أمام قصر العدل في بيروت، وقف أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت، حاملين شعارات وصور ومُحمّلين بالكثير من الغضب والقهر. اعتصموا، مع أفراد ومجموعات وجمعيات حقوقية، مطالبين باستكمال التحقيق بهدف محاسبة كل مسؤول بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن رحيل أحبابهم في انفجار الرابع من آب/ أغسطس.
الاعتصام الذي جرى في 29 أيلول/ سبتمبر، تمام الساعة الواحدة ظهراً، انطلقت دعواته إثر طلب محكمة الاستئناف في لبنان من قاضي التحقيق في ملف الانفجار طارق بيطار التوقّف عن متابعة تحقيقاته مؤقتاً، بعد تقديم وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق دعوى ضده لكفّ يده عن القضية.
كل فرد في الاعتصام حمل آمالاً خاصّة ومطالب عامة وُلدت بعد لحظة الانفجار وتستمر بعد مرور أكثر من عام على الكارثة. فحتى الآن، لم تتحقّق العدالة ولا يزال ملف التحقيق يخضع لحسابات سياسية وتهديدات طائفية تعرقل المسار القضائي.
قهر الأهالي والقانون
تقف منى جاويش على الرصيف حاملةً صورة ابنتها روان مصطو التي فقدتها في الانفجار، بعد إصابتها أثناء دوام عملها. تؤكّد أن حياتها لن تعود إلى سابق عهدها وأنها فقدت نفسها بعد رحيل ابنتها، وتقول: "أردّد اسمها في المنزل وأنسى أنها لم تَعُد موجودة. ابنتي لم ترحل قضاءً وقدراً لكي أقول إن الله أراد ذلك، بل خُطفت منّي من قبل كل مسؤول يرفض اليوم الامتثال للتحقيق"، وتضيف: "منذ الانفجار وحتى اللحظة لم أحصّل ذرّة عدالة واحدة. هذا ظلم بحق ابنتي وبحقّي".
منى جاويش، والدة الضحية روان مصطو.
تقول المحامية في المفكرة القانونية غيدة فرنجية إن التحقيق متوقّف حالياً بشكل مؤقّت أمام استشراس القوى السياسية وبخاصّة تلك التي ترفض الخضوع للتحقيق والتي تقدّمت بدعاوى لكف يد القاضي بيطار.كل هذا يحصل بموازاة حملات تخويف وتهديد تستهدف المحقق العدلي.
تشرح فرنجية أن الدعوى الأولى ضد بيطار قدّمها الوزير السابق يوسف فنيانوس الذي طلب نقل التحقيق من بيطار إلى قاضٍ آخر بسبب "الارتياب المشروع"، وهي دعوى شبيهة بتلك التي قُدّمت سابقاً ضد المحقق العدلي السابق فادي صوّان. وهذه الدعوى لا توقف التحقيق إلا في حال قرّرت محكمة التمييز أن توقفه.
أما الدعاوى التي تقدّم بها الثلاثي النيابي نهاد المشنوق، غازي زعيتر وعلي حسن خليل، فهي طلب أمام محكمة الاستئناف في بيروت لرد القاضي بيطار، ما يوقف التحقيق تلقائياً، على الرغم من أن اجتهادات سابقة رأت أن المحكمة المذكورة غير مختصة بإزالة المحقق العدلي لأنه غير تابع لها.
"يريدون وضع الملف في الدرج كما يفعلون مع كل الملفات، لكي يقتلونا فوق الأرض كما قتلوا أخي تحت الأرض"
وعليه، تعتبر فرنجية أن الدعوى الأخيرة تُعتبر تعسفية وغير قانونية وأن هدفها الوحيد هو إيقاف التحقيق في الفترة التي سقطت فيها حصانات النوّاب، بعد أن نالت الحكومة الثقة، والتي لن تعود وتسري إلا حين ينعقد مجلس النواب في 19 تشرين الأول/ أكتوبر القادم. وحينها، سيتوجب على المحقق العدلي الحصول على إذن من مجلس النواب بهدف استدعاء النواب.
خطورة عدم استمرار التحقيق
"ما بدنا إلا القاضي طارق بيطار"، تصرّح ريما الزاهد، شقيقة الضحية أمين الزاهد، وتقول: "وعدونا بالحقيقة بعد خمسة أيام من الانفجار، واليوم، بعد أكثر من عام، لم نصل إليها. كل شخص يعرقل التحقيق هو مسؤول مباشر عن الانفجار. وما نشهده اليوم هو مهزلة وإهانة شخصية لنا. يريدون وضع الملف في الدرج كما يفعلون مع كل الملفات، لكي يقتلونا فوق الأرض كما قتلوا أخي تحت الأرض".
شقيقة ووالدة الضحية أمين الزاهد.
خطورة عدم استمرار التحقيق لا تنحصر بجانب واحد. هذا المس المباشر بالقضاء ستترتب عليه آثار من النواحي السياسية والاجتماعية، بحسب الأستاذ الجامعي في العلوم السياسية ميشال دويهي.
يقول دويهي لرصيف22 إنه في حال أقيل القاضي بيطار، سنفقد في لبنان مبدأ المحاسبة وستختفي الروادع القانونية، ويشرح: "سيتم تعطيل السلطة الأخيرة التي نعتمد عليها في لبنان، أي السلطة القضائية، كما يحصل في كافة المؤسسات"، ويتابع أن "غياب المحاسبة في ملف الانفجار سيُترجم لدى الناس بعدم محاسبة أي مجرم. وبالتالي سيرى اللبنانيون أن التفلّت التام من العقاب صار مباحاً وسيفقدون ثقتهم الكاملة بكل السلطات والمؤسسات اللبنانية وسندخل في شريعة الغاب".
في الاعتصام، أطلق ميشال أبو مرهج، شقيق الضحية المفتش المؤهل قيصر أبو مرهج، صرخة في وجه كل من مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا ونهاد المشنوق. يؤكّد أن تهديداتهم فارغة، ويقول: "نهاد المشنوق (...) يلجأ إلى دار الإفتاء ويعرقل التحقيق متى أراد. أمّا وفيق صفا فيهدّد المحقق العدلي مباشرة أمام الجميع. نحن لا نريد إلا أن نسترد حقّنا ونعرف مَن هو المسؤول عن موت أحبابنا. في حال استمروا بالتهرب من مسؤولياتهم والدخول إلى المجلس النيابي والابتسامة على وجوههم سنسترد نحن حقّنا بيدنا منهم ومن عائلاتهم".
ميشال، شقيق الضحية المفتش المؤهل قيصر أبو مرهج.
يقول الأستاذ الجامعي والناشط السياسي علي مراد لرصيف22 إن الخطورة الجدية التي نواجهها اليوم هي "تطيير الملف تماماً" وإنه في حال تكرّر مع القاضي بيطار ما حصل مع القاضي صوّان، لن يتمكّن أي قاضٍ بعده من تسلّم الملف وتحقيق نتائج عادلة.
ويضيف: "نحن أمام سلطة مصرّة على عدم محاسبة أي فرد من أفرادها وكل قاضٍ سيصطدم مع أحد هؤلاء الأشخاص وذلك لأن الملف مليء بالفساد المتراكم عبر السنوات، وبالتالي السلطة ستتضامن لمنع المحاسبة وذلك لأن محاسبة فرد واحد منها سينعكس على كل الأفراد".
برأيه، "دعم القضاة مطلوب اليوم بهدف إبقاء الملف بيد القاضي بيطار. ويجب أن تتكثّف كل المواجهات القائمة ضد المنظومة منذ عامين في هذا الملف بهدف تحقيق نقاط لصالحنا، وتكبيد هذه المنظومة الشرسة والقاتلة أكبر عدد من الخسائر".
حزب الله والانقسام
قبل أيام، ضجّ لبنان بخبر تعرّض بيطار لتهديدات مباشرة من قبل وفيق صفا. وبحسب المعلومات التي تم تداولها، أوصل للقاضي رسالة هدده فيها بعزله من منصبه إذا أكمل إجراءاته.
وكان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قد اتهم بيطار في خطاب له، بأنه مسيّس، وقال: "هذا المحقق يشتغل سياسة والتحقيق مسيس والمطلوب إعادة الملف إلى المسار الطبيعي. فإما أن يشتغل تقنياً وبوضوح وإما على القضاء أن يجد قاضياً آخر".
في الاعتصام أمام العدلية، انقسم المعتصمون بين مَن ردّد شعار "حزب الله إرهابي" وبين مَن اعتبر أن هذا الشعار يحرف الاعتصام عن هدفه.
فور تردّد الشعار، طالب رئيس لجنة أهالي الضحايا إبراهيم حطيط بانسحاب الأهالي من الشارع، بينما رأى قسم من المعتصمين أن حزب الله هو السلطة الأقوى في لبنان وهو مَن يعرقل التحقيق، وبالتالي يجب ذكر الأمور كما هي.
"غياب المحاسبة في ملف الانفجار سيُترجم لدى الناس بعدم محاسبة أي مجرم. وبالتالي سيرى اللبنانيون أن التفلّت التام من العقاب صار مباحاً وسيفقدون ثقتهم الكاملة بكل السلطات والمؤسسات اللبنانية وسندخل في شريعة الغاب"
على هذا الانقسام، علّق المحامي عماد جعارة، عضو لجنة أهالي الضحايا، قائلاً إن ما يحصل في هذه اللحظة غير مقبول وإن الهدف الأساسي الآن هو قيام قاضي الاستئناف نسيب إيليا ببت قراره بدعوى الارتياب المقدّمة ضدّ بيطار، ويضيف: "كل دقيقة يبقى فيها الملف معه دون البت بقراره هي دقيقة تواطؤ مع المشنوق الذي يحاول التهرّب من المثول أمام القضاء".
ويتابع: "نحن كأهالي شهداء قضيتنا هي الحصول على حق الضحايا وليس إطلاق شعارات ضد حزب الله ولذلك سننسحب"، وختم بالقول: "لمّا الأوادم من الأحزاب ومن المستقلين بيجتمعوا ساعتها مننجح وفي حال كان بيطار مسيّس نحنَ ما بدنا ياه".
أما وليام نون شقيق الضحية جو نون، فقال إنه قبل انفجار الرابع من آب/ أغسطس، كثيرون هنا كانوا ينتمون إلى أحزاب سياسية لكن الحال تغيّر الآن وبإمكان الناس أن يعبّروا عن أنفسهم كما يريدون.
يقول ميشال دويهي إن التهديدات وصلت مباشرة من وفيق صفا المنتمي إلى حزب الله، وبالتالي من الطبيعي أن يعبّر الناس عن غضبهم المباشر من هذا الحزب تحديداً، "خصوصاً أنهم لا يريدون أن يشهدوا نهاية عمل القاضي بيطار بسبب حسابات سياسية".
وعن حقيقة تسييس بيطار، تجيب المحامية غيدة فرنجية: "كل المسؤولين الذين تم استدعاؤهم من قبل القاضي صوّان وخلفه القاضي بيطار كانوا على علم بتخزين النيترات في المرفأ وكانوا في موقع مسؤول وتنفيذي، وبالتالي استدعاؤهم محق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين