أرى الناس يبتسمون كما كانوا يفعلون قبل الانهيار الاقتصادي أقدّم وردتي مجّانًا”.
ويضيف: “منذ عقود وما قبل الانهيار، كان الناس يملؤون الكورنيش ويبتسمون رغم القلّة، اليوم لا نرى الوجوه بسبب غياب النور، لكنّنا نعلم أن التعب يسيطر على الجميع ويغيّر معالم الكورنيش”.
بائع متجوّل في منطقة المنارة - تصوير جنى خوري
تعبير فراس واقعي، فالوجوه لا تُرى ملامحها إلا من مسافة قريبة جدًّا، وذلك لأن الظلام يسيطر على الواجهة البحرية. الشقق المواجهة تعكس القليل من النور والسيارات المارّة أيضًا، لكن حتى نسير دون أن نتعثّر او نصطدم بالمارة أو بالدراجات الهوائية نستعين بضوء الهاتف. من مسافة بعيدة ومن وسط الظلمة يصدح صوت الموسيقى، نتبعه ونصل إلى ياسر الشيخ موسى.
موسيقى لإمتاع المارّة
ياسر الشيخ موسى - تصوير جنى خوري
يجلس ياسر على المقعد الخشبي متفقّداً لائحة الأغاني بهاتفه المحمول. يحار ومن ثمّ يختار أغنية سيسمعها كل من هو بمداره. يرحّب بنا ويرينا كيف أن هاتفه يلتصق بمكبّر الصوت. فرحة صغيرة تخصّه وحده اخترعها كما اخترع طقوس القدوم إلى المنارة والجلوس مع صديقه وبثّ الأغنيات بصوت مرتفع.
أضع الموسيقى التي تعجبني وأفتخر حين يراني الناس ألبّي رغباتهم. الكل يفرح ولا أحد يعترض، إلا الدولة، الدولة تعترض فيتوجّه رجالها نحوي قائلين: “طفّيها بعد إذنك”
اليوم، ياسر وحيد لأن صديقه على خلاف معه لسبب لا يعرفه. يشرح أنه يأتي إلى هنا لأن الكهرباء مقطوعة في منزله بمنطقة البسطة التحتا وهو غير قادر على دفع تكاليف اشتراك الموتير، ولذلك يخرج ليستمتع بطريقته الخاصّة على الرغم من العتمة المسيطرة هنا أيضًا، ويقول: “هنا بحر وهواء، في المنزل يوجد حائط. هنا أيضًا أضع الموسيقى التي تعجبني وأفتخر حين يراني الناس ألبّي رغباتهم وحين أصنع جوًّا فنيًا يلفت المارّة. الكل يفرح ولا أحد يعترض، إلا الدولة، الدولة تعترض فيتوجّه رجالها نحوي قائلين: “طفّيها بعد إذنك”. فأنتقل من المقعد إلى دراجتي النارية المركونة خلفي وأكمل السهرة وبث الموسيقى من على أملاكي الخاصّة”.
"كنا نسمع صوت الضحك"
حسن قطيش - تصوير جنى خوري
يهرب الباعة المتجوّلون من شرطة البلدية، يركضون نحو الطريق العام غير آبهين بالسيارات المسرعة خوفًا من أن يسلبوا لقمة عيشهم، فبيع القهوة بحسب تعبير حسن قطيش (28 عامًا) ممنوع ولا يوجد مخرج قانوني يسلكه وينقذه من الوضع القائم.
في ظل الأحداث السريعة التي تباغتنا راح وجه المدينة يتغيّر، وحدها واجهتها البحرية تبقى مفتوحة أمام الجميع
يعتبر حسن أن القوى الأمنيّة تضيّق الوضع على الناس وعلى الباعة، ويقول: “النرجيلة ممنوعة والبيع ممنوع وكأنّ الدولة تفرض علينا أن نبيع أعضاءنا لكي نقصد المقاهي ونحتسي فنجان قهوة. لا أعرف ما هو مخطّطهم وهل يريدون تحويل الشريان الحيوي العام الوحيد في بيروت إلى ملك خاص”.
يبحث حسن وهو بائع قهوة متجوّل عن الحلول القانونية التي تسمح له بالعمل في مكان عام، ويؤكّد أن الدولة لا تريد تقدمة الحلول. فهو الذي يعتاش من هذه الحرفة منذ ثلاث سنوات يهرب من رجال الأمن خوفّا من أن يأخذوا أدوات عمله منه، ويقول: “ليس هناك مادّة قانونية واضحة تمنع ابن البلد من العمل كبائع متجوّل، هناك مجموعات تريد أن تحدّد طريقة سير البلد، وهذه بدعة اخترعوها هم. يطلبون منّا أن نحصل على رخصة، لكن إذا ما ذهبت إلى البلدية أو المحافظة فسأكتشف أنه لا توجد وسيلة للحصول على رخصة”.
صيّاد في منطقة عين المريسة - تصوير جنى خوري
بين منقوشة الجبن ومنقوشة الصعتر يبتاع حسن الأخيرة كي يوفّر أربعة آلاف ليرة لبنانية. يقصد الكورنيش ليعمل ويعيل والده المقعد ويصّر أن الشباب معطّلون وليسوا عاطلين عن العمل ولا يملكون سوى هذه البقعة المجانية، يقصدونه على الرغم من التغييرات الجذرية الحاصلة، ويشرح: “قبل ثلاث سنوات، كنا نسمع صوت الضحك ونرى العائلات مجتمعة. اليوم الناس مهمومة وعابسة وجالسة من دون ذرّة نور. وعلى الرغم من ذلك جميعهم يأتون إلى هنا هربًا من منازلهم الخالية من الكهرباء والطعام لكي يتفسّحوا في بيروت حيث الدولة بعد قليل ستضع عدّادًّا على أفواهنا حتى ندفع ثمن تنفّسنا”.
مدينة ملاهي الأطفال... ومتنفس الكبار
لمياء الأمين وأمل قبيسي - تصوير جنى خوري
يجلب محمد ابراهيم ابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات إلى الكورنيش لأنه غير قادر على اللعب في منزلهم المعتم أو في الحديقة العامّة الواقعة قربه في منطقة برج حمود بعد أن أُقفلت منذ تفشي وباء كورونا. وتؤكّد زوجته راغدة إبراهيم أن الأطفال لا يفهمون أن هنالك انهياراً بل اللعب فقط، وتقول إنها في السابق كانت تأخذ ابنها ابراهيم إلى مدينة الملاهي لكنها اليوم غير قادرة على دفع سعر البطاقة وبالتالي تحوّل الكورنيش إلى مدينة ملاهٍ جديدة حدودها بين الطريق العام والبحر حيث يلعب هو وترتاح هي وزوجها وحماتها على مقاعده من سجن المنزل.
يديرون ظهورهم إلى المدينة ويصوّبون وجوههم نحو البحر، آخذين بضعة أنفاس تحت السماء في مكان يعتبر المساحة العامّة الأخيرة في بيروت
في المقابل، اختارت أمل قبيسي وهي معلّمة لغة فرنسية متقاعدة أن تعود مع صديقتها لمياء الأمين إلى الكورنيش بعد غياب دام عامًا كاملًا. وتوضح أنها خرجت من منزلها في منطقة الطيونة، واختارت الكورنيش لأنها غير قادرة على التوجّه نحو الجبل في هذه الليلة مع صديقتها وأرادت أن تتنفّس وتستمتع بالطبيعة وتتجنّب الأماكن المغلقة خوفًا من تفشي وباء كورونا.
وعن العودة بعد سنة تشرح لمياء أنها صُدمت بالعتمة الطاغية على المشهد لكنها في الوقت عينه وجدت أن الناس لا يزالون يقصدون الواجهة البحرية بهدف الارتياح والتنفّس في المكان الوحيد والأخير الذي يحمل الكثير من الطبيعة في بيروت.
كورنيش عين المريسة - تصوير جنى خوري
من رملة البيضاء وصولًا إلى عين المريسة، لا ترى الناس بعضها بعضاً، نسمع الأطفال يلعبون ويركضون ونلمح الطابة تمرّ بجانبنا. المقاهي والمطاعم ليست متوفّرة لغالبية الشعب، والبطالة المسيطرة قد يغلبها مواطنون عبر بيع القهوة والعرانيس على الكورنيش. يجلس الشبان على الصخور وإلى جانبهم الفحم والنراجيل، يرفض أحمد أن يلعب مع أخوانه لأن لا رغبة له بذلك. تعد الفتاة الصغيرة الموج وتفاجأ هي وأصدقاؤها بالجرذ الذي هرب بين الصخور. البعض يركض، البعض يجلس، والبعض يرقص، وكلّهم يديرون ظهورهم إلى المدينة ويصوّبون وجوههم نحو البحر، آخذين بضعة أنفاس تحت السماء في مكان يعتبر المساحة العامّة الأخيرة في بيروت.
أحمد - تصوير جنى خوري
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...