حياكة الكلام
وجدت نفسي فجأة، بالإضافة إلى رعاية أمي، ملزماً بالقيام بأشغال البيت: الكنس، التنظيف، غسل الملابس، الطبخ... أتذكر أنني في سن الثانية عشرة كانت أول مرة أقلي فيها بيضة: تركتها لعشر دقائق على النار، لاهياً بمشاهدة التلفاز، حتى احترقت تماماً... أما الآن فأستطيع تدبر نفسي من خلال ما هو اقتصادي ومتوفر: البيض، التونة، المعكرونة، الأرز، البطاطس، العدس... أحياناً من خلال بعض الخضراوات أُحضّر وجبة ما، مرتجلة دائماً، لكنها تفي بالغرض.
أسيقظ في الصباح، أصنع لنفسي فنجان قهوة، أشربه على عجل. أسخّن حساء البطاطا المتبقي، أوقظ والدتي، أمسح وجهها بفوطة مبللة، أطعمها حساء البطاطا، أو أي حساء آخر، وأمسح ما يسقط من فمها، وأعطيها الدواء. أغطيها جيداً، وأغادر إلى الكلية.
عند عودتي من الجامعة أعرج على المخبز وأشتري خبزاً، يكون في ذلك الوقت من الظهيرة ساخناً وشهياً. أشتري علبة تونة أو بعض البيض، وأحياناً أشتري سندويتش من أحد المطاعم المنتشرة في حي الأطلس. أشتري المعكرونة والبيض وعلب التونة بكميات كبيرة حتى لا أضطر للتسوق في كل مرة.
في المساء، أحضّر حساء البطاطا لوالدتي: أقطع البطاطا والبصل داخل قدر كبير، يتسع لكمية أكبر من الحساء، وأطحنه في النهاية. أو أمزج أنواعاً متعددة من الخضر: جزر، قرع أخضر، قرع أحمر، لفت... أكتب داخل المطبخ، وسط الأواني والتوابل والثلاجة والموقد، فوق الطاولة الخشبية المهترئة، أكتب قصيدة أو قصة، وأتولى تحريك القدر أو المقلاة. أعود مرة أخرى للكتابة، ثم أقوم لإضافة الزيت أو التوابل أو الملح. التقطيع، إضافة الصلصة إلى المعكرونة... ظننت بداية أن الأمر سيكون صعباً: المزج بين الأعمال المنزلية المرهقة وبين الكتابة التي تتطلب الكثير من التركيز، لكنني نجحت في المزاوجة بينهما. اكتشفتُ بعد ذلك أن سيلفيا بلاث كانت تزاوج بين أعمال البيت ورعاية طفليها وبين الكتابة، حتى وهي تكتب جرسها الزجاجي.كانت تكتب بدأب وترعى بيتها.
وجدت نفسي فجأة، بالإضافة إلى رعاية أمي، ملزماً بالقيام بأشغال البيت: الكنس، التنظيف، غسل الملابس، الطبخ... أتذكر أنني في سن الثانية عشرة كانت أول مرة أقلي فيها بيضة: تركتها لعشر دقائق على النار، لاهياً بمشاهدة التلفاز، حتى احترقت تماماً... مجاز في رصيف22
أحظى بقسط وفير من النوم يوم السبت. أستيقظ رائقاً وفي مزاج جيد. أٌفطر، أضع والدتي في مكانها، أطعمها وأعطيها الدواء. أثرثر قليلاً لكسر الصمت، وأغادر المنزل في حوالي العاشرة والنصف للتسوق. أشتري السمك والخضر، التوابل والملح والثوم والقهوة، الطماطم المركزة، الخل، الأرز... تمكنت من خلال ذلك التعامل مع البائعين ومع النقود، البحث عن المكونات الجيدة و الطرية.
أعرج على المخبز وأشتري الخبز بكميات أكبر، لأن المخابز لا تفتح أيام الأحد، وأحفظه في أكياس بلاستيكية داخل الثلاجة. وفي المنزل أصنع لنفسي فنجان قهوة يُمَكّنني من التركيز أثناء الطبخ. أُخرج الخضر من الأكياس، أضعها في الثلاجة وأغسل ما أحتاجه لأجل الغداء. أُفرغ التوابل والملح و القهوة في قواريرها. أغسل الأرز ثلاث مرات وأضعه للسلق، وفي قدر آخر أضع البطاطا.
أحتسي رشفة من قهوتي. أغسل السمك داخل المجلى وأنزع أحشائه بدقة، يترك ذلك رائحة لزجة في اليدين. أُقشّر البصل، تدمع عيناي كالعادة، أستطيع تحمل دموع البصل. أحتسي قهوتي التي بدأت تبرد. أضع البصل في المقلاة مع قليل من الزيت وأحرّك، أصفي البطاطس وأضيفها إلى البصل ثم الملح والتوابل، وأحرك كيلا تحترق. أغمس السمكات في الدقيق المتبل وأسخن الزيت. من بعيد أضع سمكة في الزيت المغلي، سمكة تلو سمكة... يصلني ضجيج الشارع و صوت التلفاز إلى المطبخ.
أضع الأرز في طبق، وأقطع الخيار و الطماطم وأضع الملح والخل. أضع السمك المقلي المُتبل المقلي في طبق، وأترك البطاطس مع البصل في المقلاة... يكون فنجان القهوة قد انتهى. أحمل كل ذلك إلى غرفة المعيشة، وأجلس للغداء ومشاهدة التلفاز.
داخل كيس من الكتان وضعت أمي ثمانية كتب طبخ مصورة، وأربعة دفاتر متوسطة الحجم. كانت الدفاتر الأربعة مليئة عن آخرها بالوصفات، حتى الهوامش كانت تمتلئ في أحيان كثيرة بوصفة أو اثنتين، بحسب ما تسمح به مساحة الهامش المستطيلة. وصفات كثيرة ومتنوعة للعديد من الأطباق، حلويات، مملحات، أطباق اللحم والدجاج والسمك، صلصات، كريمات، معجنات... والكتب الثمانية تحمل صور الأطباق، وصوراً لأياد تعد الأطباق حسب تسلل الوصفات مع شرح مفصل.
أتذكر أن والدتي كانت تقضي وقتاً طويلاً في قراءة هذه الدفاتر والكتابة فيها، خصوصاً عند العصر، وهي جالسة في نفس المكان الذي ترقد فيه الآن بلا حراك، ونور الشمس القادم من النافذة يتساقط عليها وهي تُقلب الصفحات. بعد ذلك تدخل المطبخ وتبدأ بتحضير الحلويات، وكنت أُراقبها بنوع من الغرابة واللامبالاة، وهي تخلط المقادير وتصنع الكريمات وتُدخلها إلى الفرن، لتُخرجها بعد ذلك ساخنة، أو باردة من الثلاجة، مغطاة بالكريمة أو الشكولاتة، شهية ولذيذة.
لم أعرف أبداً كيف تحولت أمي، بعد عودتها من دمشق، من طالبة فلسفة إلى "حلوانية" تحت الطلب، تصنع حلويات للأعراس والمناسبات والجنائز، حلويات تقليدية وعصرية ومملحات وكعكات أعياد ميلاد عليها أسماء وعبارة: "سنة حلوة ياجميل". سيارات تقف أمام باب العمارة، يتسلم أصحابها طلبياتهم، ليتصلوا بعد ذلك ويبدوا إعجابهم بالحلويات وبالأيادي التي صنعتها، نفس اليدين اللتين أغسلهما كل يوم، واللتين تيبستا لقلة الحركة، وصارت أصابعهما مثل جذوع الأشجار...
كنت أحاول أن أعرف العلاقة بين أفلاطون و أرسطو وابن حيان وابن رشد وايسبينوزا وهايدغر وسارتر، وبين البيض والدقيق والخميرة والكاكاو والكريم شانتيه وورق الجيلاتين... ربما يكون الطبخ فلسفة أيضاً.
كنت أحاول أن أعرف العلاقة بين أفلاطون و أرسطو وابن حيان وابن رشد وايسبينوزا وهايدغر وسارتر، وبين البيض والدقيق والخميرة والكاكاو والكريم شانتيه وورق الجيلاتين... ربما يكون الطبخ فلسفة أيضاً... مجاز في رصيف22
وسط كل هذه الوصفات المتنوعة، التي بدت لي صعبة، مليئة بالمقادير والملاحظات، وتتطلب الكثير من الحرفية و الاتقان... عثرتُ على وصفة لكيكة بالشكولاتة. وصفة سهلة، بلا مقادير كثيرة، أو مراحل طويلة. فقررت أن أُحضر كيكة، للمرة الأولى في حياتي.
دونتُ المقادير في ورقة وأعدت الدفتر إلى الكيس. وفّرت المقادير: دقيق، بيض، خميرة، زيت، سكر، كاكاو، مكسرات، زبيب، نصف لوح شيكولاتة داكنة. مزجتُ المكونات مع بعضها البعض، وأضفت المكسرات و الزبيب والشكولاتة... مزجت كل ذلك حتى حصلت على عجينة متجانسة ومتماسكة، كما تقول الوصفة. ذهنتُ القالب بالزبدة، ورششت عليه بعض الدقيق. قبل ذلك كان علي تسخين الفرن. استغرق الأمر بعض الوقت حتى تمكنت من ذلك. بحذر وضعتُ القالب في الفرن مثلما تضع أم طفلها داخل حضانة للمرة الأولى، وبقيت أُراقب الكعكة من خلال زجاج الفرن وهي تنتفخ وترتفع، وتكتسب لوناً بنياً داكناً.
أثناء إزالة الكعكة من القالب لأضعها في طبق، انشطرت إلى نصفين: نصف في يدي ونصف عالق في القالب. فتات على رخام المطبخ، سخونة في يدي التي تحمل نصف الكعكة، والنصف الآخر مشوه في القالب... تذمرت، لكن هذه الحادثة دفعتني لتذوق كعكة الشكولاتة الأولى في حياتي. تناولت قضمة من القطعة في يدي، كان مذاقها رائعاً، حلواً، ساخناً، حبة زبيب ذائبة في الشكولاتة... نشوة غامرة ملأتني للحظة. لقد كان الأمر ناجحاً، حتى أنني رأيت الفرح في عينيّ أمي متلألئاً واضحاً... تناولت كعكتي الأولى ذلك المساء بمتعة كبيرة.
في البداية كنت أحتقر الطبخ، وأراه موجوداً فقط لسد الجوع. وأن أشخاصا معينين فقط يمكنهم الطبخ: الأمهات وطهاة المطاعم. لكنني مع الوقت صرت أجد أشياء المطبخ أكثر حميمية: الملاعق، السكاكين، الشوك، الأطباق، الكؤوس، المقلاة، القدور، الملح، التوابل، الزيت، الخل، السكر، الموقد... وأشياء يمكن أن تساعد على التركيز، فبدأت أرى الطبخ فلسفة، مثل الكتابة تماماً. إعداد طبق يشبه كتابة نص. توجد عشرات الطرق لتحضير السباغيتي، مثلما توجد عشرات الطرق لكتابة رواية أو قصة.
الطبخ والكتابة: بحثان عن أقصى درجات الجودة والاتقان والطعم الفريد.
لم تكن كعكة الشكولاتة تلك أفضل كعكة في العالم، لكنها كانت جيدة، على الأقل بالنسبة لي، لأنها تحمل طعماً خاصاً، وأنا كاتب يريد أن يطبخ نصوصاً جيدة، شهية، ذات طعم خاص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.