في حركة انتقامية من السيستم الذي تمثله الأحزاب ورجال الأعمال، انتخب الشعب التونسي أستاذاً جامعياً متقاعداً يبدو بسيطاً، عُرف بطرافة ردود فعله وغرابتها في مواقف معينة، كما في الكاميرا الخفية، حيث لم يحرّك له خبر الزلزال الطارئ شيئاً، وظل في مكانه حتى انتهى المقلب، ومحاولته الحديث باللغة العربية الأدبية التي تذكر بإذاعة BBC في سياقات مفارقة، ما يجعل من خطابه بارودياً في ظل خطاب سياسي منمّط ومكرّر استوفى معجمه.
فأجهز الشعب، في انتخابات 2019 على الأحزاب في دورة أولى، ثم أجهز على رجل الأعمال المنافس الوحيد لقيس سعيد في الدور الثاني.
لم يكن هذا الشعب يعتقد أنه ربّى الوحش في بيته، فغريب الأطوار هذا توحّش عندما نظر في وجهه في مرايا القصر، وهاجمته فكرة فقدان السلطة الفاتنة التي ستنتهي بانتهاء العهدة، خاصة أن صلاحياته الدستورية لا تسمح له بأن يفعل ما يجعل الشعب يقتنع به ويجدّد انتخابه.
وحش فرانكشتاين
قبل أن يشقى فكتور فرانكشتاين ،في رواية ماري شيلي، وراء وحشه، كان يعيش قلقاً وحزناً بسبب موت أمه، فانهمك في العمل على أبحاثه ليصنع الوحش. إن مشاعر اليتم الخلّاقة هذه هي نفسها التي كان يتخبط فيها الشعب التونسي قبيل انتخاب سعيّد، فقد فشل هذا الشعب في العثور على حل لتيهه التاريخي بعد إسقاط دكتاتور كان يعتقد أنه المُعرقل الوحيد أمام إدراكه السعادة، فما هلّل هذا الشعب لحاكم إلا وانقلب عليه، فلا نفعه الحقوقي والمناضل (المرزوقي)، ولا حتى السياسي المحنّك (الباجي قائد السبسي).
لم يكن الشعب التونسي يعتقد أنه ربّى الوحش في بيته، فقيس سعيد توحّش عندما نظر في وجهه في مرايا القصر، وهاجمته فكرة فقدان السلطة الفاتنة التي ستنتهي بانتهاء العهدة، خاصة أن صلاحياته الدستورية لا تسمح له بأن يفعل ما يجعل الشعب يقتنع به ويجدّد انتخابه
الكثير من هذا الشعب مازالت جروحه لم تندمل بسبب خيانة الباجي قايد السبسي لوعوده وتحالفه مع النهضة، وتحالف رئيس حكومته ضده مع النهضة وتمرده عليه (الشاهد) في مرحلة ثانية، بينما يعيش البعض الآخر فجيعة من موت السبسي نفسه وهلعه من الإسلام السياسي، إذ يبدو أن الطريق تعبّدت أمام النهضة، خاصة بعد الارتباكات اللغوية التي حطمت المنافس الأكبر في الانتخابات؛ وزير الدفاع الأسبق "الزبيدي"، المقرب من توجهات الباجي قائد السبسي.
فلم يكن أمام هذه الجموع من الشعب ومن لم يقتنع بأحد سوى صناعة وحش من خيباتهم؛ شخص لا يعدهم بشيء لأنهم ملّوا الوعود الكاذبة. لم يكن أمامهم إلا صوت ذلك الأستاذ السوريالي لكي ينتقموا من الكل، من السيستم الذي ظل مستمراً رغم تغير الوجوه والقادة.
وبما أنهم يعلمون جيداً أن منصب رئيس الجمهورية شرفي حسب الدستور، فلم يفكروا كثيراً في نتائج إيصال رجل بلا تجربة سياسية سابقة وبأداء بطيء. كل ما أراده أغلبهم هو تلقين السياسيين درساً؛ قدرة هذا الشعب السوريالي على إدخال شخص مثلهم، ومن تراه الأحزاب شخصاً بسيطاً وساذجاً وجعل منه إعلام السيستم مضحكة، إلى قصر قرطاج، فعجز الجميع، بما في ذلك المنخرطون في حملته التفسيرية حتى الآن، عن توضيح برنامج سعيد، لكن الواضح فيه هو إبادة الأحزاب السياسية، تلك الكائنات التاريخية البشعة التي كرهتها الحشود.
لقد طور الشعب في السر وفي غمرة حزنه، كما فيكتور فرانكشتاين، تقنية سرّية لنقل الحياة إلى مادة غير حيّة، كانت في رواية ماري شيلي الوحش وكانت في تونس قيس سعيد؛ مادة متخشبة بلغة متخشبة، بملامح جامدة وجادة وميتة تماماً، وكما فعل فيكتور في الرواية الإنجليزية، أطلق الشعب وحشه في الانتخابات.
الشعب التونسي الجديد الذي كان استرد بصعوبة وعيه بتونسيّته سنة 2011، عاد ليفقدها بعدما عاش عشرية من السحق الجماعي الذي أجهز على الطبقة المتوسطة ووزع الفقر بالعدل بين فئاته، من دون فئة صغيرة من السياسيين وأباطرة المال
قيس سعيد الرعب القادم من السماء
صرّح قيس سعيد منذ توليه رئاسة الجمهورية أنه أتى من كوكب آخر، وهو بتلك الاستعارة يدفع بالخطاب إلى منتهاه، ليذكّر دائماً الحشود التي انتخبته أنه لا ينتمي للمنظومة ولا للسيستم، حتى وإن كان رئيساً للجمهورية واستطاع تأجيل غضب تلك الحشود بسبب عدم إنجازه شيئاً بتلك الطلعات الغرائبية وتأكيده على الهمّ السارتري، فالآخر هو الجحيم.
وهذا الجحيم يستهدفه هو قبل الشعب نفسه، فانطلقت إشاعات محاولات الاغتيال، من التسميم بالخبز إلى التسميم بالرسائل الملغمة بغازات غريبة إلى الصواريخ.
استطاع قيس سعيد أن يسرق سر التعاطف الجماهيري معه، بانتسابه إلى الشعب وتذكيره أنه لا يريد شيئاً لا يريده الشعب، وهذا التظاهر بالزهد حاول ترجمته من خلال تبرعه ببعض من أجره، وخروجه إلى الشارع ومعارضته لقرارات الحكومة، ما جعل منه مواطناً من عامة الشعب في قصر قرطاج، ساخطاً على الحكومة والبرلمان، مثله مثلهم، مع أنه هو الذي يعين رؤساء الحكومات.
وهذا الوضع غير المريح للرئيس المعلق أثار هو الآخر مزيداً من التعاطف، خاصة عندما صار يرتكب حماقات تبدو أقرب إلى حماقات الفارس النبيل دون كيشوت في رواية سيرفانتس، فقيس سعيد خرج يحارب طواحين الهواء حتى شارف على الإصابة بالخبل، فراح يحبّر الرسائل على طريقة ملوك الجاهلية، ويرسلها مع صاحب البريد إلى القصبة، في مشهد مسرحي مضحك أجبره على سحب الفيديو من صفحة رئاسة الجمهورية.
يعيش الشعب التونسي اليوم في حالة رعب من المجهول، فلا شيء خارج يد الرئيس، ولكنهم يعلمون جيداً أيضاً أنه لا شيء بيده ولا يعد بشيء كما يردد دائماً، ويعلمون أكثر أن الدولة العميقة أكبر من أن تسلم نفسها لرجل أعزل، مفلس مادياً وفكرياً
هذا الوضع الدراماتيكي الذي ظهر به قيس سعيد، على عكس ما يعتقد البعض، كان محفزاً آخر لمناصريه للتمسك به، فمرشحهم صار ضحية جديدة للسيستم الذي انتخبوه من أجل العبث به. وصار سعيد شهيداً جديداً لثورة سلمية عبر الانتخاب. فضخّوا فيه أملاً جديداً من خلال عبارة "نحن على العهد"، العبارة المرافقة للشعار الرسمي "الشعب يريد".
وكما حدث مع فرانكشتاين الذي قرصن الوحش الذي صنعه اسمه، وصار الناس عبر التاريخ يسمون الوحش فرانكشتاين، ونسوا أنه اسم المخترع وأن الوحش نكرة بلا اسم، صار قيس سعيد يقدم نفسه لا باعتباره صنيعة للشعب، بل هو الشعب نفسه ويتحدث باسمه دون حاجة لظهوره، وبذلك صار شيء أشبه بحالة الحلول الصوفي، فليس في البدلة الزرقاء البترولية إلا الشعب.
لقد صار هذا الشعب اليوم بعد انقلاب 25 يوليو/أيار 2021، يعيش حالة من الانتشاء القضيبي وهو يتابع صنيعته وهو يهز كل أس ويلوح بذراعيه مطيحاً بكل الأعمدة كما وحش فرانكشتاين. إن اللذة التي يعيشها الشعب ليست لذة الإنجازات بل لذة التهديم، فلم يعد الشعب معنياً بالإنجازات، لأنه على الأرجح آمن بمقولة شاعره أبي القاسم الشابي، الذي قال فيه منذ ثلاثينيات القرن العشرين: "صرت يائساً من المشاريع التونسية".
فهذا الشعب التونسي الجديد الذي كان استرد بصعوبة وعيه بتونسيّته سنة 2011، عاد ليفقدها بعدما عاش عشرية من السحق الجماعي الذي أجهز على الطبقة المتوسطة ووزع الفقر بالعدل بين فئاته، من دون فئة صغيرة من السياسيين وأباطرة المال.
لا يدرك هذا الشعب إلى الآن أن هذا الوحش الذي سرق اسمه منهم وترك الحشود للعراء بلا اسم ومجرد "أنصار"، سيلتفت إليهم كما وحش فرانكشتاين ويبدأ بتكسير عظامهم إذا ما ساءلوه يوماً عن حق ما أو عارضوا قراراته
لا يدرك هذا الشعب إلى الآن أن هذا الوحش الذي سرق اسمه منهم وترك الحشود للعراء بلا اسم ومجرد "أنصار"، سيلتفت إليهم كما وحش فرانكشتاين ويبدأ بتكسير عظامهم إذا ما ساءلوه يوماً عن حق ما أو عارضوا قراراته. كانت البداية مع الأحزاب التي قذفت بنفسها في حجر الوحش منذ البداية: حركة الشعب، تلك الحركة التي بلا رأس، ما اضطرها لانتداب الصافي سعيد من خارجها لترشحه رئيساً في انتخابات 2019، قبل أن ينفصل عنها ويوبّخها على الملأ، وتلك الحزيبات الصغيرة مجهولة النسب.
فقد أطلق الرئيس قراراته الراديكالية يوم 22 سبتمبر/أيلول كتعليق الدستور والعمل بالمراسيم دون الرجوع إليها أو التشاور معها، ولم نعد نرى واحداً من تلك الوجوه المنتمية إلى تلك الأحزاب يطأ عتبة قصر قرطاج، فبينما فهم التيار الديمقراطي الأمر وانسحب نحو المعارضة، لم تجرأ حركة الشعب على ذلك، لأنها بلا بوصلة وليس لها أي مشروع للبلاد، وهي بذلك تتماهى مع المشروع العدمي والهلامي لقيس سعيد، فظلت تدافع عنه دون أن يعبّرها بطرف عين.
يعيش الشعب التونسي اليوم رواية قوطية بسبب الرعب من المجهول، فلا شيء خارج يد الرئيس، ولكنهم يعلمون جيداً أيضاً أنه لا شيء بيده ولا يعد بشيء كما يردد دائماً، ويعلمون أكثر أن الدولة العميقة أكبر من أن تسلم نفسها لرجل أعزل، مفلس مادياً وفكرياً، يبشّرهم بنظام أشبه بالسوفييتات، ويقوم قانون انتخابه على الاحتكام إلى القرعة. وكأن بالرئيس يدفع بالبلاد ومصيرها إلى لعبة "الروليت"، إما حمراء أو سوداء. ويبدو أن هذه اللعبة السوريالية هي عنوان الخسارة الكاملة في السياسة، فإما هي ظلامية الاستبداد أو دماء الحرب الأهلية.
فماذا سيفعل "الشعب يريد" عندها؟ هل سيفعل ما فعله فيكتور، يعتزل العالم ويخرج إلى الجبال ليندب حظه ويغرق في حزنه، شاعراً بالذنب بعد عاد الوحش وقتل أخاه وزوجته؟ لكن جبال تونس غير آمنة وتسكنها الوحوش الآدمية منذ عشر سنوات، والتي قد يغريها ظهور وحش في شوارعها وقصورها وتنزل من القمم تحاربه أو تفاوضه، أو لعل الوحش في المدينة نفسه هو من سيطلب من الشعب أنثى له، كما فعل وحش فرانكشتاين، ولكن أليست أنثى الوحش فعلاً في القصر وتسيره منذ توليه؟
وإن لم تكن هي، أتكون القادمة في حذاء الشانال هي الوحشة الجديدة منفذة أوامر الوحش الأكبر؛ فرانكشتاين الأول؟
تبدو رواية فرانكشتاين مرعبة وهي تتحدث عن تعطل السفينة في الثلج، وهي أشبه بحالة التجمد العام التي أقرها قيس سعيد لمؤسسات الحكم. أنقذت السفينة في الرواية من الثلج، وطالب الرفاق فيكتور بالعودة، وهو الذي استمر حتى مات، ليقتنع أخيراً وهو يحتضر أن السعادة أهم من الطموح، وظل الوحش جاثماً فوق السفينة، قبل أن ينهض وينطلق من جديد نحو المجهول. لكن الوحوش التي نخلقها لا تموت بسهولة، ومثلما انتهت رواية ماري شيلي على موت الخالق وبقاء المخلوق، يتجدد السيستم في تونس كوحش أبدي لا يمكن تصفيته. كلما اخترع الشعب بطلاً للقضاء على النظام، تلبس به وصار هو نفسه النظام.
ظهر وحش فرانكشتاين من جديد في ثوب جديد مع رواية روبارت ج مايرز "عبد فرانكشتاين"، رواية رعب لكنها مليئة بالإسقاطات السياسية هي الأخرى، ففي غابات فرجينيا قبيل الحرب الأهلية الأمريكية عام 1859، ظهر وحش فرانكشتاين متربصاً، بعد أن وضع مشروعه للقضاء على العبودية، والمتمثل في إطلاق مجموعة من الوحوش لإنقاذ فيكتور؛ سلالة كاملة من المخلوقات الشبيهة بالزومبي من وحش فرانكشتاين. فهل يظهر من قيس سعيد وحوش أخرى تسير خلفه ولا نراها، ولعلها اليوم تتحكم به، وليس سوى قناع سيرفع مع الهالوين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع