واحدة من القضايا الملفتة في التاريخ البشري على العموم، وفي عادات أهالي المنطقة العربية، وتقاليدهم، هي قضية الأضاحي التي يقدّمها الناس في بعض المناسبات، وعلى وجه التحديد في عيد الأضحى من كل عام... لماذا تُقدَّم الأضاحي؟ كيف تطوّرت فكرة الأضحية؟ وهل كانت دوماً مرتبطة بالدين والمقدّسات؟
في سابق الزمان، لم تكن القرابين أو الأضاحي، من الحيوانات، بل كان القربان بشرياً، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك في التاريخ البشري، فالفراعنة مثلاً كانوا يضحّون بالبشر عبر إلقائهم في نهر النيل.
وعند اليونانيين، نجد السلوك نفسه، إذ كان اليونانيون يضحون بفتياتهم، قبل الخروج إلى الحرب، وفي تراثهم هناك قصة تروي عن وجود من ضحّى بابنته، "أغاممنون"، قبل الذهاب إلى حرب طروادة.
ولدينا أيضاً القصة الشهيرة لإبراهيم الخليل الذي رأى أنّه يقدّم ابنه قرباناً، وأن مبادرة الأب لتنفيذ رؤياه في ذلك الزمان، واستعداد الابن للطاعة في أمر كهذا، دليل على أن الأمر كان مألوفاً.
كان الدافع المعلن وراء سلوك المصريين القدامى بإلقاء الناس في النيل، هو محاولة منع النيل من الغضب عليهم، إذ كانوا يعتقدون أن فيضان النيل كل عام، هو تعبير عن غضبه تجاه سلوكهم
كان الدافع إلى مثل هذا السلوك، هو دفع المخاطر عن الجماعة، أو بمعنى آخر فإن هذا السلوك كان تعبيراً عن خوف الإنسان من "وحشية" الطبيعة، في إطار صراعه معها، فمثلاً كان الدافع المعلن وراء سلوك المصريين القدامى بإلقاء الناس في النيل، هو محاولة منع النيل من الغضب عليهم، إذ كانوا يعتقدون أن فيضان النيل كل عام، هو تعبير عن غضبه تجاه سلوكهم.
أمّا شعوب أمريكا اللاتينية، كشعب "المايا" مثلاً، فكانت لهم فلسفتهم الخاصة حول الأمر؛ إذ كانوا يقدّمون القرابين والذبائح للآلهة، طلباً لحاجاتٍ ما يريدونها، أو تكفيراً عن ذنوبٍ اقترفوها سابقاً.
يشير الكلام السابق، إلى أن فكرة الأضحية هي فكرة لها عمقها التاريخي في حياة الإنسان، مذ خطا خطواته الأولى على هذه الأرض، وهي لم تكن في بادئ الأمر مرتبطة بالمقدّسات الدينية.
في وقت لاحق، لم يعد القربان بشرياً، بل تحوّل إلى أضحية حيوانية (كبش أو طائر)، وارتبط أشدّ الارتباط بالمقدّسات والعقيدة الدينية، والهدف من هذه القرابين كان دائماً إراقة الدماء، بما تمثله من عنصر الحياة في الضحية، لإرضاء الإله.
وعبر التاريخ، بقيت الأضحية -حتى وهي رمزية في كبش أو طائر- ذبيحةً، يتم إسقاط المعنى على دمها، ولهذا فإن العامة لا يزالون حتى اللحظة يغطّون أيديهم في دماء الذبيحة، إذا كانت فداءً عنهم، أو يلطّخون من ذُبحت من أجله بدمائها، لمباركته ودفع الضرر عنه. وفي حالات أخرى، يجعلون من ذُبحت لأجله يمشي فوق دمائها تكريماً له.
ماذا تُقدَّم الأضاحي؟ كيف تطوّرت فكرة الأضحية؟ وهل كانت دوماً مرتبطة بالدين والمقدّسات؟
للقرابين تجسيدها في اليهودية والمسيحية والإسلام، والنقاط المشتركة الأبرز عند هذه الأديان حول الأضحية، هي في كونها تُعدّ تقرّباً من الله، وطلباً للعون منه، وتكفيراً عن الخطايا والذنوب، أو شكراً على النعم، وتوسلاً للغفران. وللمفارقة، فهي تلتقي في هذا المفهوم حول الأضحية، مع الأديان الوثنية والبدائية.
كثرت التحليلات التي حاولت دراسة هذه الظاهرة بوصفها ظاهرة اجتماعية، بعيداً عن علاقتها بالدين، وبالميثولوجيا الدينية، فهناك من يجدها اليوم مجرّد عادة وتقليد متوارث عن الأجداد، فقط لا غير.
وفي حديث آخر، نجد من ربط فكرة الأضحية بسعي الإنسان إلى الحصول على الأفضل دائماً، أي أن للأمر وفق هذا الرأي علاقته بالمستقبل، فالإنسان يضحّي بما هو موجود، للحصول على ما هو أفضل وأعظم منه، أي هو بمثابة استقدام للخير والبركة في قادم الأيام.
كان من اللافت، أن يظهر لي خلال البحث في هذا الموضوع، أن هناك من يرى أن المسألة مرتبطة بالحالة الاجتماعية القمعية التي يتعرّض لها الإنسان، منذ زمن بعيد، والتي أنشأت وزرعت الخوف والعنف في نفسه. تم تقديم الأمر هنا بوصفه تعبيراً عن العنف غير المشبع في الإنسان، الذي سمح لهذه الظاهرة بأن تستمر حتى اللحظة من جهة، والذي جعل الإنسان يبحث دوماً عن ضحيّة بديلة، ويحلّها محل الشيء، أو الحدث، أو المخلوق الذي أثار غضبه من جهة أخرى.
هناك من رأي بأن المسألة هي بمثابة تعبير عن العنف غير المشبع في الإنسان، الذي سمح لهذه الظاهرة بأن تستمر حتى اللحظة من جهة، والذي جعل الإنسان يبحث دوماً عن ضحيّة بديلة، ويحلّها محل الشيء، أو الحدث، أو المخلوق الذي أثار غضبه من جهة أخرى
من وجهة نظري، فإن الجانب الأهم في المسألة، أنه على مدى سنوات طويلة، كانت الذبيحة (القربان) مطلوبة لذاتها فحسب، ثم بعد ذلك جاء التحوّل نحو الاستفادة من لحمها، لإطعام الفقراء والمحتاجين غير القادرين على شراء هذا النوع من الطعام، وشيئاً فشيئاً ارتبطت قيمة الأضحية بمدى ما تحققه من فائدة لهؤلاء.
عند هذا الحد، يمكنني القول إن القربان أخذ بعده الإنساني العام، فبعد أن كان الإنسان قرباناً أو ضحيّة، أصبحت تسخّر الأضاحي في خدمته هو نفسه، وهذا الأمر جعل الكثيرين -حتى هؤلاء الأقل ارتباطاً بالدين- يبادرون دوماً إلى تقديم الأضاحي، بوصفها فعلاً خيّرياً يلبّي حاجة إنسانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...