أودّ لو يعود الزمن إلى أيّام الثورة الأولى، حين التقيت بالأمل.
عشت فترةً طويلة امتدت من المراهقة حتى 17 تشرين الأول/ أكتوبر، بنوع من العدمية أو البؤس، والكثير من الكآبة، وأكثر منها كان فقدان الشغف والأمل. تكوّن ذلك بسبب علاقة والديّ السامة، وطفولة كريهة بطبيعة الأحوال. أبي لديه سيئاته الكثيرة، وأمي لم تتمكن من أن تنفصل عنه، بسبب المحكمة الجعفرية. وهكذا، كرهت الدين والسياسة، والإيجابية، والأمل، والله، مذ كنت في الصف الثامن... لم أؤمن بالأمل. تذكّرني هذه الكلمة بذلك العلم الذي عُلّق في حديقة جدتي في الضاحية الجنوبية منذ صغرنا. حتى اليوم، لا تعلم جدتي من يعلّق هذا العلم، ومن يجدده كلما مزّقته مياه الأمطار، وتعترف بأنّها قررت أن تتركه، لأنّ من اختار وضعه، يبدو أنّه شخص "وقح لا يحترم الخصوصية"، ولا أحد يودّ أن يتشاجر مع هذا الصنف من البشر.
لم تكن المرة الأولى التي أنزل فيها في مظاهرة، أو المرة الأولى التي أكوّن فيها رأياً سياسياً مختلفاً عن رأي والدتي التي تعلّقت بدينها، ومحيطها، على الرغم من أنّهما حرماها من الطلاق. لم تكن المرة الأولى التي أفهم فيها تركيبة هذا البلد، ولم تكن المرة الأولى التي ألتقي فيها بأشخاص يشبهونني فكرياً، لكن كانت المرة الأولى التي أتعرف فيها على الأمل، وأفقد جزءاً كبيراً من العدمية التي أحاطت بي، والتي تكوّنت هويتي منها.
كانت ليلة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، حينما كنّا بضعة أشخاص في رياض الصلح قرروا الانتقال إلى الرينغ، الليلة التي ألتقي فيها بالأمل للمرة الأولى. ذلك الأمل الذي يبعد عن العلم الذي يحلّق في حديقة جدتي التي حوّلتها إلى باركينغ لاحقاً، لأنّ الحدائق لا تليق بسموم سيطرة الأحزاب. كان كل شيء تدريجياً، ليلة 17 تشرين الأول/ أكتوبر. أتكلم هنا عن كيف ازدادت أعداد الناس، حين مشينا من الرينغ، فالمصرف، ثم إلى رياض الصلح، وعن كيف تغير المشهد من بضعة بائسين يحاولون إغلاق أوتستراد أكبر منهم، إلى متظاهرين كثر لم تسعهم الساحات.
لم تكن المرة الأولى التي أنزل فيها في مظاهرة، أو المرة الأولى التي أكوّن فيها رأياً سياسياً مختلفاً عن رأي والدتي التي تعلّقت بدينها، ومحيطها، على الرغم من أنّهما حرماها من الطلاق
في تلك الفترة من حياتي، ما عدت في حاجة إلى شيء. نسيت كيف تجري الحياة خارج المظاهرات، وتركت جلسات العلاج النفسي، وانفصلت عن حبيبتي السامة، وكنت أعمل لساعات قليلة، وحين أنهي عملي، أعود إلى الشارع. أعدت علاقتي مع شوارع بيروت. كنت أحب الشارع، فأنا لم أعرف وسط بيروت يوماً، ولم أعرف ما معنى أن أشرب البيرة في دار الاوبرا، أو أن أشتري "الفول والحامض"، وأتناولهما تحت تمثال رياض الصلح، أو أن أستعيد صوتي الذي خجلت منه، لأنّني كنت أربط الصراخ بضعف أمّي. كانت ليلة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، يوم تعلمت أن أصرخ، وأن أعبّر عن شعور الوطنية الذي كان يزعجني، لأنّه لا يتماشى مع عدميتي، ويوم حلمت ببناء شيء من هذا الأمل، وحين اعتدت على مشاهد "العنف الثوري"، ورائحة قنابل الغاز، وكرهت مشاهدة الشوارع خاليةً، ووقعت في حب الساحات، وتعلمت كيف لا استسلم، لأنّه عليّ إنقاذ صديقتي سالي التي فقدت وعيها بسبب القنابل.
أصبحت ذكرى 17 تشرين الأول/ أكتوبر، هي ذكرى رحيل الأمل. عدت بعد قليل من الأشهر، إلى عدميتي، وفقدت شغف التظاهر، وحبّ التغيير، واستسلمت لفكرة الرحيل، والبحث عن وطن جديد. لم أتمكن حتى من أن أقوم بعزاء مناسب للأمل، ولم أتمكن من أن أتخطى أنّني خسرت أكثر فكرة كانت بعيدةً عنّي منذ الصغر. ما عدت سعيدةً هنا. أصبحت هذه الشوارع تذكّرني ببؤس المراهقة، وبأنّني لم أنقذ أمي، ولم أنقذ مثيلاتها. لم أكن الوحيدة التي شعرت بذلك، في تلك الفترة. كنت أتحدث مع أشخاص لا أعرفهم، في الحانات، عن كيف ستعود الثورة، وكيف لن يخذل الشعب الأمل، وكيف سنفوز في النهاية. ومع الأيّام، هذه الإيجابية التي كنّا نطبطب على جراحنا بها، أصبحت فكرةً ننام عليها. وتلك التحليلات عن الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة، كلها لم تعنِ شيئاً. استسلمنا لموت الأمل، ودفنّاه تدريجياً، وعدنا إلى الحالة الأولى: الكثير من البؤس، مع الكثير من الكآبة، وحالات من فقدان الشغف.
في تلك الفترة من حياتي، ما عدت في حاجة إلى شيء. نسيت كيف تجري الحياة خارج المظاهرات، وتركت جلسات العلاج النفسي، وانفصلت عن حبيبتي السامة، وكنت أعمل لساعات قليلة، وحين أنهي عملي، أعود إلى الشارع
مع هذا كله، تبقى أيّام ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، هي أجمل أيّام حياتي. يوم قتلت الخوف، وكوّنت علاقة جديدة مع الأمل. يبقى هذا الحب للتغيير قائماً، ويبقى هناك إيمان صغير، لأنّني فقدت الإيمان بكل شيء آخر. ومع أنّني دفنت الأمل، إلا أن هناك خيطاً صغيراً يربطني بالتغيير، لا بالثورة. كان يوم 4 آب/ أغسطس 2021، المرة الأخيرة التي أعود فيها إلى الشارع، وعادت إليّ مشاعر 17 تشرين الأول/ أكتوبر، كلها... وفي كل مرة تعود فيها هذه المشاعر المألوفة، أقول لنفسي: "رجعت الثورة"، وأنام، وأستيقظ لأكتشف أنّ هذا ما هو إلّا شوق إلى الأمل. قتلت الأمل بالثورة كلياً، بطبيعة الأحوال. ويبقى هناك بقايا صغيرة منه مرتبطة بالتغيير. أكره الرحيل، وأكره أن أُهزم. ومن الصعب أن أعترف بأنّنا خسرنا. صديقي نديم الذي شاركني الساحات، والشغف بالتغيير، رحل إلى قطر. ما زال نديم يتابع الأخبار كلها، ولم يتمكن من أن ينفصل عن الوطن. ما زال يكوّن أراء سياسية حتى اليوم، وأظن أنّني أنتمي إلى هذا النوع من البشر. نحن كثيرون هنا، ولا يمكن أن نقتل هذا الشغف، حتى لو رحلنا.
أكتب هذا، بينما تشهد شوارع بيروت حرباً أهلية مصغرة، لأسباب نجهلها أصلاً. مع كل مشهد، يموت الأمل أكثر فأكثر، وأقتنع أنّ التغيير قد لا يكون ممكناً، وربما ستنتصر السلطة علينا، ونبقى هكذا، في وهم الأحلام، لا نعلم ما سيجري حقاً، ولا نكترث لما يجري فعلاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...