شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"التتمات الناقصة"... قال لي مرة رئيس الملائكة، جبريل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 18 سبتمبر 202112:01 م

مجاز القناع الذي خلف وجهي


-1-

كان يزورني أحياناً، أو كنتُ أستيقظُ مرّات، أو أفتح عيني كمن يستيقظ، فأجده جالساً على طرف السرير، ينتظرني، وكنت أظنّ أنه النبي أو الإمام، وأحياناً كان يخادعني ويقول لي شيئاً حكيماً لأظن أنه النبي أو الإمام، كأن يقول: "كلٌّ في فلكٍ يسبحون"، رغم أننا كنا نتحدّث عن النسوة اللواتي يظهرن في حياتنا برهة ثم يختفين، تاركات أثراً دامياً بأظافرهن على جلودنا، وربما أرواحنا إن ملكنا ما يشبهها يوماً.

أو يقول: "قال لي مرّة جبريل"، ولا أسأله إن كان يقصد جبريل الملاك ورئيس السعاة أم جبريل بائع الخبز في الحيّ المجاور، لكن جبريل كان يقول له أشياء جميلة وأشياء صادقة وأشياء حدثت وأخرى ستحدث، ثم يكون كل هذا صحيحاً، فيعجبني أن أصدقّه، فأصدّقه وأصدّق جبريله.

كان النبي أو الإمام الأجنبي يزورني مرّات ويصخبُ في الحديث، وينتقل سريعاً بين الكتب، وكنت أرفع صوت المذياع لئلّا تظن زوجتي أن شيئاً "غير طبيعي" يحصل في غرفة زوجها مع الغريب الذي يزوره، وأحياناً أضع يدي على فمه لأسكته فيقوم بتقبيلها ثم لحسها. أقول له: اخفضْ صوتك يا سيدي، زوجتي في الخارج، فيضحك ثم يقول: "لن تراني، لا يراني إلا من أراه".

وكنا نتحادث أحياناً عن العائلة والنساء، وأشكو له فشلي في الحب ويشكو لي فشله في الكره أيضاً، إذ كان يتمنى أحياناً أن يكره أحداً ما فيجد نفسه يحبّه... مجاز في رصيف22

وكنا نتحادث أحياناً عن العائلة والنساء، وأشكو له فشلي في فهم النساء، ويشكو لي فشله في الكره أيضاً، إذ كان يتمنّى أحياناً أن يكره أحداً ما فيجد نفسه يحبّه، أن يقتل أحداً ما فيجد نفسه يمنحه عمراً من سنواته القليلة، "الحياة مقلوبة"، كان يقول مشيراً بسبّابته إلى فوق: "مولانا الكبير شارف على الخرف"، ثم يضحك.

وكان يملك قبعة مضحكة، ويتحدّث بالفصحى أغلب الوقت، وكنت أردّ عليه بالفصحى أيضاً، لكن قبعتي كانت أكثر جديّة. قبعة كئيبين وذوي مزاج سوداوي كمزاج القطط، كان يضيف.

-2-

مرّة أيضاً مشيتُ في ذكرى الأسبوع لأحد الأنبياء الذي ظننتُ أنه صديقي الذي مات من القلق أو من الكحول، أو من القلق الممزوج بالكحول، وقلتُ في الحشد القليل الذي تجمّع يومها، كلماتٍ تشبه أنني أعرفه وأنني أحبه، أو أنه كان معي في غزوة "بدر" وتلقّى عنّي طعنة رمح، وقلت الأيام الناقصة في أيامي، وقلت لهم مصيري الذي ينقص أحياناً فلا أعرفه ويزيد أحياناً فلا يعرفني.

قلتُ لهم إنه كان يزورني أحياناً، وأنه وضع مرة يده على جبيني ليرى إن كنت محموماً أو مجرّد مهتاج فحسب، فضحكوا واعتبروني كذاباً خفيف الظلّ.

وتقلّص هواءٌ عن جبيني ووجدتُ نفسي في ذكرياتي عن نفسي، خفيفاً كالمدى الخفيف. وسمعتُ أحداً مثلي يتلقّى رسالةً من شخصٍ غامضٍ يأمره فيها أن يذهب إلى مأتم أحد الأنبياء، ويقول في الحشد القليل الذي سيتجمّع، كلمات مشابهة، ثم يذهب إلى الغابة ويقتل الأيائل، وأملتُ ألا يكون أحداً أعرفه أو يعرفني، أشبهه أو يشبهني.

ونهضتُ من يوم النبي الميت على فراشه أو المصلوب على أوتاد من خشب وردي، ونهضَ النبيُّ من يومي الكئيب أيضاً، وهو يتساءل عن الوقت وعن فنجان قهوته، وطوال الليل، كنتُ راقداً في سرير الميت، أشاهدُ أحلامَه وأقتلُ أعداءَه بحربةٍ مسمومة، أتكلّم بلسانه وأداعب زوجته، وكان يشبهني ويعرفني، وربما كان الميت أنا، طوال الليل.

-3-

ومرّة نهضتُ من كتابٍ قرأته أو فيلمٍ شاهدته، وتساءلتُ:  ماذا يفعل هذا الغريب في غرفة نومي، وكيف دخل إلى صوري على الجدران وصار ظلّه يشبه ظلّي وتسريحة شعره تشبه تسريحة شعري، وصار يتجوّل بملابسي بين الغرف، ويلاطف زوجتي بعباراتٍ كنت أستخدمها فيما مضى، ويمسك بثديها الأيسر ويعضّه كأنه تفاحة نصف ناضجة.

ثم نظر إليّ بخبثٍ واقترح أن نقوم بعلاقةٍ جنسيةٍ ثلاثية، "لا تخف. لن ألمسك"، قال ضاحكاً، وقال إن ذلك يحصل في الأفلام الأجنبية وفي الأدب المُترجم، وإننا شخصياتٌ روائيةٌ لا أكثر، والشخصيات الروائية تفعل هذا وتموت أحياناً ثم تحيا في صورة على جدار أو في آية في كتاب.

لا يوجّه لي حديثاً إلا من نوع "رتّب المائدة" أو "اصنع القهوة"، وكنت أطعمه وأسقيه كلما طلب، وأحكّ له ظهره الشبيه بجلد التماسيح، وكنت أتساءل عن جدوى ذلك، وكان ذلك بلا جدوى، إذ إنه ضاق بأسراري، وتذرّع بأنه سينزّه السلحفاة، وضحك ثم طار من النافذة

كان يتكلّم عن الزمن الغامض وعن الأخوة الأشقياء الذين يتركون أحدنا في محنته ولا يتحدّثون معه، ولا يوجّه لي حديثاً إلا من نوع: "رتّب المائدة" أو: "اصنع القهوة"، وكنت أطعمه وأسقيه كلّما طلب، وأحكّ له ظهره الشبيه بجلد التماسيح، وكنت أتساءل عن جدوى ذلك، وكان ذلك بلا جدوى، إذ إنه ضاق بأسراري وقصصي غير المضحكة و"تزمّتي الفظّ"، كما قال، وتذرّع بأنه سينزّه السلحفاة، وضحك ثم طار من النافذة، على حيوان أسطوري.

وصدّقته، وصدّقتُ أن شخصاً يستطيع أن يخرجَ من كتابٍ أو شاشةٍ، وأنه يطير إذا أراد وأن السلاحف تحتاج للنزهة حقاً، وأنه يمكن للرجال القادمين من الصحراء العربية أن يمتلكوا جلد تمساح، وكان الرجل الذي يحلم بأنه أنا، وكان مرمياً في صحراءٍ قصيةٍ، ويدّعي أنه رسول كائنٍ غامضٍ يعيش في سماء سابعة، أوصاه بأن يحلم، وأن يؤلّف كتاباً يسميه "التتمات الناقصة"، يبدأ بالبسملة وينتهي بالتصديق، وأن يستقيم ويعدل بين الكثبان.

ثم جاء الرجل إلى الحيّ الذي أقطنه، وأعجبه ما في شرودي من كآبةٍ وما في كآبتي من أعاجيب، وجلس على الشرفة، وظنّ أنه أنا، وأطال الإقامة في أيامي.

-4-

جاء ليقول حيرة نومه، وربما نام واحتار ماذا يفعل في نومٍ يشبه فيه رجلاً يشبهني، وقال إن زواره قليلون، وإنه يستعيض عن قلّتهم بالحديث مع النباتات، وإن نبتة الصبّار في الزاوية تحتاج لممارسة الجنس فوراً وزهرة الغاردينيا تكره لون الأصيص، وقال إن زائراً أخبره بالرسالة التي تتحدّث عن كتاب "التتمات الناقصة"، وإنه اختار ألا يوصلها، واختار ألا يقرأها حتى، رغم غضب الكائن الغامض الذي يسكن في السماء السابعة ويسمي نفسه "الله".

ومرة نهضتُ من كتابٍ قرأته  وتساءلتُ ماذا يفعل هذا الغريب في غرفة نومي، وكيف دخل إلى صوري على الجدران وصار يتجوّل بملابسي بين الغرف، ويلاطف زوجتي بعباراتٍ كنت أستخدمها فيما مضى، ويمسك بثديها الأيسر ويعضّه كأنه تفاحة نصف ناضجة

وإنه بهذا يقوم بما يتوجّب عليه، وإن زائره غضب وهدّد فلم يعبأ، وإنه نام بعدها ليجد نفسه مكاني وبصحبة امرأة جميلة وابنة صغيرة، فظن أنّه أنا، وابتسم مثلي وجلس على الشرفة.

-5-

حسبتُ أنه يخاف إن هدّدتُ بالذهاب، أو هدّدتُ بكسر الفازة البنفسجية، أو بالاستيقاظ من الحلم الذي أراه فيه يشبه رجلاً يشبهني.

ولم يخف، ولم يتزحزح عن الكرسي الخشب، ولم تغادره تلك النظرة التي تعني ألا أفعل إلا ما يفعله، وبالتالي أن أترك كل شيءٍ على حاله، وأن أكتفي بالصورة المعلّقة على الجدار، والتي تُظهر شخصان في المكان يعتنيان بالأسماك ويحملان العلامة نفسها، وحسبت أني إن رحلتُ سيرحل وإن ضحكتُ سيضحك، وجاهدتُ أن أرسم تلك الضحكة المجنونة على فمي لأخيفه فما قدرتُ، ونظرتُ إليه في اللحظة نفسها، فوجدته يغالب النوم، يداه معقودتان على صدره وقدمه تدحرج الفازة البنفسجية، على البلاط.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard