شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"كدا هتبوظي الكحل"... يوم في حياة زوجة قاصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 16 أكتوبر 202112:51 م


 الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا

                  إعداد أحلام الطاهر



لا يصير البيت بيتك إلا حين تتحرك فيه في المنام

يعتقد ماركيز أن المدينة لا تغدو مدينتك حتى يكون لك موتى فيها، حتى يسكن جسد عزيز تحت ترابها. كأن كل علاقة بالأحياء عابرة وكل علاقة بميت أبدية. نفس المعنى يتوصل إليه الشاعر المصري أحمد يماني في قصيدة "الجنازة"، إذ يقول "اليوم مات تشيمو/أحد معارفي/وها أنا/ لم أعد غريباً/ في هذه البلاد". بالمثل، بيتك الوحيد هو البيت الذي تحلم به، فمهما تعددت البيوت في المدن والبلدان، لا يصير البيت بيتك إلا حين تتحرك فيه في المنام. قبل ذلك، كل البيوت غريبة.

بيت الأب

في أحد البيوت، ثمة فتاة في الرابعة عشرة، نسميها مريم، تصحو مثل كل يوم في السابعة صباحاً، تجهز نفسها وتخرج إلى المدرسة. بشكل غامض تشعر، في هذا اليوم بالذات، بأنها ليلتها الأخيرة في هذا البيت، وأن حلم الليلة السابقة، حين ركبت أوتوبيساً انطلق بجنون في شوارع لا تعرفها، بلا ركاب ولا سائق، هو حلمها الأخير.

 في الطريق إلى المدرسة، حاولت مريم استرجاع الحلم، كل عدة خطوات تتذكر تفصيل غائب، الأوتوبيس الذي بدا في البداية في طريق سريع، اتضح الآن أنه يسير على قضيبين، والكراسي الخالية تماماً، ظهر في بعضها حركات واهنة. في لحظة ما، تجلى لمريم أن الجالسين في المقاعد الأمامية، وربما كن فتيات، كن مقيدات بأغلال. مريم في الحلم، لم تكن هي مريم في الواقع، لقد تعرفت على نفسها في صورة فتاة أخرى، كما نتعرف على أنفسنا في شخصية فيلم سينمائي.

الأوتوبيس، في النهاية، ولم تتذكر ذلك إلا بعد سنوات، كان بيتها ذاته، لكنها لم تميّز أبداً وجوه المقيدات، وإن كان بقليل من تأويل الأحلام يمكن فهم أنهن أخواتها الصغيرات.

حكت لي مريم أن الطقس في هذا اليوم لم يكن ينذر بشؤم، لا أمطار ولا برد، رغم أننا كنا في ديسمبر. أن اليوم الدراسي مر بسلاسة ولم تتعرض للضرب في كل الحصص من كل المدرسين، كما كان يحدث في الأيام الأخرى وعلى مدار تسع سنوات. رغم ذلك لم تأمن لليوم، كأن عذوبة الطقس كانت فخّاً ليدلّها على رضا الله. شعور آخر غامض كان يستعجلها لتعود إلى البيت وتنام القيلولة، على عكس عادتها، لتحلم أحلاماً أخرى.

لتُبطل الشعور الصباحي بأن حلم الأوتوبيس هو الحلم الأخير. عادت إلى البيت بالفعل، وكان أبوها ينتظرها وابتهج، على عكس العادة أيضاً، لرؤيتها تقترب. وعانقها، للمرة الأولى في حياته، وهو يأمرها أن تغير ملابسها وترتدي فستاناً جديداً. من عتبة الباب سمعت، أو هُيّئ لها أنها سمعت أغنية "طالعة من بيت أبوها/ داخلة بيت الجيران"، يقول أبوها كلمات لا تفهمها، وتسأل عن أمها.

حالما تدخل البيت، بيت من طابق أرضي فحسب، بثلاث غرف وصالة صغيرة، شبه خالٍ من الأثاث، تجد الأم بجانب فستان وأدوات مكياج رخيصة متناثرة: قلم روج، قلم كحل، مانيكير. "النهاردا فرحك، البسي ياللا"، تقول لها الأم بسرعة كأنها تتخلص من الكلمات، فيما تعمل على إخلاعها يونيفورم المدرسة وإلباسها ثياب داخلية جديدة ثم الفستان. ترش عليها كولونيا "خمس خمسات"، يحتفظ بها الأب ليستخدمها بعد الحلاقة في المناسبات فقط. تضحك مريم وهي تحكي عن رائحة الكولونيا، عن تقيؤها حين شمتها. لكن في ذاك اليوم البعيد لم يكن ذلك مضحكاً.

فكت مريم شعرها بأمر أمها، بلته بالماء وبزيت لا نوع له، كانت الأم تستخدمه لها ولبناتها على فترات بعيدة. قامت الأم بدور الكوافيرة، رسمتها بالروج والمانيكير والكحل، وأطلقت لها شعرها على ظهرها، فبدت أكبر سناً. تأكدت مريم أن أغنية "طالعة من بيت أبوها" لا تأتي من بيتهم، ولم تتحر لتعرف من أين تأتي.

بعد سنوات ستجزم لي أنها جاءت من داخلها، وأنها عرفت الحدث قبل أن يحكي لها أحد. أم وأب وابنة في الرابعة عشرة، خرجوا من بيت فقير متداعٍ ليتجهوا إلى بيت مجاور، على بعد مئتي متر أو أقل، بيت أكثر ثراءً، مُشيّد من الطوب الفرعوني، واسع، له حديقة، نساؤه جميلات ورجاله بهائم. تقول مريم: "قلبي كان بيتنفض من الرعب، كنت حاسة إني محكوم عليّ بالإعدام"، زاد الشعور بالإعدام أن فستانها كان أحمر. التفتت عدة مرات إلى بيتها بحسرة، في وداع أخير. تعثرت في خطواتها، نظرت إلى أمها مستجدية، وانتبهت الأم أن الابنة ستبكي، فحذّرتها "كدا هتبوظي الكحل".

التفتت عدة مرات إلى بيتها، بحسرة، في وداع أخير. تعثرت في خطواتها، نظرت إلى أمها مستجدية، وانتبهت الأم أن الابنة ستبكي، فحذّرتها "كدا هتبوظي الكحل"... مجاز في رصيف22

بيت وسيطة زواج القاصرات

في البيت الثاني، بيت الجيران، بيت وسيطة زواج القاصرات، كانت الصالة وحدها أكبر من مساحة بيتها وبيوت أقاربها المجاورين لها. وكان الأثاث الموزع على ثلاث قطع ملوناً، كل لون يمثّل منطقة مستقلة عن الأخرى. لم يلقوا الترحيب، ولا الابتسامة. ثلاث أخوات في أعمار متدرجة كن جالسات في الصالون المذهب، قامت الصغرى منهن وأمرت الأب بالدخول، فيما تفحصت الأختان مريم من أعلى إلى أسفل. على باب البيت خلعوا الشباشب، وساروا على سجاد أحمر أو متداخل الألوان.

أشارت الأخت الكبرى لمريم لتجلس هناك، حيث قطع الأثاث الحمراء الداكنة، فيما جلس الأب والأم معهن. بعد دقائق ظهر رجل ربما في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات، لم تعرف جنسيته، فهمت أنه عربي فحسب. في الدقائق الفاصلة شردت مريم في البيت، لم تحبه ولم تكرهه، تقول: "استغربته، كأن بيتنا هو البيت ودا له اسم تاني".

تحدث معها الرجل الغريب، لم تفهم لهجته. حاولت الحديث بالمصرية، فهمت قليلاً وجاوبت على أسئلته. من آن لآخر كانت تنظر إلى أبويها، كأنهما آخر ما يتبقى من البيت، لكنهما أعطياها ظهريهما، وانهمكا في حديث طويل لم تكن تسمعه، مع الأخت الكبرى المتسلطة والقوية. مد الرجل يده على صدرها الأيسر وقبض عليه لثوان، وهي تسمّرت في مكانها كتمثال.

تؤكد مريم أن قلبها توقف لثوان دون مبالغة، وعاد للعمل مرة أخرى، تقسم أنها تعيش الآن بمعجزة. ابتسم الرجل وأمرها أن تنهض وتسير أمامه. حينها لم تفهم السبب، لكنها فهمت بعد ذلك أنه كان يعاين البضاعة. حين نهضت وقعت، لم تحملها ركبتيها من الخوف. حاولت مرة أخرى وسارت عدة خطوات متعثرة، ثم استقامت خطواتها حين تذكرت الأوتوبيس.

قالت لنفسها إنه كان قاتماً جداً، وفي لحظة ظنت أنه يشبه هذا البيت، والركاب المقيدون هم هؤلاء الجالسون في الصالون المذهب. واصلت خطواتها حتى اقتربت من باب البيت، وانتبهت إلى أنه بوابة حديدية من ضلفتين، بزجاج أبيض خشن، وانتبهت إلى الجدران المكسوة بلوحات مثل "الطفل الباكي" و"الحصان الجامح". لم تكن رأت هذه اللوحات من قبل، كانت جدران بيتها خالية إلا من صورة أبيض في أسود لأبيها، مرسومة بالفحم. ستعرف بعد سنوات أنها لوحات الطبقة الوسطى. تناديها أمها لتعود، وفي عودتها تلمح دموعاً في عينيّ الأم. وفي عودتها يرن الجرس فتأمرها صاحبة البيت أن تفتح، رغم وجود خادمات. تجد أمامها شاباً يحمل دفتراً. تفهم أنه المأذون رغم أن لا يرتدي زي المأذون.

البيت القبر

الآن تنضم، هي والعريس، إلى ركن الصالون المذهب، وتصدح في البيت أغنية "طالعة من بيت أبوها/ داخلة بيت الجيران"، هذه المرة حقيقية بلا لبس. يطلب المأذون بطاقة الأب وجواز سفر الزوج وبطاقات الشهود، وهم أصحاب البيت نفسه. يسجل البيانات في دفتره بدون أن يسأل أحداً عن رأيه في الزواج ولا حتى يطلب منها أن تقول له زوّجتك نفسي وهذه الطقوس.

بعد أن يسجل البيانات، يخبر الجالسين أن الزواج تم بحمد الله وأنها الآن حليلته. تسحب الأخت الكبرى، المتسلطة، كيساً أسود من حقيبة ظهر بجوارها، وتسلّمه إلى المأذون. وتخرج كيساً أسود آخر وتسلّمه لأبي مريم، تنطق بالكاد كلمة مبروك، وتامر أبويّ أن يرحلا الآن، لأن العروسة، أي مريم، ستنتقل مع زوجها إلى بيت الزوجية بعد قليل.

لا يسأل أبوها عن مكان بيت الزوجية، ولا متى ستعود لرؤية أخواتها الصغار. وتشعر مريم بمغص، وينتابها شعور لا تعرف هل هو الرغبة في التقيؤ أم التبرز، شيء هو الغثيان، لكنها حينها لم تعرف اسمه.

كان الحمّام في عمق البيت، كان غرفة بمساحة غرفتين من بيتهم. كان حمّاماً إفرنجياً وليس بلدياً مثل حمّامهم الصغير. كان به مناديل، شامبوهات وبلسمات، حوض وحنفية، وكان مضاءً. في بيتهم لا شيء إلا الكنيف البلدي، والجلوس قرفصاء، والاستنجاء بكوز. في بيتهم الحمّام معتم، بلا حوض، له حنفية جانبية، ورائحته مقبضة، مثل رائحة حمامات الجوامع. جلست مريم على التواليت، وشعرت للمرة الأولى في حياتها بالراحة، تلفتت حولها لتفهم الميكانيزم المعقد، فتحت الشطاف قليلاً لتكتشف ماذا سيفعل، وشعرت بالماء يخرج بطيئاً وممتعاً ليطهرها، فتحته أكثر واستمتعت أكثر. كان ماءً دافئاً وكانت في الشتاء.

استغلت مريم الفرصة ووقفت أمام المرآة. مرآة كبيرة فوق الحوض، تبلغ المتر تقريباً. فكرت أن أكبر مرآة رأت فيها وجهها كانت بحجم راحة اليد. تقول مريم: "لأول مرة في حياتي أشوف نفسي في مراية، لحد اللحظة دي مكنتش أعرف تقاطيعي كويس". مع ذلك لم تحب هذا البيت، لم تكرهه أيضاً، لكنه ظل البيت الغريب. وحين تذكرت أنها تزوجت في التو، وأنها ستخرج الآن من هذا البيت إلى بيت آخر غريب، هربت دموع كبحتها، إذ فكرت في كلمة أمها "كدا هتبوظي الكحل"، فأطاعت أمها حتى في غيابها.

في الحلم، لم يتغير البيت القديم عن الواقع، لكنه كان ضبابياً. نامت مريم وصحت عدة مرات، كانت تشعر باختراق عضو لجسدها، تتألم في صمت حيناً، ولا تبالي حيناً، كأنها منومة مغناطيسياً... مجاز في رصيف22

مستسلمة، خاضعة، تائهة، خرجت مريم مع العريس. كان ينتظرهما سائق بسيارة فارهة، انطلق بهما إلى مدينة لا تعرفها، فيما كانت تتأمل الشوارع كوداع أخير. لقد فهمت مريم ما سيحدث، يد الرجل الممتدة إلى فخذها، محاولاته المتلهفة لتقبيلها، يده القابضة على يدها وتسحبها اتجاه عضوه لتمسكه، كانت تفاصيل كاشفة لكل نفس ساذجة.

توقّفت السيارة أمام بناية عالية، ربما من اثني عشر طابقاً. هبطا، ركبا الأسانسير، فتح هو باب الشقة. كان ثمة خادمة بالداخل تجهز الغداء وظهرت بعد دقائق بطعام لم تعرفه مريم من قبل. تقول مريم إن هذا البيت كان قبراً. لم يكن كذلك لضيقه أو لقبحه أو لظلامه، فالبيت كان واسعاً ومضاءً وأنيقاً، لكنها شعرت به قبراً، لم تتنفس بداخله، هرب منها الأوكسيجين وظل قلبها ينبض بوتيرة لا يحتملها إنسان. القدر حل المسألة حين أغمى عليها، ولمّا فاقت كان الرجل قد اغتصبها بالفعل. لا هو أكل ولا هي، لكن لأسباب مختلفة. خلال ساعات لم تمر ولا دقيقة واحدة بدون لمس، عرّاها تماماً وتأملها في كل الأوضاع، ضربها في كل مكان في جسدها، وقبّلها في كل مكان أيضاً. من التعب والإرهاق نامت بحلول الليل، وحلمت ببيتها القديم، بيت أبيها. رأت أنها عادت إليه ركضاً، وحين دخلته كان الأب بلا أنف، والأم صلعاء. في الحلم، لم يتغير البيت القديم عن الواقع، لكنه كان ضبابياً. نامت مريم وصحت عدة مرات، كانت تشعر باختراق عضو لجسدها، تتألم في صمت حيناً، ولا تبالي حيناً، كأنها منومة مغناطيسياً.

العودة للبيت الأوّل

باتت مريم ليلة واحدة فقط في بيت زوجها، وفي الصباح لم تجده، وعرفت من الخادمة أنها شقة مفروشة. على الكومودينو، بجوار السرير، ترك لها ظرفاً ممتلئاً بالفلوس. سحبت منه ما يكفي كأجرة تاكسي إلى بيتها وتركت الظرف. كانت ترتدي نفس الفستان الأحمر، لكنها مسحت الروج والكحل ولمت شعرها. في البيت، استغرب أبوها عودتها سريعاً، الأم لم تستغرب.

تتجنب مريم دراماتيكية الحكي، تعبر هذه اللحظات بدون توقف طويل. العودة إلى البيت، كل ما كان يشغلها. يوم واحد خارج البيت حدث فيه كل ذلك. فكرت مريم حينها أنه "حدث كل ذلك"، لكن بعد أيام ستكتشف أنه لم يكن زواجاً، أن المأذون مزيف والدفتر مزيف، وبعد أشهر قليلة ستعرف أنها حامل. ستنجب مريم ولداً تنسبه لأبيها، فيكون ابنها الشرعي أخاها القانوني.

تقول مريم إنها كانت تحتاج إلى سنوات حتى تفسر حلم الأوتوبيس، وحتى تتعرف على بنات كثيرات أخريات عشن نفس التجربة، وأصبحن أخوات لأبنائهن. ورغم أنها انتقلت من مدينة لمدينة ومن بلد لبلد، لا تزال تحلم ببيت أبيها، حتى لو خذلها، البيت أو الأب. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard