مع التغيرات الاقتصادية التي طرأت على مصر، بداية فترة الألفينات، ظهرت مجموعة من الدعاة الجدد، أبرزهم عمرو خالد، فقام الكاتب والصحافي وائل لطفي بإجراء تحقيق صحافي لمجلة "روز اليوسف" عن نوعية الجمهور الذي يتزاحم على دروسه في مسجد المغفرة في منطقة العجوزة.
لاحظ لطفي تظاهرة للسيارات الفاخرة تكشف عن جمهور له طابع وانتماء طبقي معيّن، وتلمّس ملامح مشروع ديني يخاطب "النخبة"، سواء في شكل الجمهور أو في نوعية الخطاب "الشبابي"، فقد تحدث خالد إلى جمهوره في شريط كاسيت بعنوان "الشباب والصيف" داعياً إيّاهم إلى ذكر الله في "مارينا".
كان الأمر بمثابة "خلطة من التنمية البشرية والدين والإرشادات للمراهقين، لكنه موجّه للنخبة الاقتصادية"، يقول لطفي الذي لفت انتباهه أيضاً أن الشركة التي تنتج لخالد مملوكة من لاعب كرة قدم يُدعى تامر النحاس، ما يعني أن هناك تشابكات وتداخلات عديدة بين الرياضة والفن والنخبة.
قبل ظهور عمرو خالد، كان مناصرو الحركات الإسلامية ينتمون إلى المناطق الشعبية، وكان الشائع أن الانتماء إلى تلك الحركات هو "صرخة ضد الفقر والتهميش في جنوب مصر، وأحياء القاهرة العشوائية".
ارتفعت مبيعات مجلة "روز اليوسف" إثر التحقيقات الصحافية التي تتناول ملف الدعاة الجدد والجماعات الإسلامية، لكنها في نفس الوقت أغضبت الجمهور المصري، فشُنّت حملة على المجلة وطالب كثيرون عبر اتصالات هاتفية بعدم التعرض لشيخهم عمرو خالد، وهو ما أضفى انطباعاً لدى وائل لطفي بأن جمهور خالد منظم.
تجاهل الكاتب موجة الغضب، وتابع بأربع تحقيقات مدعومة بالمعلومات والتحليلات، رواية قصة اختطاف الدين لصالح طبقات النخبة.
وفي الوقت الذي كان عمرو خالد ينفي انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين، بتحركه داخل أوساط أسر غالبيتها تتشكل من مسؤولين أمنيين وأعضاء في الحزب الوطني ورجال أعمال، تواصل لطفي مع أعضاء منشقين من الإخوان المسلمين، وتحدثوا له عن انتماء خالد السابق للجماعة، فقد كان رئيساً لاتحاد طلاب كلية التجارة بصفته كادراً مهماً من كوادر الجماعة، بالإضافة إلى توليه رئاسة الحملة الانتخابية للمستشار مأمون الهضيبي، مرشد عام الجماعة.
وتزامن ذلك مع اتصالات هاتفية من زوجات مسؤولين كبار في الدولة طالبوا فيها بالتوقف عن الهجوم على خالد، ما أعطى الكاتب فكرة عن علاقة جديدة بين الإسلاميين والسلطة.
لاحظ لطفي تطابقاً بين مشروع عمرو خالد وبين جماعة الإخوان المسلمين، من حيث اهتمامها بتغيير فكر الأفراد، وهو ما يخدم مشروعها القائم على تغيير الفرد ثم الأسرة ثم المجتمع ثم الدولة، ويحقق لها مكاسب سياسية.
كان خالد ينظم ندوات ودروساً دينية يحضرها عشرات الآلاف في الوقت الذي لم يكن باستطاعة أي حزب مصري تنظيم مؤتمر إلا بتصريح أمني، وفي النهاية لا يزيد عدد الحاضرين عن مئات الأفراد بمقتضى قانون الطوارئ الذي يشترط حضور 500 فرد على الأكثر.
توقفت تحقيقات لطفي الصحافية بفعل الضغوط التي واجهها، وخرج عمرو خالد وقتها من مصر، ودعمته مجموعة كبيرة من رجال الأعمال، وساهم انتشار القنوات الفضائية عام 2002 في مضاعفة تأثيره على الجمهور العربي.
على خلفية شهرة عمرو خالد، ظهر دعاة كثر، بعضهم نافسه في طرحه الديني، وبعضهم خالفه، أشهرهم صفوت حجازي الذي قدّم نفسه وقتها على أنه "لا يهتم بالسياسة"، ولا تشغله سوى قضايا الإسلام الاجتماعي، وكان هذا الاتجاه لا يثير ريبة السلطة، لكنه يفتح له المجال للوصول إلى أكبر عدد من الشباب، وأسلمة الحياة والمجتمع بشكل عام دون الدخول في تفاصيل سياسية، بالإضافة إلى تحقيق أرباح مادية من بيع شرائط الكاسيت.
وكان من بين هؤلاء الدعاة الداعية حازم صلاح أبو إسماعيل الذي قدّم نفسه أيضاً كداعية يهتم بقضايا اجتماعية بعيداً عن السياسة.
أصدر لطفي كتابه الأول "الدعاة الجدد" عام 2005، وفيه كشف عن أفكار هؤلاء الدعاة، وبعدها بعشر سنوات ألحقه بكتابه الثاني "دعاة السوبر ماركت"، وهو دراسة في فكر الدعاة السلفيين، وأخيراً أصدر قبل فترة قصيرة "دعاة عصر السادات"، وهو بحث تاريخي في ظهور الدعاة الجماهيريين بداية من محمد متولي الشعراوي وعبد الحميد كشك، ودورهم في أسلمة المجتمع المصري وإعطائه طابعاً لم يكن موجوداً في فترة الستينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وربط ذلك بمرورهم المؤقت على جماعة الإخوان المسلمين.
كان لنا مع الكاتب والصحافي وائل لطفي، رئيس تحرير جريدة "الدستور" المصرية حالياً، هذا الحوار:
الدولة المصرية "الرسمية" تحالفت مع جماعات الإسلام السياسي ومشايخها، وتركت لهم مساحات يتحركون فيها. كيف تمت هذه التحالفات وإلى ماذا انتهت؟
في فترة السبعينيات، تحالفت الدولة مع الإخوان المسلمين لتكوين جبهة ضد تيار اليسار المصري، لكن ذلك أدى إلى تواجد وسيطرة الجماعة، وانتهى باغتيال (الرئيس المصري الأسبق أنور) السادات. وبوصول (الرئيس المصري الأسبق محمد حسني) مبارك، كانت هناك مجموعة من العوامل، أولها أن الدولة كانت في حالة وهن وضعف، بجانب ميله هو نفسه إلى المهادنة والتوازنات، بجانب أيضاً الظرف الإقليمي الذي كان يستدعي وجود الجماعة، إذ كان مبارك امتداداً لحكم السادات رغم تباين مزاجيهما السياسيين.
أما الشيخ (عبد الحميد) كشك، فكان موظفاً في وزارة الأوقاف، يلتزم عمله الرسمي، لكنه كان يلقي خطباً دينية يمكن استخدامها لمصلحة الدولة في عصر السادات، فمثلاً وقت توتر العلاقة بين السادات والبابا شنودة، شنّ هجوماً على المسيحيين، وربما رأت الأجهزة الأمنية أن هجومه عليهم سيؤدي إلى تراجعهم عن بعض التطرف، إذ لم يخلُ المسيحيون من بعض المتطرفين في فترة السبعينيات، فلا دين يخلو من المتطرفين. كما أدى دوره في تمهيد الأرض للإخوان المسلمين وشارك في تشويه اليسار.
واتُّخذت ضد كشك قرارات حينما كان يتجاوز سياسات الدولة، إذ حُقق معه بتهمة الترويج للفتنة الطائفية ومُنع من الخطابة. فالدولة المصرية الرسمية استخدمت كشك و(محمد متولي) الشعراوي، مثلما خضعت لنفوذهما الديني والجماهيري.
مبارك قرر مهادنة الإسلاميين... وسمح للإخوان المسلمين بالتواجد في النقابات المهنية، والسيطرة على الجامعات، وكوّنوا ثروات طائلة من نشاطهم الاقتصادي طوال النصف الأول من حكمه. ومع بداية عام 1995، بدأت الضربات الخفيفة توجع قليلاً ولا تقتل، إذ وُجّهت للجماعة قضايا كانت تنتهي بأحكام مخففة من ثلاث إلى خمس سنوات، اتُّهم فيها ربع أعضاء مكتب الإرشاد، بهدف استنزاف مجهودها جزئياً، وشغل قياداتها عن العمل السياسي.
"اخترق الدعاة الجدد السلطة، وكانوا بمثابة نقطة التقاء بين ثلاث جبهات: الإخوان والحزب الوطني ورجال الأعمال... وكان من السيناريوهات أن يؤدي عمرو خالد دوراً سياسياً يخدم فيه مصالح الجبهات الثلاث"
وهنا، في هذه المرحلة، اخترق الدعاة الجدد السلطة، وكانوا بمثابة نقطة التقاء بين ثلاث جبهات: الإخوان والحزب الوطني ورجال الأعمال... وكان من السيناريوهات أن يؤدي عمرو خالد دوراً سياسياً يخدم فيه مصالح الجبهات الثلاث.
أما حالياً، فالدولة المصرية الرسمية، في تقديري، تدعم السياسات الدينية القائمة على دعم دعاة الأوقاف وعدم إتاحة الفرصة للدعاة الذين يخدمون أفكار الإرهاب، أو أفكار الإسلام السياسي، هذا بجانب الوعي النقدي الذي تكوّن لدى الجمهور، ما مكّنهم من كشف زيف هؤلاء الدعاة، مثلما ظهر في ردّ الفعل على إعلان عمرو خالد لـ"الدواجن". ولجأت الدولة إلى مشاريع اقتصادية تحسن من حياة المواطنين، ما يغلق المنافذ الجماهيرية أمام الدعاة المتطرفين، ويساهم في الابتعاد عن أسلمة المجتمع.
قلت، لو أن جمال عبد الناصر هو الذي أجرى المصالحة مع الإخوان المسلمين، كان سيجريها بشكل آخر. كيف؟
الرئيس عبد الناصر كان سيعرض مصالحة تكون فيها يد الدولة هي العليا، عكس ما فعل السادات الذي فتح لهم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى أقصى درجة، وأكلموا دورهم بعد ذلك في عصر مبارك.
هل ترى تشابهاً أم اختلافاً بين تديّن الحاكم والخطاب الدعوي لمشايخ عصره؟
ليس ثمة علاقة بينهما، لكن التشابه قد يكون في السياسات العامة للدولة في عهده. الرئيس عبد الناصر قرر ألا تترك الدولة مساحة لجماعة الإخوان المسلمين، ورفض فكرة دخول الدين في السياسة، وملأ الفراغ بإذاعة القرآن الكريم، وطور جامعة الأزهر الشريف لتخريج دعاة يوفدهم إلى إفريقيا، بعد إجادتهم لمهن بجانب كونهم دعاة. أما تدينه فليس له علاقة.
من جانب آخر، قرر السادات مسبقاً أن يقحم الدين في السياسية، وتحدث عن "دولة العلم والإيمان" واستخدم الإخوان المسلمين لأقصى درجة، بينما لم تكن لمبارك ممارسات دينية، فهو لم يكن متديناً سوى التدين الشعبي، على الرغم من تحقيق الإسلاميين مكاسب سياسية واجتماعية واقتصادية إلى أن أسقطوه في النهاية.
والرئيس عبد الفتاح السيسي، رغم أنه رجل صوفي، إلا أنه لا يسمح لجماعات الإسلام السياسي باستغلال الدين، وتتولى الدولة في عهده مسؤولية بناء المساجد، ورعاية دعاة معتدلين، بهدف عدم ترك فراغ تملأه هذه الجماعات، وتستغل تدين الشعب المصري الفطري.
إذاً المسألة لها علاقة بالسياسات التي يعتمدها الرئيس تجاه الجماعات الدينية، بعيداً عن مدى تدينه من عدمه.
ظهر الشيخ الشعراوي في صور فوتوغرافية مع رجال أعمال... كيف ترى علاقة الدعاة برجال الأعمال، هل هو تحالف الدين مع المال فقط وتحقيقٌ لمصالح ذاتية، أم تخطى الأمر ذلك؟
بطبيعة الحال، رجال الأعمال بعضهم ذوو ميول محافظة دينياً، وبعضهم متعاطفون مع الإخوان، وبعضهم إخوان أصلاً، ومنهم مثلاً، رجل الأعمال البارز عثمان أحمد عثمان الذي كانت ميوله إخوانية لكن أعماله التجارية شغلته عن أداء دور مؤثر، غير أنه كان يعيّن أفراداً من الجماعة في شركاته التجارية، وكوّن جزءاً من ثروته في المملكة العربية السعودية وقت كانت تأوي الإخوان المسلمين وتستخدمهم.
وأدى قرب عثمان من الجماعة إلى تدخله في صلحهم مع السادات الذي تزوجت ابنته ابن عثمان، وشكّل واسطة بين السادات ومجتمع المال والأعمال وبينه وبين الإخوان المسلمين، لكن لا ينطبق هذا على جميع رجال الأعمال، إذ كان حالة استثنائية.
"تشابَه الشيخ الشعراوي مع جماعة الإخوان المسلمين في الطرح العام، بالرغبة في إقامة مجتمع إسلامي ودولة إسلامية. واختلف عنهم فقط في الطريقة، إذ اعتقد بالصيغة السعودية للحكم، أي بوجود مؤسسة حاكمة تطبق نصائح المؤسسة الدينية"
أما الشيخ الشعراوي فهو أول داعية جماهيري، عرفه الجمهور من خلال التلفزيون بكاريزميته، جمع بين حب البسطاء وحب رجال الأعمال، وكوّن علاقات صداقة قوية للغاية مع مجموعة من رجال الأعمال، أبرزهم، عبد العظيم لقمة، الإخواني، وحسن راتب، واستطاع الحصول على تمويلات منهم، وأصبح بمثابة مؤسسة خيرية، وانتقل إلى الثراء وعاش في قصر في منطقة الهرم في الجيزة، واقتنى سيارة مرسيدس... وهنا رجال الأعمال كانوا كمريدين يعبّرون عن تدينهم بإعطاء الأموال للداعية.
وكرر عمرو خالد نمط الشعراوي بشكل أكثر حداثة، أدخل فيه الربح المادي من الدعوة بشكل مباشر، والإعلانات المصاحبة للبرامج الدينية، والمحاضرات الدينية بتذاكر الدخول، والأسطوانات، ورواتبه الإعلامية، بالإضافة إلى التبرعات، وظهر ما أسميته بـ"الصالون الإسلامي" إذ تستضيفه الأسر في منازلها لإلقاء درس ديني أو خطبة مقابل مبلغ مالي.
كيف حقق الدعاة سطوتهم الجماهيرية خلال السنوات الطويلة الماضية؟ ما هي أدواتهم الإعلامية؟ ومَن الذي حقق الاستفادة الأكبر؟
كل داعية ارتبط بوسيلة اتصال عصره. الشيخ محمد متولي الشعراوي بالتلفزيون، الشيخ كشك بشرائط الكاسيت، وحالياً الجيل الرابع، "دعاة السوشال ميديا"، حققوا انتشارهم من خلال الفيديوهات القصيرة على يوتيوب.
وعمرو خالد استخدم كل الأدوات المتاحة. بدأ من خطب المساجد بجماهير غفيرة، وكان من حظه التغيّر الإيجابي بظهور القنوات الفضائية التي حققت له انتشاراً كبيراً للغاية، ثم بدخول الإنترنت إلى مصر، إذ أسس موقعاً إلكترونياً باسمه، ثم استغلّ صفحات السوشال ميديا على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان واعياً لأهمية كتابة مقالات في الصحف والمجلات، وحقق مزيداً من الانتشار والمكاسب المادية.
كيف ترى التشابه والاختلاف بين منهج الشعراوي وجماعة الإخوان المسلمين؟
الشيخ الشعراوي بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين تشابه في العودة إلى الساحة، إذ عرف (مؤسس الإخوان) حسن البنا وتأثر بشخصيته، وترك الجماعة عام 1938 احتجاجاً على موقفها من حزب الوفد، وإظهار عدائها لـ(زعيم حزب الوفد ورئيس الحكومة الأسبق مصطفى) النحاس، لكنه ظل معتقداً أن البنا شخص جيد.
وتشابه مع الجماعة في الطرح العام، بالمطالبة بتطبيق الشريعة والاحتكام للشرع وتطبيق الحدود والاقتصاد الإسلامي، أي الرغبة في إقامة مجتمع إسلامي ودولة إسلامية.
ويختلف عنهم فقط في الطريقة، إذ يعتقد بالصيغة السعودية للحكم، أي بوجود مؤسسة حاكمة تطبق نصائح المؤسسة الدينية. كان يردد: "أريد أن أُحْكَم بالإسلام، ولا أريد أن أَحْكُم بالإسلام". ورغم أنه أدان سعي الإخوان للسلطة، لكنه يتبنى كل مطالبهم، ويرى أنه لا بد من تحقيقها عن طريق السلطة القائمة.
وتشابه الشعراوي مع الإخوان في رأيه بتقلبات السلطة المصرية. اتّخذ نفس موقف الجماعة من ثورة يوليو 1952، كره الثورة، وبادر بالخروج من مصر دون أي صدام وظل في السعودية إلى عام 1963، وعاد بسبب صدام عبد الناصر مع المملكة لأنه كان عضواً في البعثة الرسمية للأزهر. لكنه عاد مرة إلى أخرى إلى السعودية رفقة الإخوان المسلمين بحجة اضطهادهم من عبد الناصر، ثم سافر إلى الجزائر حتى وفاة عبد الناصر، وعاد مرة أخرى إلى السعودية. وهو ما يبرهن تشابه مسارات عودته إلى مصر مع عودة الجماعة مرة أخرى.
ثم أصبح نجماً جماهيرياً، وقدّم برنامجاً تلفزيونياً، "نور على نور"، وعين وزيراً للأوقاف، وبعدما فضّت الجماعة تحالفها مع السادات إثر معاهدة كامب ديفيد وغضب المملكة العربية السعودية، اتّخذ نفس الموقف وغادر الوزارة، ورفض التعيين في مجلس الشورى، وتباعد عن السادات، وأوقف برنامجه التلفزيوني بسبب هذا الجفاء.
كيف تغيّرت لغة خطاب ونوعية جمهور الدعاة بداية من كشك والشعراوي وعمرو خالد وصولاً إلى دعاة السوشال ميديا في الوقت الحالي؟
جميعهم استخدموا لغة المجتمع المصري. الشعراوي استخدم لغة تخاطب الريفيين والبسطاء التي تتناسب مع حالة المجتمع آنذاك، وتخلو من الكوميديا، والزجر، وأغلبها أمثلة شعبية لتسهيل المعلومة الدينية وتبسيطها إلى أقصى درجة، وكانت أقرب إلى لغة الخطاب الريفي، وبعيدة عن الأحكام الفقهية الجامدة.
أما الشيخ كشك، فقد اعتمد على لغة موجهة أكثر إلى الطبقات الشعبية، تعبّر عن الغضب والصوت العالي وفيها كوميديا مكثفة، وسخرية، وانتقاد لاذع للأوضاع، وتنحاز للفقراء، وتخلط خطاب التحريض الطبقي بالخطاب الديني. كان له بعد تحريضي يساري، إلى درجة أن موقفه من أزمة هجوم كلب الست أم كلثوم على مواطن تشابه مع موقف الشاعر اليساري أحمد فؤاد نجم، إذ كتب الأخير قصيدة "كلب الست"، وكشك تعامل مع الواقعة بنفس الطريقة.
من ناحيته، صاغ عمرو خالد خطاباً يتماس مع التغيرات الاقتصادية في مصر، وأزمة الطبقة الوسطى وفراغها من مشروع فكري، بجانب دعوات الانفتاح على الغرب، ورغم أنه تأثر بدعوات الإصلاح البروتستانتية، وتقديمه لنفسه بهذه الأفكار، إلا أنه كان انتهازياً وباحثاً عن الثروة، وكان طموحه إجرامياً ولا يتناسب مع إمكانياته. وصاغ خطابه من خلال اللغة العامية المصرية، وتأثر بالوعظ الأمريكي، خاصة تيار ما سُمّي بكنيسة الرخاء، الذي يعتقد مؤيدوه أن الصحة والثروة دليل رضا من الله على العبد، وانتفاؤهما دليل على غضبه. هذا بجانب مخالفته للشكل التقليدي للداعية من تخليه عن الجلباب والعمامة.
ووجّه خالد خطابه للمرأة والشباب، وخلط بين الخطاب الإصلاحي لجماعة الإخوان المسلمين والقصص الدينية المسلية. وكان ذلك بمثابة تطوير لخطاب الشعراوي، من خلال علاقته بالأثرياء وتوسيع الشريحة الجماهيرية التي خاطبها. وتأثر به الداعية مصطفى حسني وقدّم خطابه العاطفي، عكس ما قدّمه معز مسعود، من خطاب أكثر عقلانية، وميل إلى استخدام المنطق العقلي، وصولاً إلى مناقشته لقضايا إشكالية المثلية الجنسية التي يستشهد فيها بآراء تخالف الشريعة الإسلامية، إذ يرى أن المثلي ضحية، بجانب اهتمامه بمسائل الإيمان والإلحاد وتنظيم مناظرات مع ريتشارد دوكينز، ومشاركته في إنتاج أعمال فنية محافظة، وهو ما أظهر تأثره بقساوسة الوعظ الأمريكي الذين يؤدون نفس الدور بنفس الأفكار.
أما دعاة السوشال ميديا الحاليين، فقد ظهروا نتيجة الانقطاع الذي أحدثته ثورة 30 يونيو في مسيرة الدعاة التقليدين وعدم وجود فرص للانضمام إلى تنظيمات دينية، سواء عبر الدروس الدينية، أو الالتفاف حول داعية. فمع قبضة الدولة للسيطرة على الإرهاب اختفت هذه التنظيمات، ومع انتشار السوشال ميديا، لجأ الدعاة إليها، بلغة تناسبها، فظهر أمير منير، سلفي تقليدي، وغيّر مظهره التقليدي، إذ ارتدى ملابس من ماركات شهيرة، ونشر فيديوهات بعناوين شائعة، أغنية شعبية مثلاً، بجانب تلقيه تبرعات عبر موقع باترون، وهو أحد الأشكال الحديثة للدعاة لجني الأرباح.
ويعتمد دعاة السوشال ميديا على الثقافة السمعية، بعيداً عن الكتب، أو الدراسة الأكاديمية، ويعترفون بذلك أمام جمهورهم، لذا ثقافتهم سطحية للغاية. وتستخدمهم شركات السياحة الدينية في الدعاية والإعلانات، مقابل عمولات مادية، بجانب تقديمهم دورات تربية اجتماعية وتنمية بشرية.
لماذا يحقق الدعاة غير الرسميين تقدماً في الواقع مقارنةً بدعاة الأزهر الشريف؟
دعاة الأزهر الشريف لديهم فهم ووعي بالأحكام الفقهية من خلال دراستهم الأكاديمية، وهو ما ينقص الدعاة غير الرسميين، لكنهم يحتاجون إلى تطوير، من خلال تدريبهم على استخدام لغة السوشال ميديا، وإنتاج الفيديوهات القصيرة، وتقديم الأفكار بلغة بسيطة... ورغم أنهم تقدموا في هذا الاتجاه بخطوات لكنها بطيئة للغاية.
كيف تفسر تراجع دور المثقف المصري في مواجهة خطاب الدعاة وجماهيريتهم؟
آخر جيل من المثقفين المصريين كان قادراً على مخاطبة الرأي العام المصري والتأثير فيه كان جيل الستينيات، من خلال صياغة خطاب جماهيري، وكان آخر تجليات هذا الجيل (عبد الرحمن) الأبنودي، صلاح عيسى، جمال الغيطاني، وأسامة أنور عكاشة الذي كان يتولى صياغة الأفكار الرئيسية في حقبة الثمانينيات من خلال أعماله الدرامية التي كانت تحظى بمشاهدة واسعة للغاية من الجمهور المصري، ولاقت اعتراضاً من المجموعات والهيئات الممثلة لرجال الأعمال.
ومع صعود الدعاة الجدد في بداية الألفينات، ظهر خطاب آخر يروّج تعاطفاً مع رجال الأعمال تكفّل به عمرو خالد وآخرون، ما أدى إلى تراجع الاهتمام بأعمال عكاشة والاهتمام بأعماله هو، وتراجُع دور المثقف المصري إلى حلقات ضيقة معزولة ومهمشة ومغتربة، وتضاؤل قيمتها، واتساع مساحة الخطاب الديني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...