تعرّض الضابط النازي ألويز برونر (1912- غير محدد بدقة) لمحاولتي اغتيال في دمشق التي أقام بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إحداها كانت عام 1961 في مكتب البريد قرب محطة الحجاز، المثير للاهتمام أن برونر كان يعيش بصورة علنية في العاصمة السورية، بالرغم من أنه "واحد من أسوأ ضباط الرايخ الثالث"، محكوم بالإعدام في فرنسا، مطلوب لإسرائيل وملاحق من قبل صائدي النازيين الذين كان واحد منهم مسؤولاً عن محاولة قتله في سوريا الأسد التي آوته.
بقي مصير برونر مجهولاً لسنوات، حتى بعد موت حافظ الأسد الذي رفض تسليمه لأي جهة دولية، وحسب مقال منشور في مجلة النيويوركر مؤخراً، هناك صحفيان فرنسيان التقيا اثنين من حراسه السابقين المقيمين في الأردن، واللذين قالا إنه حين شارف حافظ الأسد على الموت، كانت واحدة من تحضيراته لتسليم ابنه بشار الحكم، هي الأمر بوضع الضابط النازي في قبو موبوء بالأمراض، ونقرأ أن برونر "تعذب وبكى كثيراً، الجميع كان يسمعه"، وأضاف الحارسان أن برونر لم يكن قادراً حتى على تنظيف نفسه. فـ"الحيوانات لا توضع في مكان كهذا".
وبعد استلام بشار الحكم، أُغلق الباب على زنزانة برونر كلياً، حيث "مات ملايين المرات". هذا القبو، كان أسفل الفرع 300 المسؤول عن التجسس و مكافحته في سوريا، ورئيسه كان خالد الحلبي الذي يكشف لنا المقال لاحقاً عن سيرته العجائبية.
حين شارف حافظ الأسد على الموت، كانت واحدة من تحضيراته لتسليم ابنه بشار الحكم، هي الأمر بوضع الضابط النازي ألويز برونر في قبو موبوء بالأمراض، ونقرأ أن برونر "تعذب وبكى كثيراً، الجميع كان يسمعه". ذلك لأن "الحيوانات لا توضع في مكان كهذا"
لا يهمنا من مقالة النيويوركر حكاية رئيس فرع الأمن/ المجرم/ اللاجئ/ الجاسوس الإسرائيلي خالد الحلبي، بل الفقرات الأولى من المقال، بصورة أدق عبارة واحدة "برونر ونازيون آخرون، ساعدوا في هيكلة المؤسسة الأمنية في سوريا، ودربوا ضباطها على فنون الاستجواب... تقنياتهم ما زالت مستخدمة حتى اليوم ".
هذا العميل النازي/ الجلاد/ المحكوم بالموت في عدة بلدان، يتكرر ذكره في بعض الروايات السورية، إذ نقرأ عنه في رواية "عين الشرق" لإبراهيم الجبين الصادرة عام 2016، وفيها نكتشف أن الراوي اطلع على محاضر التحقيقات مع "جورج" حين وصل سوريا، وجورج طبعاً هو الاسم الوهمي لبرونر في دمشق، ونقرأ إشارات إلى وجوده في مشفى المواساة، ثم روتينه اليومي، ووصف، لا نعلم إن كان حقيقة أو تخييلاً، لأسلوب مشيه في الشارع، كما يشير الراوي إلى "الكرسي الألماني" و"الخبرات والنصائح التي قدمها برونر للمخابرات في دمشق"، وكيف تم تعيينه "مستشاراً أمنياً لحافظ الأسد".
ذات النازي يذكر في رواية "رقصة القبور" للسوري مصطفى خليفة الصادرة عام 2016، وفيها يبتكر خليفة لبرونر تاريخاً مغايراً، إذ يشكك بوجوده، ثم ينسبه متخيلاً إلى أسرة ألمانية سكنت سوريا، ثم يستطرد قائلاً إن برونر شب في ألمانيا ثم انضم إلى الحزب النازي الذي استفاد من خبراته وقدرته على الحديث بالعربية التي كان يتقنها منذ طفولته.
ويضيف خليفة أنه حين قارب الرايخ الثالث على السقوط، استعاد برونر أوراقه السورية وهبط دمشق، وعمل كمخابرات Freelancer، يعمل لصالح نفسه ومن يدفع أكثر، بل وتحول إلى حاكم من وراء الستار، يقود الانقلابات ويوجّه الحكومات، حالماً بـ"أن تكون له غرفة إلى جانب غرفة الرئيس، الذي لا يتخذ قراراً إلا بعد أخذ رأيه!".
بعد استلام بشار الحكم، أُغلق الباب على زنزانة برونر كلياً، حيث "مات ملايين المرات". هذا القبو، كان أسفل الفرع 300 المسؤول عن التجسس و مكافحته في سوريا، ورئيسه كان خالد الحلبي الذي يكشف لنا المقال لاحقاً عن سيرته العجائبية
الاختلاف في حكاية خليفة أن برونر هو من اختار حافظ الأسد ليوصله للسلطة، لا العكس، أي لم يستفد منه الأسد لتدعيم أركان حكمه، بل برونر هو من هيكل النظام الطائفي في سوريا، ورسّخ هيمنة الجيش ورسم سياسة الدولة الخارجة، فبرونر هو من حول "الفلاح" إلى "مارشال"، وبعدها تسلم النازي الحالم بناء أجهزة الاستخبارات.
برونر: النازي العرص العبقري
نتأمل عبارة "ساعد ببناء أجهزة الاستخبارات في سوريا" كل مرة يذكر فيها اسم برونر، ونستذكر أنه ليس النازي الوحيد الذي استُقبل في البلدان العربية، هناك حكايات تقول إن المساجين النازيين في مصر، وبعد أن أسرهم الإنكليز في مخيمات الاعتقال وتقاعست قوات الحلفاء عن ترحيلهم وتخاذل المحاور تجاههم، قام جمال عبد الناصر لاحقاً بضمهم إلى "الدولة"، للاستفادة من "خبراتهم" التي هي تقنية أكثر منها "تعذيبية".
ونعلم طبعاً أن حافظ الأسد اعتُقل في مصر، ويُقال أيضاً إنه اقتبس نظام الدولة الأمنية من هناك، أو أنه قام بتطوير نظام عبد الحميد السراج "الأمني" و قام بتحديثه.
ترنّ العبارة مرة أخرى "ساعد ببناء أجهزة الاستخبارات في سوريا"، سبب الرنين أن هذه العبارة هي "السرة" في حكاية برونر والنظام السوري، تلك العلامة التي تنهار عندها كل المحاولات الجدية لفهم وحشية النظام السوري وبنيته الداخلية، القائمة على مأسسة التعذيب وتأهيل الجلادين وممارسة القتل السري والعلني.
"برونر ونازيون آخرون، ساعدوا في هيكلة المؤسسة الأمنية في سوريا، ودربوا ضباطها على فنون الاستجواب... تقنياتهم ما زالت مستخدمة حتى اليوم "
سبب انهيار تكتيكات الفهم، هو أن برونر ضمن الحكايات المتخيلة/ الروايات، وأحياناً الأخبار الجدية، يظهر دوماً كأصل الشرّ، وذي دور محوري في سوريا الأسد عند تأسيسها، ولولا مشورته لما كان في سوريا مئات أفرع الأمن، ولا كسّرت ظهور آلاف المعتقلين. نتساءل حول معنى هذه "السرة"، كونها محاولة غير مباشرة (وأحياناً مباشرة)، للقول إن "بذرة" العنف في النظام السوري، ليست "سورية" بل "أجنبية"، مقتبسة من أصل الشر الحديث المُتمثل بـ"النازية" وبَذَرها واحد من أشد "الأشرار" فتكاً.
لا نشكك بوجود حقيقة برونر، ولا الوثائق حول حياته، ولا كل ما كتب عنه تحت تصنيف "رواية"، لكن لا ندري إن كانت الهالة المحيطة بدور برونر في بناء/ تأهيل النظام السوري استشراقاً معكوساً، خصوصاً أن هناك مئات أفرع الأمن في سوريا، وآلاف السجانين والقتلة ممن يعملون في الأقبية، ولا نستطيع تخيل برونر يجلس في مكتب يشرح لعناصر الأمن كيفية التعذيب، ملقناً إياهم دروساً سيكولوجية من أجل تجاوز الطبيعة البشرية وتفعيل الشرّ داخلهم، تلك "المقاربة" التي تقرأ أحياناً عبرها النازية.
كما أننا لا نعلم أيضاً إن كان هو المسؤول عن هيكلة كل فرع أمن، وموقعه داخل المدينة، وهرمية الأوامر ضمنه، وكل ما نقرأه في تقارير أمنيستي و شهادات المعتقلين الناجين من جحيم الأسد.
حافظ الأسد الذي اعتُقل في مصر، يُقال إنه اقتبس نظام الدولة الأمنية من هناك، أو أنه قام بتطوير نظام عبد الحميد السراج "الأمني" و قام بتحديثه
تكرار حكاية برونر يكشف مقدار "عرصنته" وحنكته وأثره الهائل في سوريا، كونه تحول أيضاً إلى مُحرك للمخيلة، ناهيك أن "هالته" و"أثره" يقدمان خلاصاً "سهلاً" لإشكالية نظام الأسد والاستثناء الذي يمثله، ففرضية أن يكون نازياً المسؤول عن نظام الأمن في سوريا تشكل تفسيراً منطقياً لكل ما حدث ويحدث. وكأننا، من منطلق "وطني" بحت، لا نستطيع إنتاج قتلتنا الخاصين بنا، ولا جلادينا المحترفين، ولا تطوير نظام هيمنة يليق بأن يكون خلّاباً للعقول ومنتهكاً للأجساد.
نطرح هذه التساؤلات خوفاً من أن يتحول برونور إلى عنصر فعال في فهم النظام السوري، بصورة أدق، العلامة صفر في التحليل، أي تلك المنطقة التي بكلمة واحدة (نازي) نستطيع اختصار كل المؤسسة الأمنية السورية التي يبلغ عمرها حوالي نصف قرن، وإلصاقها بـ"النازيين" و"عبقريتهم".
الأهم، التعذيب والقتل ضمن بنية النظام الأمني في سوريا ذو هدف إذلالي، لا يستثني جزءاً من الأفراد، بل يطبق على الجميع، بصورة أدق، لا توجد فئة واحدة ومحددة تخضع للتعذيب، فالمعتقلات تتسع لـ"الجميع" مهما كانت طوائفهم، بعكس الحالة اليهودية في ألمانيا النازية.
يظهر برونر دوماً ضمن الحكايات المتخيلة/ الروايات، وأحياناً الأخبار الجدية، كأصل الشرّ، وذي دور محوري في سوريا الأسد عند تأسيسها، ولولا مشورته لما كان في سوريا مئات أفرع الأمن، ولا كسّرت ظهور آلاف المعتقلين
كما أن نظام اقتصاد الموت في سوريا بدائي، عدمي بصورة ما، يهدف للهيمنة فقط، ولا يرفد خزينة الدولة بالنقود أو الجهد المجاني، بعكس ماكينة الموت النازية، الحداثوية، ذات الريع الاقتصادي، فتوظيف "اليهود" ضمن اقتصاد المعسكر أو خارجه، كان شكلاً من أشكال العبودية ومصادرة جهد الحياة، بعكس التعذيب السوري الذي يكسر الكرامة والظهور.
وتقع تكلفته على الدولة لا على المساجين بصورة كاملة، أي يمكن القول إن برونر فشل في محاكاة النظام النازي، أو ربما كان الأسد الأب تلميذاً سيئاً، اقتبس فقط ما فهمه، أو، وهو المرعب، حوّل الأسد سوريا بأكملها إلى معسكر اعتقال ضخم، الأمر الذي لن يرضى عنه برونر بالتأكيد.
ما يثير الغيظ في حكاية برونر أيضاً أنها ترسخ أسطورة "العبقرية النازية"، أي أن ضابطاً نازياً واحداً فقط ضمن أي نظام سياسي يكفي لتحويل هذا النظام إلى ماكينة قتل، ناهيك أن هذه "الحكاية" تصادر منا "ديكتاتورياتنا"، وربما هناك نوع من اللاتصديق يتعلق بالنظام السوري، مفاده أن هكذا "شرّ" لا يمكن أن ينتج دون تدخّل خارجي، والأفضل الإشارة إلى أصل شرور القرن العشرين المتمثل بالنازية، الفرضية التي يسهل تصديقها وإثباتها، بعكس حالة النظام السوري الذي يحتاج إلى الكثير من الدراسات لفك الغموض حول آليات حكمه وسيادته.
تكرار حكاية برونر يكشف مقدار حنكته وأثره الهائل في سوريا، كونه تحول أيضاً إلى مُحرك للمخيلة، ناهيك أن "هالته" و"أثره" يقدمان خلاصاً "سهلاً" لإشكالية نظام الأسد والاستثناء الذي يمثله، ففرضية أن يكون نازياً المسؤول عن نظام الأمن في سوريا تشكل تفسيراً منطقياً لكل ما حدث ويحدث
أشك بأن برونر هو من علمنا بأن نخفض أصواتنا حين لفظ اسم "حافظ الأسد" و"بشار الأسد"، وأشك، أن تبنّي حرف القاف في اللهجة المحكية لخلق الرهبة هو واحدة من ملاحظات برونر عن كيفية ممارسة الهيمنة وخلق الرعب، وأشك أنه همس للأسدين بأن لا تلفظوا القاف، وحافظوا على لهجة بيضاء حين الحديث علناً، كما أشك بأن برونو هو من علم المخابرات السورية الصفع في الشارع مجاناً والدعس على رؤوس الناس، والأهم، أشك بأنه من طلب من الأسد بأن لا يكون هناك تنسيق واتصالات مشتركة بين أفرع الأمن، يمكن القول إن الحكاية أميل إلى الاعتباطية الأمنية السورية وغموضها، على العبقرية الأمنية النازية وحداثتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين