تشارك "صالة نادين فياض للأعمال الفنية"، التي دشنت أعمالها قبل ثمانية أشهر تقريباً (23 شباط الماضي)، في أعمال معرض دبي "إكسبو 2020"، بأعمال الرسام اللبناني رؤوف الرفاعي حصرياً.
إذ إن السيدة نادين فياض، صاحبة الغاليري، خصصت صالتها في بيروت لأعمال هذا الفنان الذي أعجبت بأعماله وفنه، كما التزم هو معها في هذا المشروع على مبدأ "غاليري واحد لفنان واحد" (one gallery; one artist)، في ما بدا أشبه بوكالة حصرية اتفق عليها الطرفان، وذلك في تجربة يقول الاثنان عنها إنها فريدة من نوعها، وربما تكون الوحيدة في العالم.
وحول هذا التعاون ودوافعه، تقول نادين فياض في مقابلة، إنها معجبة بفن الرفاعي بما يمثله من عالم الواقع ومن تقلبات الحياة، ثم أنه فنان خلاق بعيد عن الكلاسيكية والرتابة.
التعامل معه رائع كونه قائماً على الثقة المتبادَلة، ولذك "أنا سعيدة" بتعاوننا، خصوصاً إنه يحب عمله ويسعى إلى انتشاره عالمياً، وقد سلكنا فعلاً هذا الطريق، فأعماله حققت شهرتها ودخلت بيوت كبار المشاهير، مثل الممثل جورج كلوني والمغني الفرنسي ميكا وغيرهما.
أما الرفاعي فيعزو رغبته في التعاون إلى ما لمسه عند السيدة نادين وزوجها جورج، وعند مديرة المعرض هبة شهاب، من أخلاق رفيعة سهّلت التفاهم بين الطرفين، ومن تذوّق الفن وتقديره وإيلاء الاهتمام له فقط، تاركين للفنان حرية مطلقة في العمل، وبنتيجة ذلك تأتي الناحية المادية في آخر سلم الأولويات.
تشارك "صالة نادين فياض للأعمال الفنية" في أعمال معرض دبي "إكسبو 2020" بأعمال الرسام اللبناني رؤوف الرفاعي حصرياً
وكما الحصرية في التعامل مع الصالة يحصر الرفاعي أعماله، بعد مراحلة الأولى، بموضوع واحد اختاره على شكل شخصية بمثابة تيمة، ينوع عليها لوحاته في أشكال تعبير هادفة.
شخصية الدرويش
اختار موضوع "الدرويش" بالمفهوم الشعبي للكلمة، بمعنى أن الدرويش هو الإنسان البسيط الساذج الغريب الأطوار، وربما المجنون، لكنه لا يخلو من فطنة وذكاء وعفوية تثير الدهشة. هذا هو مفهوم الدرويش في الشرق، والكلمة أو "الشخصية" ممكن أن يفهمها الغربيون، أقلّه من خلال معرفتهم بالصوفية.
علماً أن هذه الشخصية كان يمكن أن تكون جحا أو أخوت شاناي أو شوشو أو غيرهم، ممن يمكنهم تمرير الفكرة والنقد وحتى الانتقاد عبر السخرية أو الفكاهة أو الغرابة والمفاجأة الذكية من دون أن يخشوا عقاباً.
نادين فياض ورؤوف الرفاعي
على هذه الشخصية-الموضوع يعمل الرفاعي، منوعاً بين المناطق، من الشرق الأوسط، وصولاً شرقاً إلى أفغانستان وغرباً وإلى المغرب العربي (هناك الدرويش الطوارق)، وإلى سائر العالم وأميركا تحديداً، إذ رسم "درويش الهنود الحمر"، وهو ما ينم عن رغبة الرفاعي في أن يضفي على شخصيته المعبرة البعد الإنساني العالمي.
فالدرويش في لوحات الرفاعي هو الإنسان الشرقي في حالاته النفسية المتعددة والمتقلبة، كما هو الإنسان عموماً المُعاني من الحالات نفسها. وعند سؤاله عن هذه الناحية أجاب الرفاعي بأن الدرويش "هو أنا" أيضاً في مختلف الأحوال التي أمرّ بها.
ومن هنا نلحظ إذن البعد السيكولوجي في أعماله، فالحالات التي يمر فيها الدرويش في لوحاته تنمّ عن اضطرابات أو عن تفاعلات داخلية ناتجة مما يعيشه الإنسان الشرقي في مجتمعه وفي ظل أنظمته.
وهذه الحالات تتعدد وتتنوع من لوحة إلى أخرى، فالدرويش إنسان منعزل، أو لا يرى ولا يسمع ولا يشارك، متوجس، خائف، ثائر، متفجر، كما في لوحات "انفجار الدرويش" التي تعكس حالة المواطن اللبناني بعد انفجار مرفأ بيروت.
يعمل الرفاعي على شخصية الدرويش ، منوعاً بين المناطق، من الشرق الأوسط، وصولاً شرقاً إلى أفغانستان وغرباً وإلى المغرب العربي، وإلى سائر العالم وأميركا تحديداً. إذ رسم "درويش الهنود الحمر"، وهو ما ينم عن رغبة الرفاعي في أن يضفي على شخصيته المعبرة البعد الإنساني العالمي
ما يريد قوله رؤوف الرفاعي
وعند سؤالنا الرفاعي عما يريد قوله بفنه التعبيري، يقول إنه يتخطى الناحية الجمالية، على أهميتها القصوى في نظره، ليركز على ناحيتين:
- التعبير عن الحالة في اللحظة التي تنشأ فيها، وهي حالة نفسية قد تعنيه هو مباشرة أو تعني أي مواطن آخر.
- التوجه إلى الإنسان الغربي لتغيير ما في ذهنه من صورة نمطية عن الإنسان الشرقي- العربي- المسلم. يريد أن يُفهم الغربي أن العربي إنسان مثله عنده حياته اليومية ومشاكله ومعاناته، وليس إرهابيا ولا داعشياً... وفي رأيه أن العربي انطوائي أو "جوّاني" يكتم ما في نفسه، ولذلك لا يسمع ولا يرى ولا يحكي... لأنه لا يريد ذلك بحكم تركيبة مجتمعه... أما الغربي فخارجي، بمعنى أنه صريح ويعبر تلقائياً وعفوياً وبصدق عن مكنوناته.
هذا الإنسان "الجوّاني" بحاجة إلى مساعدة ليخرج من حالته هذه، وربما لهذا السبب يُضيء الرفاعي على حالاته هذه، على أمل أن يخرج يوماً ما من هذه الانطوائية ويعود إلى سويته أو تناسقه (Harmonie).
يريدها الرفاعي إذن رسالة إلى الأوروبيين والغرب عموماً، ولذلك يدخل عليهم بفنه هذا، بدرويشه، على أمل أن يكون حصان طروادة، بمفهوم إيجابي، أي لنشر التفاهم والوئام بين الشعوب، وعلّه يكون المحارب الأخير في هذا الميدان. كل ذلك يثبت التزام الرفاعي قضية إنسانية نذر فنه لها.
الناحية الجمالية والتقنية
وماذا عن الناحية الجمالية والتقنية؟ عن هذا السؤال يجيب الرفاعي أنه بعد مرحلة البدايات في مشواره الفني، دخل المرحلة "التعبيرية"، وذلك على طريقة "الرسم الأميركي الناشط" (American Action) الذي يهدف للتعبير مباشرة وتلقائياً على اللوحة عن قضية أو فكرة ما.
وبذلك يصبح عمله على موضوع واحد، الدرويش، تنويعاً على الشكل الواحد، إنما تعبير مستقل عن حالات جديدة مستقلة من لوحة إلى أخرى، فكل لوحة عنده "تجربة جديدة"، قد يكون لها تفسير جديد، لكن المهم فيها هو المفاجأة أو "الإدهاش.
الدرويش في لوحات الرفاعي هو الإنسان الشرقي في حالاته النفسية المتعددة والمتقلبة، كما هو الإنسان عموماً المُعاني من الحالات نفسها. وعند سؤاله عن هذه الناحية أجاب الرفاعي بأن الدرويش "هو أنا" أيضاً في مختلف الأحوال التي أمرّ بها
وفي كل مرة بأسلوب مختلف متناسق مع الفكرة التي يرمي إليها، ولذلك ربما نجد في فنه عدة أساليب ولا ضير في ذلك، فهو يرى مع ساره لوكاس أن "فني هو بحيرة من الأساليب". وهو في عمله التعبيري هذا يبقى إذن في الإطار التجريبي المتجدد من حالة إلى حالة ومن لوحة إلى لوحة.
نسأله عن تعامله مع الألوان والمواد التي يستعملها وطريقة عمله على توليدها. يجيب بأنه في مراحلة الأولى، وكغيره من الفنانين، اعتمد الأكواريل وكذلك الزيت، لكنه اختار في النهاية، ولأعماله هذه، الأكريليك، وذلك لأنه يؤمّن بعض الكثافة والثبات الذي يؤمنه الزيت، والأهم لأنه "ينشف بسرعة"، ولا يتطلب وقتاً كما المواد الزيتية.
ولأن اللوحة عنده هي تعبير عن حالة طارئة، وربما تكون عابرة، من المهم التقاطها وتثبيتها على القماشة، من هنا سهولة العمل بالأكريليك، الذي لا يستدعي الانتظار طويلاً ليجفّ كما الزيت، إذ إن هذه الفكرة قد "تنطفئ" مع الوقت إذا ما طال الانتظار.
أعمال رؤوف الرفاعي حققت شهرتها ودخلت بيوت كبار المشاهير، مثل الممثل جورج كلوني والمغني الفرنسي ميكا وغيرهما
وهنا يقيم المقارنة مع الحالة الشعرية، فاللوحة عنده تعبير عن حالة انفعالية، كما اللمعة الشعرية التي يجب التقاطها قبل أن تفلت وتزول أو تتغير مع الوقت. وعليه، كما يحبّذ في الشعر القصيدة القصيرة، أو التعبير المحصور ببيتيْن أو ثلاثة، ويرى فيها زبدة إحساس الشاعر، فإنه في عمله يحبذ الفكرة الواحدة واللعب على التفاصيل البسيطة والمحدودة مع التنويع على موضوع الدرويش.
فاعتماد الأكريليك إذن هو من أجل السرعة في تثبيت الفكرة أو الحالة، أي هذه "اللمعة الشعرية". وبذلك يمكن النظر إلى لوحات الرفاعي، في تواليها عبر ثوابت قائمة فيها، الموضوع-الشخصية وبعض الخطوط والألوان، والمتغيّرات التي تطرأ فيها وعليها، على أنها كتابٌ مفتوح.
كل لوحة فيه صفحة، أو قصيدة مطوّلة، كل لوحة فيها بيت شعري يحمل الإيحاء بالحالة المراد إخراجها وإيصالها، وفيه الجمالية الموقّعة التي تطرب المشاهد كما السامع، أو تهز مشاعره أو تشركه انفعالياً في القضايا المطروحة.
وبالحديث عن الألوان والعمل عليها، نسأل الرفاعي، من خلال ما لحظناه من لوحاته، إن كان يعمل في المساحات اللونية على اللون الواحد ومشتقاته، وهو ما يعرف بالفارق في اللون الواحد، أو درجة الإشراق والتدرج في اللون الواحد (Ton sur ton) فيجيب بأنه لا يعمل على ذلك، فهو في خياراته اللونية، إن جاز التعبير، يعتمد على العفوية والصدفة عموماً، قد يبدأ بضربة ريشة أو مسحة سكين، ويتابع على أساسها.
وكثيراً ما يستعمل أسطوانة التلوين (Rouleau) الشبيهة بأسطوانة التحبير في المطبعة، يبدأ بها منتظراً ما تولده من ألوان أو ما توحي به من أشكال، ثم يستكمل عمله بإضافات من هنا، أو بحذف ومحو من هناك، إلى أن تكتمل الصورة الموحية.
إنها هذه اللعبة التي يحبها، والتي زرعها في فكره والده في قصيدة له، وصف فيها الخالق الذي وهبه إياه بـ"الكاتب الماحي". وهو في تجاربه الفنية إنما يعتمد هذا المبدأ والأسلوب في التعاطي مع الألوان، من رمي على القماشة إلى التطوير عبر التغيير والحذف والمحو والإضافة والتصحيح...
أعمال بإيقاع واحد
يلفت في أعمال رؤوف الرفاعي الإيقاع الواحد المتشابه أحياناً، أو المتنوع والمتغير في الألوان والخطوط. تلفتنا عموماً هذه الخطوط الأفقية التي تحد بين مساحات لونية متماثلة أو متنافرة، في ما يشبه الكمامات أو الشريط اللاصق أو العُصابة، تتوزع بشكل عمودي، من أعلى إلى أسفل على الدرويش، موحية بالقطع بين حاسة وأخرى داخل الشخصية الواحدة، أو بالتقطيع اللاحق بهذه الشخصية، وما يوحي من حالات انفصام أو تفكك أو خراب.
في ظل الظروف الضاغطة على الوطن الصغير، تلتقي إرادتان، إرادة الفنان رؤوف الرفاعي الساعي إلى التعبير وإعادة الخلق عبر أعماله، إيماناً منه بأن وراء كل خراب وكل دمار، لا بد من تجدّد وتطور، وإرادة هاوية الفنون وراعيتها نادين فياض، التي رفعت التحدي وأرادت مواجهته والتصدي لكل محاولات خنق الحياة في لبنان
كأن هذه العصائب هي دليل على تعطل الحواس أو على خشية وخوف من إظهارها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الألوان المتفرعة من طغيان اللون الواحد أحياناً، إلى تعددها متناسقة أو متنافرة، بين تساو وغلَبة، موحية بالفوضى والخراب، أو منزاحة يميناً أو شمالاً، في ما ينم عن الانحراف أو السقوط. وفي ذلك يقول الرفاعي إن الإيقاع في اللوحة، كما في كل الفنون، أمرٌ ضروري، وهو في صلب العمل التشكيلي، وقد عرّفه (أعني الإيقاع) البعض على أنه الموسيقى اللونية.
فالحياة والكون قائمان على إيقاع ثابت، هو كناية عن تحقيق التوازن بين المتناقضات، بين الفوضى والنظام، بين الدمار والخراب من جهة، والإصلاح والبناء من جهة أخرى. ولذلك يبدي الرفاعي تفاؤلاً بالمستقبل، فمن الفوضى والحروب والدمار، على سيئاتها وأهوالها، تعود وتنبعث الحياة وتنتظم دافعة الحضارات في اتجاه التجدد والتطور.
هذه الموسيقى اللونية لها تأثيراتها الأكيدة في نفس المشاهد، تماماً كما الموسيقى الصوتية، ومن هنا قرار ومشروع مشاركته بلوحاته في احتفالات "بعبدات" الموسيقية (Les Musicales de Baabdath). فكلاهما، أي الرسم والموسيقى، يتلاقيان ويتماشيان في التعبير والتأثير.
يسعى رؤوف الرفاعي من خلال هذه التأثيرات المشهدية في لوحاته إلى التعبير عن حالات اجتماعية وإنسانية والإضاءة عليها، وذلك على مستويات متعددة، الديني منها والاجتماعي والسياسي، مستعيناً بالفكاهة والتعبير البسيط العادي من أجل الإضاءة على واقع مرير والدعوة إلى تغييره. فالدرويش عنده شخصية، على بساطتها، مؤثرة وفاعلة، وشخصية ثائرة قادرة على التعبير من دون أي خوف.
الكون، والخلق، كله قائم في نظره على إيقاع معين، إنه تحقيق التناسق بين المتعارضات وأهمها بين الفوضى والنظام، وهذا هو مفهوم التناسق (harmonie)، وهذا ما يحاول الرفاعي تحقيقه في عملية الإبداع الفني التي يقوم بها. فهو في كل محاولة يسعى وراء "لقية" (trouvaille) تتكشف له حالة بعد حالة.
بهذه النظرة الفلسفية الكونية، وهذه المحاولات السيكولوجية للتعبير عن حال الإنسان الشرقي عموماً، والعربي خصوصاً، في عمله الفني التجديدي الفريد على شخصية الدرويش، يشارك رؤوف الرفاعي في أعمال "إكسبو 2020" في دبي، بالتعاون مع غاليري نادين فياض في بيروت. وقد أكدت السيدة فياض أن الأجواء في المعرض إيجابية والإقبال جيد.
في ظل هذه الظروف الضاغطة على الوطن الصغير، تلتقي إرادتان، إرادة الفنان رؤوف الرفاعي الساعي إلى التعبير وإعادة الخلق عبر أعماله، إيماناً منه بأن وراء كل خراب وكل دمار، لا بد من تجدّد وتطور، وإرادة هاوية الفنون وراعيتها نادين فياض، التي رفعت التحدي وأرادت مواجهته والتصدي لكل محاولات خنق الحياة في هذا الوطن وضرب صورته الثقافية الفكرية.
وهي من لبنان إلى دبي، وإلى معارض أخرى مستقبلاً وقريباً، توجه دعوة إلى البقاء والثبات في هذا الوطن الذي لا بد أن تهدأ وتزول عنه الرياح التي تعصف فيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...