لم أنسَ ذلك اليوم الذي هاتفتني فيه صديقتي، وصوت بكائها يعلو فوق أي صوت حولها وحولي. انتابني الفزع والخوف، وتصوّرت أن لديها حالة وفاة، أو أي كارثة أخرى دعتها إلى ذلك الانهيار. بدأت أهدّئ من روعها، وبكائها، وسألتها عن سبب انهيارها، فأخبرتني بأن أشقاءها قاموا بقصّ شعرها، وهي نائمة، من دون أن تشعر، وجعلوها حسب وصفها "شبه الرجالة"، والسبب أنها رفضت ارتداء الحجاب!
وعلى الرغم من أنني علمت سبب انهيارها، إلا أن الفزع ظل يتملكني، ولكنني بدأت باستجماع كلماتي، لأتحدث بهدوء، ولن أخفي أنني فشلت في ذلك، وتحدثت بنبرة تحمل عصبية شديدة، ولكن تكسوها الشفقة عليها، وسألتها من أين أتى أشقاؤك بذلك التفكير، قائلةً لها حرفياً: "اللي يفكر كده، أكيد إنسان مش طبيعي. إخواتك محتاجين يتعالجوا نفسياً". وهنا، جاءتني الدهشة والصدمة على حد سواء، حين أخبرتني صديقتي بأن هذا الأمر من سمات عائلتها على وجه خاص، وبعض الأهالي في بعض المناطق الشعبية عموماً، ورددت كلمات حاولت استيعابها، مفادها أن بعض الأهالي، وبعد بلوغ الفتاة، يلجؤون إلى العديد من الحِيَل، كي يجبروها على ارتداء الحجاب، منها قصّ شعرها، وبعضهم يلجؤون إلى ضربها، أو حبسها في المنزل، وعدم السماح لها بالخروج من دون "طرحة" تغطي رأسها، واصفين تاركة الحجاب بالكافرة، وخالعته بالارتداد عن الدين الإسلامي، أو ارتكاب كبيرة تستحق العقاب في الدنيا والآخرة.
مرّت أعوام كثيرة، ولكنني ما زلت أتذكر ذلك الموقف، وكأنه حصل في الأمس. ما زلت أتذكر نبرة صوت صديقتي وقتها، والتي كان يملأها الخوف، والحزن، وقلة الحيلة أيضاً، وما زلت أتذكر ما نطق به لساني: "ربنا أرحم من البشر بكتير".
للأسف الشديد، في المجتمعات العربية، ربط أي شيء يمس المرأة بجملة "ربنا قال كده"، أو "ديننا حكم بكده"، وهي جملة قد تكون بعيدة البعد كله عن الحقيقة
ظل ذلك الموقف عالقاً في ذهني، وفتح المجال لأسئلة من قبيل، لماذا لا يتم تسليط الضوء على العديد من الأحكام الدينية المغلوطة، وشرحها، وتصحيحها لتتناسب مع أحكام الدين الصحيحة، ومع الرحمة الإلهية للبشر؟
وعلى الرغم من أن هذا السؤال يبدو في ظاهره بسيطاً، إلا أنه يفتح الباب للعديد من القضايا الشائكة، وخاصةً القضايا التي تمس المرأة، إذ إنه يتم، وللأسف الشديد، في المجتمعات العربية، ربط أي شيء يمس المرأة بجملة "ربنا قال كده"، أو "ديننا حكم بكده"، وهي جملة قد تكون بعيدة البعد كله عن الحقيقة، وعن الأوامر الدينية، ولكن استخدام تلك الجمل يجعل الصمت يسود الألسنة، أو بالأحرى يجعلنا نخمد أي شرارة للتفكير في أي قضية شائكة من وجهة نظر المجتمع.
ومنذ فترة، بدأت أتابع فتاوى دار الإفتاء وتصريحاتها، التي تقوم بدورها، وتحرص على تصحيح الكثير من الأمور المغلوطة التي يرددها البعض، من دون وجود أي سند صحيح لها، سواء في القرآن، أو في السنّة، أو في الدين من الأساس، إذ تقوم الدار بتفنيد تلك الأحكام، وتصحيحها، وتسليط الضوء على عدم السير خلف أي أحكام غير حقيقية، وخاصةً في ما يخص الأحكام في بعض الأمور التي تمس النساء، ولن أنكر أن هذا الأمر جعلني في حالة سعادة، ورضا، وحب أكثر، لمفهوم الرحمة الإلهية التي وردت في الأديان السماوية.
هل تحاسَب المرأة، ولا يحاسَب الرجل؟ أو بالأحرى هل يفوز الإنسان بالجنّة، ويعذَّب في النار، حسب جنسه؟
وبدأت أردد وأنشر فتاوى دار الإفتاء، سواء في جلسات الأصدقاء، أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، إلى أن فوجئت برد فعل غريب من أحد الأصدقاء الذي يحمل أعلى الدرجات العلمية والوظيفية أيضاً، وللأسف الشديد انسقت معه في نقاش صادم أعرب من خلاله عن رأيه بطريقة تعسفية، مؤكداً أن دار الإفتاء أصبحت تتحدث في أمور أحكامها منتهية، ولا يجوز الحديث فيها، واصفاً أحكام الإفتاء بأنها ليست بالصرامة الكافية للرجوع عن ارتكاب الذنب، وخاصةً الأحكام التي تمس قضايا النساء!
وبعد نقاش طويل، أو بمعنى أدق بعد جدال عقيم، اعتقدت أن وجهة النظر هذه تعبّر عن مجرد رأي فردي لشخص متعصب وجاهل بالأمور الدينية، ولكن أخذني الفضول، وبدأت أتابع تعليقات العديد من الأشخاص على الصفحة الرسمية لدار الإفتاء، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ووجدت آراء لا تنمّ عن تعصب فحسب، ولكن أيضاً عن تشوّه فكري في مفهوم الدين، والفروض، والأحكام الدينية أيضاً.
وجدت العديد من الأشخاص يعبّرون عن رفضهم لأحكام دار الإفتاء بصورة فجة، ويشككون في مدى علم مطلقي تلك الفتاوى، وللأسف أغلب تلك الآراء تصدر من رجال، وبالطبع هذا الغضب الذكوري لم يصدر سوى على الفتاوى أو الأحكام التي تخص النساء، وذلك بعد أن أنصفت الدار المرأة، في الكثير من الفتاوى، لتصحيح مفاهيم مغلوطة، طالما انتشرت وظلت تتردد في المجتمع، من دون أدنى وعي.
وأصدرت دار الإفتاء فتاوى عدة مؤخراً، توضح مدى إنصاف الدين للمرأة، ولكنها من وجهة نظر المجتمع أحكام لقضايا شائكة، أو بالأحرى مسكوت عنها، وأبرزها حكم الحجاب، إذ أوضحت دار الإفتاء أن الحجاب فرض، ولكن خلعه ليس من الكبائر، إلى جانب الحكم بأن المرأة غير ملزمة بالإنفاق في منزل الزوجية، وليست ملزمة بخدمة الزوج والأبناء، وتقوم بذلك تفضّلاً منها، إلى جانب وجوب إنفاق الزوج على زوجته، وتوفير المأكل والملبس لها، كما أكدت دار الافتاء على أن للزوجة ذمة مالية منفصلة عن الزوج، وليس من حقه إجبارها على الإنفاق.
ومن الفتاوى التي أصدرتها دار الإفتاء قبل فترة، وتجدد الحديث حولها مؤخراً، وأحدثت جدلاً كبيراً على الساحة، في الفترة الأخيرة، هي فتوى جواز لجوء الفتاة إلى إجراء عملية ترقيع غشاء البكارة، إذ كشفت دار الإفتاء أنها تجوز لحالة فتاة تعرّضت للاغتصاب، أو فتاة أخطأت وتسعى إلى التوبة، وتكوين أسرة. وعلى الرغم من أن دار الإفتاء استشهدت بحدث في عهد عمر بن الخطاب، حين قام بتزويج فتاة وقعت في الخطأ، وأرادت التوبة، زواج الأبكار، إلا أن هذه الفتوى أحدثت بلبلة، ولاقت انتقادات من كثيرين.
وفي الحقيقة، انتقاد البعض دار الإفتاء، لمجرد أنها توضح مدى إنصاف الدين للمرأة، ليس أمراً جديداً، ولكنه جزء من تراث ذكوري بحت، ومن موروث اجتماعي، سواء مصري، أو عربي، يقضي بجلد المرأة، ونبذها، وأحياناً قتلها، وحرمانها من حقها في التوبة، أو في إصلاح نفسها إذا ارتكبت أي خطأ، في حين أنه إذا ارتكب رجل الخطأ نفسه، يُصنَّف تحت خانة الطيش، أو ضعف النفس البشرية، أو غيرها من المسميات التي تفتح أمامه أبواب التوبة، وتُقصر التوبة على الرجال فحسب، وكأن المغفرة والرحمة مخصصتان للرجال دون النساء، وتُحددان على أساس النوع.
إن انتقاد البعض دار الإفتاء، لمجرد أنها توضح مدى إنصاف الدين للمرأة، ليس أمراً جديداً، ولكنه جزء من تراث ذكوري بحت، ومن موروث اجتماعي، سواء مصري، أو عربي، يقضي بجلد المرأة، ونبذها، وأحياناً قتلها، وحرمانها من حقها في التوبة، أو في إصلاح نفسها إذا ارتكبت أي خطأ
وهو ما يتضح من خلال جرائم الشرف التي يروح ضحيتها العديد من النساء، في المجتمعات العربية، حين يقرر زوج، أو أب، أو أخ، قتل زوجته، أو ابنته، أو شقيقته، تحت مبدأ "أغسل عاري بإيدي"، إذ أصدر المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إحصائية قبل أعوام، توضح أن 92% من الجرائم الأسرية في مصر، تأتي تحت اسم جرائم الشرف، و70% من تلك الجرائم ارتكبها أزواج ضد زوجاتهم، و20% منها ارتكبها أشقاء ضد شقيقاتهم.
وهناك تقرير آخر، أيضاً صادر عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر، يفيد بأن 70% من جرائم الشرف أخذ مرتكبوها بالشائعات، من دون وجود أي حالة تلبّس!
وهذا يدعونا إلى طرح سؤال: هل تحاسَب المرأة، ولا يحاسَب الرجل؟ أو بالأحرى هل يفوز الإنسان بالجنّة، ويعذَّب في النار، حسب جنسه؟
أعتقد أننا في حاجة ماسة إلى تصحيح العقول، قبل إصدار أحكام "جهنّم وبئس المصير" على النساء، لمجرد أنهن نساء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...