شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
فاكهة اللون التي تنبت طواعية

فاكهة اللون التي تنبت طواعية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 9 أكتوبر 202112:56 م

 الألوان المائية


كنت أعتلي قوس قزح، وأحاول أن أجمع ألوان حياتي في حزمة صفراء، من عيون الشمس. لا أعرف عن أي شمس كنت أتحدث؟ وأي نور ترسله هذه الشمس؟

آه. ترسله خفيفاً على العالم، أما أنا فتهدي لي باقة ملوثة من ظلمات قبر ساحق يسكنه جرذ أسود يسمى "حسناء".

هو ذاك اللون الأسود. هذا اللون المنبثق من قلوب البشر هو لا ينبثق باختيار صاحبه ولا يتقن الريمونت كونترول، لا ينتقل من وضع إلى وضع أو من مشهد إلى آخر بفعل الأصابع.

هذا اللون ينمو طواعية، كما تنمو "عشبة الحرّيقة" الطفيلية في بساتين الورد الذابل.

كانت لي عمة شديدة القلب وقصيرة النظر، كانت عمتي، تغدق سوادها على الجميع. عمتي تدعى حسناء، ووجهها يشبه الورق "الأحرش" الذي يستعمله عامل البناء في حك الحائط.

لكن حسناء كان فيها، منذ بداية وعيي بها، شيء من الحك، أعتق جلدي بأنواع القرص.

بكيت طويلاً من الأوجاع، وآلامي أجمعها في اللون الأسود تحديداً وأنا أراقب فحمها الذاوي والمشتعل. علاقتي بهذا اللون السحري تجاوزت حسناء بأشواط إلى حبيبي.

كان حبيبي رجلاً وسيماً له من ملامح الرجولة ما يفتقده الذكور، كان يترقب فاكهتي بشهوة غامرة وكنت أجدد الثمار بألوانها وفصولها، مع كل حضن يرميني به، وفي ساعات التعري من كل قيد، كانت الآلهة تكسونا بنخب الدوالي المفروشة في البساتين، تنتظر قبلات الحب المنشودة بنيران الفرح وكؤوس الغبطة .

وكنت طفلة في أحضان حبيبي الكبير بلا سور أسود، حرة بلا قيد نتذوق ثمار رغبتنا وشوقنا وجنوننا.

كنت أرى الثلج وأبسطه في قلبينا حتى يفر إلى الماء، ذلك العظيم الذي ينساب بلا اعتبارات ولا حدود ولا تصريح بشري.

ذلك الذي يتبع كهرباء الجسد هو شعور اللذة والنشوة ينساب ثلجاً بارداً يغطي الأرض، فتقف عن دورانها ونصمت للحظات.

ياااه. عبق الروائح المختلطة بأنفاس عشقنا الهستيري، يزيح عن الكون تقاليده كما أزحنا عن أجسادنا أشلاء العقد المختنقة بحناجر حكماء الأرض، ما أذلهم في حضن حبيباتهم وهم ينكحون بعضهم البعض تحت غطاء أبيض، وكأنهم في موسم الكفن.

ياااه. عبق الروائح المختلطة بأنفاس عشقنا الهستيري، يزيح عن الكون تقاليده كما أزحنا عن أجسادنا أشلاء العقد المختنقة بحناجر حكماء الأرض... مجاز في رصيف22

كان حبيبي عارياً أكثر إشراقاً من تلك الشمس المخبأة في ضجيج السحب البيضاء، وكنت الماء الذي يدير السواقي والأنهر العذبة.

ياااا لبياض الحب والعناق والقبلات الهائمة في عبق الروح الموشاة باللون الزهري وأزرق الورد.

حينها كانت الدقائق تمر في سباق غريب، من الضروري أن يكون زمن الحب سهلاً وأفقياً، أسرع من نبض القلب. الزمن ليس ساذجاً كما الألوان.

الألوان ساذجة، كانت بمثابة أقحوانة برية بأحمر الأنفاس الملتهبة في نار الحب والشوق، صارت باهتة ثم تحولت سريعاً إلى جرذ "حسناء".

اختنقت زهور الشوق الوردية وارتبك الأحمر الساخن فأفسد قوت اللهفة والحنين، وضمرت العلاقة المتوهجة بل انطفأت، وغدا هذا الكون الشرير مثله مثل ثعبان مرقط، يحمل كل الألوان الناصعة على جلده مقابل الالتواء والعض.

كنت أوثق كل اللحظات الساخنة بنيران اللون، اللون الذي أهدته لي حسناء، واللون الذي سرقه مني حبيبي، وأسقطته في مزاريب العلب الليلية وفي مضائق البلدة وأحيائها، وما زلت أتنفّس كما يتنفس البنفسج أحمره وأزرقه .

ذات خريف نبتت ورقة صفراء على كتفي، وسقيتها من ريح الشهوة. كنت عبقة بعد رحيل المصطافين وتركهم بحر وجودنا.

كنت أنظف من ماء البحر المالح المطهر بالضوء الأصفر والمغيب الأرجواني، كنت بصحة جيدة، أقابل الوجوه القديمة بابتسامة خضراء يانعة، فجأة رأيت شخصاً يجيء على عجل. رفع معي أفق شحوبي وأدار الخريف إلى ناحية أخرى، وأسكنني في صحو ربيعي.

كان يزرع ورق النعناع على شفتي وكنت أتذوق شهد القبل، كان يجلي السواد من خطوي البائس حتى خلته القمر وقد أفنى وجوده على سطح الأرض، مسجى على ربوة. كنت الربوة التي أينعت قمري وكان وفياً أكثر من نفسي لنفسي، حتى خطفه اللون الأبيض وسقاه ملك الموت رحيقاً خيالياً لم أذقه بعد .

توقفت حينها عن فعل العشق، وعدت أكتب ثلاث رسائل يومية بخط لا يفهمه غيري. رسالتي الأولى كانت لـ "حسناء" السوداء، ورسالتي الثانية لحبيبي صاحب الليالي الحمراء أما رسالتي الثالثة فهي لقمري .

ما زلت أكتب الرسائل حتى وضعت يدي على فواتح الكلام، وتواريخ تئن من وجيعة القهر والغدر والفراق، قررت ذات يوم أن أتخلص من كل هذه الرسائل مرة واحدة في يوم شتوي.

كانت السماء مغطاة بلون الرصاص، محشوة بالأمطار تتأهب النزول.

اشتهيت الترجّل وحقيبة الرسائل على كتفي. كنت أمشي، أمشي بلا هوادة. وصلت إلى مكان خال من أي ضجيج، جلست ودخنت سيجارتي، وبقيت أتأمل كم الأوراق البيض وأنا أسرح بخيالي ناحية الأخبار المدونة في جوفها، تخيلت لوهلة أن لكل رسالة أحشاء نتنة مثل الخرفان والبشر، وأن لرسائلي ريحاً فاسدة وبرازاً...

كانت الصورة قاتمة ومقززة ،أكرّرها كي أتخلص من هذا العبء بسهولة.

أحببت اللعب مع الألوان. وكنت دائما أترقب لوناً لم يوجد ولن يوجد، لوناً لم يفز بي، لفحت الأجساد بكل نزواتي ولم يجدني، قبلت الشفاه والأعضاء ولم يجدني، فتحت بوابات الحكمة ولم يجدني... مجاز في رصيف22

أشعلت قداحتي في الأوراق ونظرت إلى رصاص السماء، فخلته يمتثل على الأرض بكل نيرانه وهو يلتهم حياتي المدونة في أوراق الرسائل الملونة بالأحداث والمغامرات.

أحببت اللعب مع الألوان. وكنت دائما أترقب لوناً لم يوجد ولن يوجد، لوناً لم يفز بي، لفحت الأجساد بكل نزواتي ولم يجدني، قبلت الشفاه والأعضاء ولم يجدني، فتحت بوابات الحكمة ولم يجدني، جربت أن أكون الأميرة الناعسة على القطن الأبيض الناعم ولم يجدني، قررت أن أرابط على الماضي فانفلت.

أنتظر بياضاً يلتئم مع سوادي وسواداً يلتئم مع بياضي، لكني نسيت أن اللون الأسود ساح كله على ركبتي، وألف السجود قريباً هنا... وبعيداً هناك .


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard