حين سُئل يوسف شاهين، في لقاء قديم على التلفزيون المصري، عن "نجوم الزمن الجميل"، وكيف أنّهم غير قابلين للتكرار، ردّ شاهين: "ليه، يتكرروا عادي، ومش لازم يتكرروا، زمان كنّا مش بطّالين، لكن دلوقتي أحسن، بلاش تقطعوا الأمل عن الشباب".
تذكّرت تلك الإجابة، حين قرأت تصريحات أحمد السقا الأخيرة، في مهرجان الجونة، والتي قال فيها إن السينما المصرية، منذ عام 1967، عانت من حالة اختناق، حتى فيلم "إسماعيلية رايح جاي" 1997، الذي فتح آفاقاً جديدة، وهي تصريحات فتحت النيران على السقا، إذ رأى كثيرون أن هذا انتقاص من حقبتَي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ووصل البعض إلى اتهام جيل السقا بالكامل، بأنه "فاشل"، ولن يستطيعوا إنتاج فيلم واحد من أفلام "حقبة الاختناق". أما مواقع التواصل الاجتماعي، فصنعت قائمة بأعظم أفلام الحقبتَين، كدليل على خطأ السقا.
تلك الحالة من رفض مسّ الماضي بأي سوء، وكراهية الحاضر، هي ما سيطر على كثيرين أيضاً، حين تعطّلت تطبيقات فيسبوك، وإنستغرام، وواتسآب، قبل أيام، وتحدّث أناس كثر عن العودة إلى ما قبل السوشال ميديا "التي خرّبت النفوس"، وقطعت أواصر الرحم. ومن أقرّ بفائدة التكنولوجيا، كانت وجهة نظره أنها الحاضر المقيت الذي أصبح لا غنى عنه. والسؤال الآن، هو لماذا نرى الحاضر دائماً قبيحاً مقارنة بالماضي؟
قبل أيام، تحدّث أناس كثر عن العودة إلى ما قبل السوشال ميديا "التي خرّبت النفوس"، وقطعت أواصر الرحم. ومن أقرّ بفائدة التكنولوجيا، كانت وجهة نظره أنها الحاضر المقيت الذي أصبح لا غنى عنه. والسؤال الآن، هو لماذا نرى الحاضر دائماً قبيحاً مقارنة بالماضي؟
وفي رأيي أن تقديسنا للماضي، سواء في الأعمال الفنية أو غيرها، لا يتعلق بجودة تلك الأعمال، بل بما تجسّده لنا، من الناحية الشخصية، وتالياً حين نحنّ إلى أي عمل فني قديم، نشعر بالحنين، في الأساس، إلى ذاكرتنا التي ارتبطت به، تماماً كالذي يعشق أغنيةً لأنه سمعها للمرة الأولى مع حبيبته. تظل الأغنية مفضلةً لديه، حتى لو كانت رديئة المستوى. وتماماً كما أحببنا أفلاماً، لأنها مرتبطة في وعينا بجلسات الأهل الحميمة، ما قبل الإنترنت. في النهاية، لا علاقة للأمر بجودة المحتوى، إنما بنا نحن.
ومن تلك القاعدة أيضاً، فإن انتقادنا للسوشال ميديا، ليس أكثر من حنين إلى ماضٍ كنا نجلس فيه مع أهالينا، وذوينا، أكثر، لكننا بتنا لا نستطيع الآن، بسبب الانشغالات في الحياة، أو ربما غيرنا ما زالوا يفعلون ذلك. المهم، أن هذا الانتقاد لا علاقة له بالتطور التكنولوجي، ومميزاته، وعيوبه.
لكن، بعيداً عن هذا الحنين الشخصي، يمكنني التأكيد بأن الحاضر دائماً أفضل من الماضي. وحتى لا يكون في رأيي أي تحيّز، صحيح أن الحاضر فيه الكثير من العبث، لكن الماضي أيضاً، فيه الكثير من العبث، لكننا لا نحب ذكر ذلك. وفي مجال السينما، بما أنه محور الحديث، فإن حقبة الثمانينيات هي من شهدت ظاهرة "أفلام المقاولات"، التي كان يتم تصويرها في أسبوعين، أو ثلاثة، بقصص ضعيفة، وإخراج هزلي، من أجل تصديرها على شرائط فيديو إلى دول الخليج المتعطشة للفن المصري، في ذلك الوقت.
وكما كانت هناك أفلام عظيمة في الماضي، هناك أيضاً أفلام عظيمة في الحاضر، وبالنسبة إلى ذوقي الشخصي، فأفلام مثل "هي فوضى، وفبراير الأسود، والسلم والثعبان، والجزيرة"، جميعها تفوقت، إخراجاً وتمثيلاً، على أفلام الماضي التي يُطلق عليها "الروائع".
وإذا كانت سمة أي عصر، أنه يوجد فيه الجيد والرديء، فإن الحاضر يُمنح الأفضلية دوماً، وذلك لأن الحاضر هو نتيجة تراكم المعارف الإنسانية السابقة، والتعلّم من أخطاء السابقين، وتالياً فإن أي فنان اليوم، لديه من المعارف والخبرات ما يفوق فناني الماضي بمراحل، سواء من الناحية المعرفية، أو من ناحية تقنيات التصوير، وغيرها.
كما أن الحاضر أيضاً فيه من التطور التكنولوجي ما لم يكن موجوداً قبله، وهو ما يعني قدرةً أكبر على التنفيذ والابتكار، وربما هذا ما قصده السقا في تصريحاته عن أبناء جيله الذين استفادوا من تكنولوجيا لم تتوفر للسابقين. وخارج الفن، فإن هذا التقدّم هو ما جعل حياتنا أسهل، من خلال التواصل السريع، والقدرة على إنجاز الأعمال، بأقل قدر من الوقت.
إن مشكلة تجديد الخطاب الديني، في رأيي، هي في تلك الفجوة بين تقديس الماضي، وعدم الاعتراف بالحاضر، في حين أن الماضي نفسه غير قادر على حل مشكلات الحاضر، وليس أصدق على ذلك من تجريم بعض الفتاوى التي سادت فتراتٍ طويلة
تلك القاعدة لا تقتصر على الفن فحسب، بل على مجالات الحياة كافة، فالدعاة اليوم الذين يتعاملون مع مواقع التواصل الاجتماعي، وأفكار الشباب وشكوكهم، بالطبع لديهم من المعارف الإنسانية ما يفوق أئمة المذاهب الإسلامية الأربعة الذين تعاملوا وفق آليات عصرهم التي انتهت، بل إن مشكلة تجديد الخطاب الديني، في رأيي، هي في تلك الفجوة بين تقديس الماضي، وعدم الاعتراف بالحاضر، في حين أن الماضي نفسه غير قادر على حل مشكلات الحاضر، وليس أصدق على ذلك من تجريم بعض الفتاوى التي سادت فتراتٍ طويلة.
وأخيراً، إن خطورة عدم الاعتراف بالحاضر على حساب الماضي، لا تتوقف عند حدود وجهات النظر، لكنها من ناحية، تجعلنا غير قادرين على مراجعة أنفسنا، والتعلم من أخطائنا، ومن ناحية أخرى، تُبخَس أجيال جديدة حقها في صنع نفسها، تماماً كما أوضح يوسف شاهين بقوله: "متقطعوش الأمل"، خاصةً أن حاضرنا هذا الذي نعيبه، هو ماضٍ جميل لأجيال مقبلة، تماماً كما كان ماضينا الذي نقدّسه الآن، حاضر أجيال سابقة، رأته قبيحاً، وهكذا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...