شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كارل ماركس يفشل في تفسير معارك مهرجان الجونة

كارل ماركس يفشل في تفسير معارك مهرجان الجونة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 19 أكتوبر 202112:39 م

لا يكتسب مهرجان سينمائي في مصر شهرة أكثر من مهرجان الجونة. لا يهتم المتابعون كثيراً بالمحتوى الفنّي والسينمائي الذي يقدّمه المهرجان، ولا تُناقَش أهم أفلامه في المساحات العامة، لكن الضوء يسلَّط على أزياء الفنانات المشاركات ومدى خرقهنّ للقواعد المحافظة المنتشرة بين ملايين المصريين.

الحدث الثقافي تحوّل إلى ميدان معركة، تتصادم فيه القيم بين قطاعات متباينة من المصريين. هوجم المهرجان بحشد كبير من الحجج الدينية والخطابات السلفية والشعارات المحافظة، وظهر التوعد بنار الآخرة، والتحسر على قيم المجتمع...

ماركس يفشل في التفسير

يحلو للبعض تفسير الصدام القيمي على أنه نتاج صراع طبقي بين طبقة تمارس مظاهر الثراء وطبقة لا تملكه. لا يخلو الأمر من وجاهة ومنطق، وربما يكون الدافع الطبقي هو الدافع المحرك للبعض للهجوم اللاذع. لكن يعجز التفسير الطبقي عن تفسير ظواهر موازية تحدث في المهرجان نفسه.

فلو كان الأمر مرتبطاً بالصعود الطبقي غير المنضبط، لكان شيوخ السلفية والدعوة أولى بالاستهداف. لكن مظاهر وأنباء الثراء والتعالي الطبقي للدعاة ليست مادة غنية للجدل أو "التريند" لدى المصريين.

يظهر الهجوم على مهرجان الجونة كمشهد من عدة مشاهد لا يمكن عزلها بعضها عن بعضه. تشهد مصر حوادث متفرقة للاعتداء على المخالفين على منظومة القيم المحافظة في طبقات متباينة وفي أماكن مختلفة كان آخرها رواية الاعتداء على صيدلانية في محافظة الشرقية.

ووفقاً لرواية الصيدلانية الشابة إيزيس مصطفى، كانت هدفاً لتحرش تأديبي من زميلاتها المحجبات واعتداء جسدي في قرية كفر عطالله في محافظة الشرقية، لأنها غير محجبة. لا صراع طبقياً بين إيزيس وزميلاتها، ولكن تصادم قيم أدّى إلى صدام عنيف.

في مشهد آخر، تنعي إحدى الجرائد المحلية الأنبا كاراس "الأسقف العام للمحلة"، فيتحول الخبر إلى ساحة تراشق وسخرية يشارك فيها مئات لا يبدو أن بينهم أي شكل من أشكال الصراع الطبقي.

تبدو الظواهر متباينة، لكن ثمة رابط يربطها غير التفسير الماركسي للأمور. لا يمكن أن نستحضر ماركس لتفسير كل الظواهر. كما لا يبدو الصراع الطبقي تفسيراً منطقياً للأحداث ولا للحشد الخطابي الديني والقيمي المبالَغ فيه الذي يبدو أنه عابر للطبقات ومنتشر بينها.

إسلاموية بغير إسلاميين

تعرّض تيار الإسلام السياسي إلى هزيمة سياسية مروعة عام 2013، لا أظن أنه سيخرج منها كما دخلها. فقد تراجع الدعم الشعبي للإخوان وحلفائهم السياسيين. وبعيداً عن أسباب هذه الهزيمة التي ربما يكون بعضها متعلقاً بتيار الإسلام السياسي ذاته وبعضها متعلق بطبيعة خصومه في معركة 2013، فإن أي متابع محايد لا يمكن له أن ينفي أن هذه الهزيمة واقع حقيقي وليست خيالاً حكومياً مُصنعاً.

لكن، وبالرغم من تلك الهزيمة، يمكننا الآن أن نرصد ما يمكن أن نسميه بظاهرة "الإسلاموية بغير إسلاميين". فنظراً للطبيعة العاطفية للأفكار الدينية، نجح التيار الإسلامي في تمرير أفكاره داخل بنية المجتمع وقيمه دون أن ينجح في تمرير أفراده إلى السلطة. مرّت القيم لأن لها طبيعة سائلة يمكن أن تحملها روافع خارج الحزب أو المنظمة بمعناها السياسي، أي أن الإسلاموية نجحت كحركة وفشلت كتنظيم.

"يمكننا الآن أن نرصد ما يمكن أن نسميه بظاهرة ‘الإسلاموية بغير إسلاميين’. فنظراً للطبيعة العاطفية للأفكار الدينية، نجح التيار الإسلامي في تمرير أفكاره داخل بنية المجتمع وقيمه دون أن ينجح في تمرير أفراده إلى السلطة"

لكن كيف حدث هذا؟

في بداية ظهورها، تسلحت الحركة الإسلاموية بكل أسباب القوة الثقافية والتنظيمية والمالية وحرية الحركة، ما أورثها عدوانية القوة. فتوافُر القوة يغري دوماً باستخدامها. وفي ظل خطاب عدواني دشّنه الشيخ عبد الحميد كشك وتبعه فيه آخرون، صُبغ المزاج الشعبي بروح أكثر عدوانية تجاه الرموز الفنية والثقافية لحقبة الستينيات والخمسينيات، وعلى رأسهم السيدة أم كلثوم التي كانت هدفاً دائماً لشتائم ووعيد الشيخ الذي علّق على غنائها بقوله: "عرش الرحمن يهتز له غضباً".

كما ساهمت الثقافة الريفية -التي تمددت في مصر بعد أن فقدت مدنها طابعها الكوزموبوليتاني وتنوعها الثقافي، بعد رحيل الجاليات الأجنبية عنها في الخمسينيات والستينيات- في تشجيع عدوانية الحركة الإسلامية ضد الاختلاف الديني والثقافي والمجتمعي.

انتعشت الإسلاموية الثقافية في مصر في النصف الثاني من حقبة حكم حسني مبارك وانصاع الفن لأحكام الثقافة السائدة. الحركة الفنية في مصر نفسها أصبحت مادة للتعقب الوعظي والديني، وتبنى أبناؤها خطاب التوبة عن الفن بما يوحي بهزيمة داخلية عميقة سببتها الإسلاموية الثقافية للحركة الفنية في مصر.

حركة مضادة لكن ضعيفة

بعد الهزيمة السياسية للإسلاموية السياسية، ظلت الإسلاموية الثقافية مسيطرة بين جماهير تشبّعت بخطاب أحادي قوامه التحقير والسباب والعدوانية أو حتى الاستهداف العنيف لأي بوادر تمرد تظهر داخل الأسرة المصرية، كما في ظاهرة تعنيف البنات والمراهقات لخلعهن الحجاب أو رفضهن ارتدائه.

"بعد الهزيمة السياسية للإسلاموية السياسية، ظلت الإسلاموية الثقافية مسيطرة بين جماهير تشبّعت بخطاب أحادي قوامه التحقير والسباب والعدوانية أو حتى الاستهداف العنيف لأي بوادر تمرد تظهر داخل الأسرة المصرية"

لكن على ما يبدو، شجّعت الهزيمة السياسية قطاعات من المصريين لمحاولة مواجهة الخطاب القِيَمي المنتشر سواء عن قصد أو عن غير نية مسبقة. فانتشرت ظاهرة خلع الحجاب ووصلت إلى الطبقة الوسطى. كما لعبت مناقشات مواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة دوراً في كسر التابوهات التي صنعتها الحركة الإسلاموية، فنوقشت مفاهيم لم يكن مسموحاً مناقشتها من قبل مثل حدود الحرية، ومساحة الخصوصية، ومركزية السلطة الدينية، وبشرية التشريع لا قدسيته، وحرية الملبس، وتعرضت مقولات الإسلاموية الثقافية حول المرأة بما فيها فرضية الحجاب نفسها إلى المناقشة.

بل إن داعية شهيراً مثل عبدالله رشدي تعرض لحملات من النقد الشديد بعد ربطه بين ملابس النساء وظاهرة التحرش، وهو مشهد لم يكن ليحدث في حقبة الثمانينيات التي خرج منها الشيخ محمد متولي الشعراوي (الذي يحمل خطاباً قريباً إنْ لم يكن أكثر تشدداً من رشدي) منتصراً في كل معاركه حتى مع قامات فكرية وثقافية كبرى مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود.

خلقت هذه المناقشات حركة مضادة تُبنى على مهل، ولكن تُحدث أثراً. ربما يكون من المبكر جداً الحكم على هذا الأثر ومدى تأثيره ومدى عمقه، لكنه يعبّر عن تغيرات اجتماعية تحدث في مصر تصاحب التغيرات السياسية الكبرى.

لذا، تظهر الحركة الإسلاموية والحركة المضادة لها الآن على أنهما على طرفي صراع ثقافي واجتماعي تُختار له معارك شبه يومية ومعارك موسمية. يظهر مهرجان الجونة كمهرجان يحاول أن يستنسخ المهرجانات العالمية لكنه ما زال متوسط القيمة من الناحية الفنية ولا يجذب أعمالاً سينمائية كبرى ولا نجوماً عالميين لهم وزن في الحركة السينمائية العالمية.

وربما يمارس القائمون على المهرجان استفزازات طبقية تثير حفيظة البعض، لكن لا تصلح هذه الاستفزازات لتفسير ظاهرة جدلية المهرجان التي تتخطى قيمة المهرجان نفسه. فقد وجد المهرجان نفسه في قلب معركة ثقافية بين الإسلاموية الثقافية والحركة المضادة لها. وهنا لا يمكن فصل الظواهر عن بعضها، فمظاهر هذا الصراع متنوعة. ربما تظهر يوماً حول مهرجان سينمائي متوسط القيمة، وربما تظهر في تعليقات على خبر عابر في جريدة محلية حول وفاة أحدهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard