شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن طينة الخلق المنقلبة لحماً بشرياً

عن طينة الخلق المنقلبة لحماً بشرياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 20 أكتوبر 202101:22 م

يحكي الفيلسوف الأندلسي أبو بكر محمد بن طفيل، في عمله الأدبي الفلسفي "حي بن يقظان"، قصة فتى وحيد يعيش على جزيرة غير مأهولة، ويمضي الشطر الأول من حياته دون أن يرى بشراً، لكنه على الرغم من ذلك يتمكن من خوض مغامرة عقله الأولى ليصير فيلسوفاً، وهو لم يسمع بالفلسفة قط.

حيّ، ربيب ظبيةٍ يعاين الخلائق من حوله في عالم الكون والفساد، أدواته (عقله) و(حواسه) و(التجربة)، تموت الظبية فيعتري حيّ حزن عظيم يودي به إلى الفلسفة، وكأنه يتبع وصية أرسطو: الفلسفة انشغال بالموت.

يُشرّح الفتى جسد الظبية/ أمّه باحثاً عن سر الحياة وسبب الموت، فيخلص إلى أن روح حيوانية تسكن الجسد ومن ثم تغادره، فينتقل من التفكير بالمحسوسات إلى إدراك المعقولات. يكتشف الشيء العجيب المسمى ناراً، فيطوعه لخيره.

يرى الوحدة والكثرة في الوجود، ويقدر أن الاشياء جميعها تتفق بالمادة وتختلف في الصورة. يكبر وحيداً فتكون نجوم السماء أنيسه، يرصد حركتها الدائرية، يحاكيها ويدور إلى أن يُغشى عليه، فيستيقظ ابن يقظان من نومة الغفلة ورقدة الجهالة ويحلق في فضاءات التأمل.

أما بعد الاستغراق المحض والفناء التام، يستقيم له الحق ويستشعر ثنوية الروح والجسد، مدركاً المحرك الأول للعالم ذلك الواجب للوجود.

يحكي الفيلسوف الأندلسي أبو بكر محمد بن طفيل، في عمله الأدبي الفلسفي "حي بن يقظان"، قصة فتى وحيد يعيش على جزيرة غير مأهولة، ويمضي الشطر الأول من حياته دون أن يرى بشراً، لكنه على الرغم من ذلك يتمكن من خوض مغامرة عقله الأولى ليصير فيلسوفاً، وهو لم يسمع بالفلسفة قط

حكاية حي الرمزية هذه ماهي إلا ملخص لتاريخ الانسان منذ أن انتصب وخطى على قدميه أول مرة، إلى أن طار سابحاً في فضاءات العقل كاشفاً للحقائق الكونية، إنها باختصار سيرة المعرفة الإنسانية منذ نشأتها ثم تطورها وإلى ارتقائها.

لكن، يبقى سؤال الأصل، كيف تصيّر الطين لحماً، فلا داخل أمه يحوي طيناً، ولا التراب من حوله مهما يكون يضحي لحماً. هذا الانتقال من مادة صلبة إلى أخرى طريّة، يتحرك بين الفرضية الدينيّة و تلك العلميّة، نقطة أشبه بسرّة لحكاية الخلق، تختلف عنها التأويلات.

تحولات الطين الأولى

يورد ابن طفيل فرضيتين حول تولد أو تكون حي بن يقظان على تلك البقعة النائية من العالم، فيقول إن البعض اتفق على خبر ولادة حيّ ولادة تقليدية من أم، فكان رجل اسمه يقظان يعيش على جزيرة عظيمة، تزوج سرّاً من أخت الملك صاحب الجزيرة المعروف بغيرته.

ثم إن الأميرة قد حملت ووضعت طفلاً، فخافت عليه من بطش أخيها الملك، فما كان منها إلا أن وضعته في تابوت موصد وقذفته في اليم، فحمله المد إلى ساحل جزيرة أخرى نائية، فلما اشتد الجوع بالطفل بكى واستغاث، سمعت صوته ظبية فقدت طلاها، فحنّت عليه وأرضعته وتكفلت به إلى أن كبر واشتد عوده.

 أما أصحاب الخبر الآخر فيقولون وفق لابن طفيل، بأن حياً قد تولّد تولّداً ذاتياً من الأرض، حيث أن طينة كانت قد تخمرت على مر الأعوام في باطن جزيرة تسمى الواق واق، فتمخضت عنها نفاخة منقسمة إلى قسمين، يفصل بينهما حجاب رقيق ممتلئ بجسم هوائي في غاية الاعتدال.

فتعلق به عند ذلك الروح وتشبث به تشبثاً يعسر انفصاله، ومن تلك الطينة ظهرت الخليقة كلها والأعضاء بجملتها، إلى أن اكتملت وخرج منها طفل، فصرخ واستغاث عندما جاع فلبّت نداءه الظبية. بعد هذا يقول ابن طفيل بأن أصحاب القولين يتفقون في وصف الأدوار السبع لتطور حي في بقية القصة.

مثل حي بن يقظان، حظي آدم بروايتين تتناولان خلقه، الأولى القصة المعروفة التي تدور أحداثها في جنة عدن، أما الثانية فهي مصاحبة لرواية خلق الإله للكون في ستة أيام

نفترض هنا أن كلا الولادتين منطقيتين، فكلاهما تحويان سرّاً دفيناً تولّد في البطن/ الأرض، خفية عما حوله، ربما كان حباً، أو خطيئة، ونتج عنه حيّ، ذاك البشري الممنوع من الظهور علناً إلى حين بكى على الجزيرة، وبكى في مخبئه.

أما الرمي في البحر وتشبّث الروح، كلاهما، يشكلان رحلة النفي من "الداخل"، سواء كان رحماً أو أرضاً، حيث "الخارج" بتنويعاته ومشقاته، سواء كنا نتحدث عن تشبث الروح أو النجاة من اليم، وهنا المشترك بين الاثنين، الماء، حامل الهديّة بعيداً عن الداخل، وكأنه في الخليقة كلها، لابد من نفي ما، رحيل من داخل إلى خارج، طين، يعبر الماء نحو "الحياة".

بين آدم وحي بن يقظان

تبقى القصة الأشهر على الإطلاق قصة آدم، "الإنسان الأول" وفقاً للديانات الإبراهيمية، فمثل حي بن يقظان، حظي آدم بروايتين تتناولان خلقه، الأولى القصة المعروفة التي تدور أحداثها في جنة عدن، أما الثانية فهي مصاحبة لرواية خلق الإله للكون في ستة أيام.

ففي سفر التكوين نقرأ أن يهوى "جبل آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حية" (تك 2: 7)، وأنه من ذات الأرض أخرج المخلوقات الحية "لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها وكان كذلك" (تك 1: 24)، تحيل هذه الرواية إلى المخيلة حديث ابن طفيل عن الطينة المتمخضة الحاوية على جسم هوائي متعلق بالروح، والتي يخرج حي وسائر الخلائق منها بعد أطوارعديدة من النحت والتشكيل.

عند التدقيق في معنى كلمة "آدم" -إنسان في اللغة العبرية- وأصلها والمواضع التي جاءت فيها، نلحظ تناصاً أدبياً واضحاً بينها وبين المفهوم المنطوي تحت الاسم التعبيري "حي بن يقظان"، أي الإنسان العاقل كما يسمى اليوم اصطلاحاً، فكلمة آدم كما وردت في الإصحاحات الخمسة الأولى من سفر التكوين، تستخدم للتعبير عن أشياء مختلفة، فتأتي بمعاني الرجل الفردي، الرجل الأول، الجنس البشري، والذكر والأنثى، "ذكراً وأنثى خلقه، وباركه ودعا اسمه آدم يوم خلق" (تك 2:5).

في ضوء أساطير التكوين، تظهر لنا شجرة الواق واق  كأنها استمرار وتأكيد على التقليد القائل بالخلق من الطين، وإحدى الإجابات على أحجية أصل الحياة، الشاغلة لعقل الإنسان منذ فجر التاريخ المدون إلى يومنا هذا

أما في قصة عدن فلا يظهر الاسم آدم على الإطلاق وإنما الاسم الحامل لمقال التعريف بالعبرية ها-آدام، بمعنى الإنسان بالمجمل، وكأن المؤلف يريد لنا أن نفرق بين آدم العدني وآدم الأرضي. أما جذرالاسم فلا ينسب إلى الجذر السامي "نش"، "أناشا" بالآرامية، والمقابل لكلمة "الناس" في العربية، فيشير البعض إلى أنه مشتق من جذر يدل على الاحمرار "إدوم"، أو الدم الأحمر  "دام" بالعبرية، ولكن أصل الكلمة لايزال غير مؤكد.

من اللافت أيضاً وجود جناس لفظي بين الاسم "آدم" و كلمة "أدماه" العبرية والتي تعني الأرض أو التراب، فيفهم أن هذا الشخص المسمى "الإنسان" هناك في عدن، صار يسمى "آدم" بعد ميلاده الثاني من أديم الأرض، وهو مزيج من تراب ودماء، فهل حصل على اسمه الترابي هذا كنوع من الدلالة الأدبية؟

والذي من باطنه يعود  مفهوم "طينة الخلق" إلى الظهور، ليس عبر نص صريح هذه المرة وإنما من خلال لعبة الكلمات، فيكون "آدم" مخلوقاً يعيش من ثمرة الأرض ويرجع إلى التراب الذي أخذ منه في عود أبدي.

مرة أخرى في ظلال شجرة الواق واق. في أحد التصورات البديعة لهذه الشجرة العجيبة في منمنم هندي يعود للقرن السابع عشر، ومحفوظ في متحف الفن الإسلامي في برلين تحت العنوان" شجرة في جزيرة الواق واق أو الشجرة الناطقة"، يظهر شكل لشجرة تبدو من بعيد تقليدية لا شيء فيها مختلف، مصورة بألوان رمادية قاتمة على خلفية أشد قتامة، عند الاقتراب تبدأ الأشكال الملونة المعلقة على الأغصان بالاتضاح.

فنرى رؤوساً لمخلوقات عديدة متدلية، أحصنة و فيلة ونمور وثعالب وخرفان وأرانب وأنواع مختلفة من الطيور، على جذعها تلتف ثعابين وتنمو الأسماك من جذرها، كل هذا بالإضافة إلى سبعة أشكال بشرية معلقة كالثمار في أغصانها. إذا ما تأملنا في دلالتها الرمزية من منظور مجرد عن حكايتها المتداولة، لربما يحلو لنا أن نسميها شجرة الحياة أو شجرة الخليقة، كرمز لفعل الخلق من الطين.

تبدو مثالية، باحتوائها على الأنواع الحية الأكثر شهرة في ذلك المكان والزمان، من الأليف والوحشي والأنسي، ففي ضوء أساطير التكوين المذكورة أنفاً، تظهر لنا شجرة الواق واق عبر هذا التصوير كأنها استمرار وتأكيد على التقليد القائل بالخلق من الطين، وإحدى الإجابات على أحجية أصل الحياة، الشاغلة لعقل الإنسان منذ فجر التاريخ المدون إلى يومنا هذا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image