شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
معذرة تودوروف... لقد أكل الحمار الديمقراطية

معذرة تودوروف... لقد أكل الحمار الديمقراطية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 17 أكتوبر 202111:49 ص

يوم 13 أكتوبر2012، الساعة العاشرة صباحاً، كنت في الصفوف الأولى في قاعة كبرى بمدينة العلوم بتونس، في يوم ممطر، عندما رأيته. كان الرجل الذي شغل الجامعيين التونسيين والعرب سنوات، حتى لا يكاد يخلو بحث في الآداب الحديثة من ذكره.

تهافت عليه الناس يلتقطون الصور معه، بينما وقفت بعيداً لألتقط له صوراً يظهر فيها بشعره الأبيض الأشعث ووجه الحاد، قبل أن ينهض من كرسي بالمدرّج ويعلو المنصة، بجانب اثنين من الجامعيين، مهّدا له بما شاء واشتهى من عبارات التبجيل والتقدير.

 غير أن الرجل جاء إلى الشعب الذي يعيش بداية مخاض ديمقراطي بكتاب ثقيل.  سمعت محاضرته اللعينة وقتها وعدت إلى بيتي أصب عليه جام غضبي. لم يكن الضيف الثقيل سوى المفكر البلغاري تزفيتان تودوروف، ولم يكن الكتاب الثقيل سوى "أعداء الديمقراطية الحميمون".

لم أستطع أن أشفى من تلك المحاضرة اللعينة وأفكار ذلك الكتاب إلا عندما حوّلت تودوروف إلى شخصية روائية اقتحمت روايتي "عشيقات النذل"، في سياق نقد "عبدة النقاد"، مقابل عبدة النموذج الإبداعي الذي اخترت له غابرييل غارسيا ماركيز.

كنت ساخطاً على هذا الرجل الذي جاء يحبطنا ويضع سطلاً من حديد على نبتة الديمقراطية التي كنا نحاول أن نسقيها بدمنا. سخطي بالأساس كان على رجل وكاتب منحدر من ديكتاتورية عريقة هي بلغاريا، ووجد في فرنسا الديمقراطية ملجأ وملاذاً لكي يكتب ويعبر بحرية. واستحضرت ما قرأته له يوماً في حوار منقول عن "مجلة العلوم الإنسانية" عدد ديسمبر 2009، يتحدث فيه عن تجنبه الخوض في السياسة في بلغاريا قائلاً:

"كبرت في بلغاريا خلال السنوات التي أعقبت الحرب. ولم تكن الشمولية التي تسودها تشجّع على الالتزام. فهي لم تكن لتسمح سوى بدربين؛ فإمّا أن تشقّ طريقك في صلب الحزب الشيوعي، وإمّا أن تنصرف تماماً عن الحياة السياسية. وأنا اخترت مثل الكثير من البلغار هذا الدرب الثاني.

يعتبر تودوروف أن الديمقراطية التي تدّعي مقاومة الديكتاتورية بدأت تفرز  ميكانزمات فنائها من الداخل، حيث ستتحول نفسها إلى دوغما وحالة من الاستبداد، تتمسك بالشكلانية الديمقراطية دون أن تنتجها، فنصبح أمام مسوخ للديمقراطية وأقنعة لأجسام ديكتاتورية مخفية

كنت أقيم قطيعة جذرية بين (هم)، أعني من كانوا يديرون البلاد، وبيني. وهكذا تلقّيت نوعاً من التلقيح الذي أبقاني لفترة طويلة بمنأى عن أي اهتمام سياسي. ولكني تغيرت بعد سنة 1973، وهي السنة التي حصلت فيها على الجنسية الفرنسية".

يرى تودوروف أن الديمقراطية التي تدّعي مقاومة الديكتاتورية بدأت تفرز  ميكانزمات فنائها من الداخل، حيث ستتحول نفسها إلى دوغما وحالة من الاستبداد، تتمسك بالشكلانية الديمقراطية دون أن تنتجها، فنصبح أمام مسوخ للديمقراطية وأقنعة لأجسام ديكتاتورية مخفية.

ويرى تودوروف أنه سيكون من الصعب التصدي لهذا المسخ، لأن القوى المعارضة لها تصطدم بتلك الشرعية التي ترفعها هذه المسوخ الديمقراطية شعاراً. فأمور كالانتخاب والتعددية الحزبية والدساتير والقوانين كلها تحولت عائقاً أمام تشكل الديمقراطية الحقة وتكريس هذا المسخ الجديد الذي يتقنّع بالديمقراطية ويلاعب الكل بأسلحة الديمقراطية نفسها.

وهكذا سنكون في صراع بين الليبيرالية القصووية والتي تؤمن بالرأسمالية المتوحشة التي هيمنت على الاقتصاد والاعلام والقضاء، والشعبوية التي ستنشأ من اليأس الشعبي، وتظهر بالأدوات الديمقراطية نفسها لتستولي على السلطة وفق شرعية شعبية.

النموذج التونسي

أثبت النموذج التونسي صدق تصوّرات تودوروف، فممارسة الديمقراطية هي التي أطاحت بالديمقراطية الحقة، وإن وصلت تونس إلى انقلاب عسكري اليوم، (لم يظهر فيه الجيش بكل فجاجة لكنه يدعم الانقلاب) فقد وصلت إليه عبر مكوّناتها السياسية التي وصلت إلى البرلمان والحكومات ومواقع صنع القرار  بوسائل ديمقراطية.

في تونس الرجل الذي أجهز على المسار الديمقراطي وعلق العمل بالدستور وأغلق البرلمان هو نفسه الرجل الذي وصل قصر قرطاج عبر ممارسة الشعب لحقه  الدستوري وفق النموذج الديمقراطي

فالذين تسبّبوا في إغلاق البرلمان والإطاحة بالدستور هم النواب الذين وصلوا إلى البرلمان بطرق ديمقراطية وعبر صناديق الاقتراع، ولكنهم رذلوا العمل البرلماني، وجعلوه مطية للانقلاب وذريعة لتصفية الديمقراطية.

والرجل الذي أجهز على المسار الديمقراطي وعلق العمل بالدستور وأغلق البرلمان هو نفسه الرجل الذي وصل قصر قرطاج عبر ممارسة الشعب لحقه  الدستوري وفق النموذج الديمقراطي. والشعب الذي يستند اليه الرئيس المنقلب على الدستور والمعلق للبرلمان هو شعب ذهب سنة 2019 لينتخب،  وكان مؤمناً أن الصندوق هو المرجعية الشرعية الوحيدة، وهو طريق الديمقراطية التي يطمح إليها والتي يعلق عليها كل أحلامه.

انقلب هذا الشعب على نفسه، وأوقف العمل بنتائج الممارسة الديمقراطية، لينادي بحل البرلمان وإبطال العمل بالدستور، ونادى قسم منه بتدخل الجيش لتنفيذ القرارات الاستثنائية.

تحول خطاب هذا الشعب إلى خطاب ساخر من كلمة ديمقراطية نفسها، بل صار يسخر حتى من كلمة حرية، ويعتبر أنه لا معنى لها في ظل تفاقم الفقر وانتشار الجوع. والغريب أن هذا الشعب نفسه هو الذي نزل سنة 2011 إلى الشارع، ينادي بإسقاط الديكتاتورية والدولة البوليسية تحت شعارات معينة أشهرها "خبز وماء وبن علي لا".

فما الذي جعل هذا الشعب الزاهد في الدنيا والذي به شوق إلى الحرية والديمقراطية ينقلب على نفسه؟ ما الذي جعل هذا الشعب الذي جاء بالديمقراطية يمقتها كل هذا المقت؟ 

لم يكن مصير الديمقراطية  المدعومة دولياً في تونس، عبر الاقتصاد والسياسية والبروباغندا الإعلامية إلا الهزيمة أمام واقع البؤس الشعبي، وتتحول كل تلك الأطياف السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنخبة ودعاة حقوق الإنسان إلى  عبء على المواطن الذي  اكتشف أنه وقع التحايل عليه

الديمقراطية الجوفاء

يشير تودوروف إلى أن هذه الديمقراطيات هي ديمقراطيات واهمة، وكما لم يتمكن الغرب من إحداث الديمقراطية في العراق وأفغانستان بالقوة وبالسلاح فإنها حتى في نموذجها السلمي تبقى هشة ومؤهلة للانكسار بسرعة.

وهذا تماماً ما حصل في أفغانستان اليوم، وخروج الأمريكان حاملي مشروع دمقرطة أفغانستان باتفاق مع أعداء الديمقراطية نفسها، والتي كانت سبب في دمار أفغانستان والاجتياح الأمريكي: حركة طالبان.

وذات الشيء في تونس، لم يكن مصير الديمقراطية  المدعومة دولياً عبر الاقتصاد والسياسية والبروباغندا الإعلامية إلا الهزيمة أمام واقع البؤس الشعبي والاجتماعي، وتتحول كل تلك الأطياف السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنخبة ودعاة حقوق الإنسان إلى  عبء على المواطن الذي  اكتشف أنه وقع التحايل عليه وبيع أوهاماً باسم الديموقراطية.

إن هذا الوضع لم يكن مفاجئاً، بل كان حالة تبنى لبنة لبنة منذ 2011، حيث تتراكم الإخفاقات السياسية، وتتخندق النخبة والمؤسسات الإعلامية وراء مصالحها الخاصة، دون أن يكون لها أي مشروع ديمقراطي حقيقي يعنى بالإصلاح ومقاومة الفساد.

الأحزاب المحمضة

بدت الأحزاب التونسية بعد قرارات 25 تموز/يوليو مثل الطعام الفاسد الذي ترك في الثلاجات أثناء السفر. كانت علباً "مصوّفة" عطنة تبحث عن أكياس قمامة لتقذف نفسها بنفسها داخلها، وهو ما تمثل في التصدعات التي عرفتها والاستقالات الكثيرة التي شهدتها من قادتها وأنصارها.

"ليس الشعر في أن تقول كل شيء، بل الشعر في أن تُحلم النفس بكل شيء"، فهل يمكن أن نعيش الحالة الديمقراطية كحالة شعرية  ونُحلم بها أنفسنا حتى وإن لم تحقق أي شيء؟

وتحول بقدرة قادر الزعيم السياسي أو القائد الحزبي إلى  مجرد "كرونيكور" أو "فيسبوكر"، يقدم فقرة فيسبوكية، وفي أقصى الحالات يتحول إلى مدوّن يقدم رأياً خجولاً ويختفي، ليجني مجموعة من اللايكات والتعليقات على صفحته أو صفحة حزبه، وهي في الغالب ضده، فيضطر إلى إغلاق خانة التعليقات، كما فعل محمد منصف المرزوقي، لينتج خطاباً أحادياً هو نفسه غير ديمقراطي، لشخصيات تدّعي الدفاع عن الديمقراطية باعتبارها رأياً ورأياً آخر.

وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل يمكن أن نثق في الحشود وحتى الحشود المنظّمة في أحزاب ونحن نراها تفرّ من أحزابها ومن حول زعمائها وتلتحق بالأقوى؟ وهل مازال للتحشيد من معنى في ظل وجود هذه السياحة الشعبية مع الأقوى كما السياحة البرلمانية؟ هل من معنى لممارسة السياسة والمناداة بأنظمة ديمقراطية في مجتمعات تعشق القوي حتى لو كان مغتصباً؟

من أين أتت هذه الروح وهذا الوعي؟

أليست هي نفسها الروح التي  أرجعت اللبنا فضل شاكر إلى الغناء بعد ظهوره مهدداً الشعب اللبناني ومعلناً أنه أسقط "فطيستين"؟ أليست هي نفسها الروح الشعبية التي دافعت بضراوة على الفنان المغربي سعد المجرد المتورط في عمليات اغتصاب متكررة؟

أليست هي نفسها الروح التي  أنتجت البرامج المدافعة عن فنان المزود، العربي الماطري، الذي اغتصب طفلاً وأجهز عليه في مقبرة؟ أليست هي نفس الروح التي جعلت عبير موسي، التي ظلت متمسكة بوفائها للرئيس المعزول  زيد العابدين بن علي، أول منافس اليوم للرئيس؟

وإذا كان مشروع قيس سعيد اليوم ليس فيه من نقطة واضحة كما نقطة إبادة الأحزاب السياسية، فهل تغييبها يمثل مشكلاً حقيقياً للتونسيين؟ أليست زائفة وضعيفة ولا تستحق الثقة، وآن للشعب أن يقرر مصيره خارجها؟ وأنه أفضل له أن يواجه ديكتاتورية واضحة على ديمقراطية مزيفة؟ ألا يؤكد هذا ما ذهب إليه البلغاري تودوروف عن أزمة الديمقراطية وخيانتها من الداخل في كتابه "الأعداء الحميميون للديمقراطية"؟

 ولكن متى كانت الديكتاتورية والأنظمة الشمولية هي الحل؟ ألم تكن وبالاً على الشعوب في العالم عبر التاريخ؟

إذا قال سانت بوف يوماً: "ليس الشعر في أن تقول كل شيء، بل الشعر في أن تُحلم النفس بكل شيء"، فهل يمكن أن نعيش الحالة الديمقراطية كحالة شعرية  ونُحلم بها أنفسنا حتى وإن لم تحقق أي شيء؟

الواضح والجلي هو واجب الاعتذار لتودوروف الذي كان على حق وأن الديمقراطية بدأت تنتج أعداءها الحميمين من داخلها، فمعذرة تودوروف، لقد أكل الحمار الديمقراطية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image