أيها الوجوديون، لماذا يجب الارتقاء إلى الفلسفة العدمية؟
قد يبدو السؤال، أشبه برقصة في حفل شيزوفريني خيري، أو دعوة مقيتة ذات أقطاب مضطربة، لأشخاص يفتتحون إدراكاتهم بطاقات النهوض المعرفي كلها، ودلالاته الحياتية، والخوض فيها إلى النهاية، في محاولة دائمة لتفلسف وجودي يكون نتاجاً طبيعياً للوعي البشري، واستمراريته.
قبل فترة، أمطرني أحدهم بوابلٍ من المحاضرات الفلسفية، عن قيمة الحياة، وروعة الإنسان المناهض لصعوبات الواقع، وكيف أننا -نحن العدميين الذين لا نرى في الواقع أي حالة جيدة- ندعو، وندمر الحياة، بحجة التفكير العقلاني، والتفسير الدائم، بعيداً عن متطلبات العواطف، بأبعادها الميتافيزيقية التي تكون حاجة ملحة للأرواح.
الإيمان هو من أجل السيطرة على الذات، وليس فقدان الذات.
بالنسبة إليه، نحن عبارة عن كائنات تبث السموم بغير معرفة أخلاقية، وتدمر ما ينتج عن الحياة كله؛ بالمختصر، بعد ساعتين من الثرثرة الجوفاء من قِبله، وأنا أنظر ناحيته من دون أن أفهم ما الذي يدعوه، وهو الوجودي الحق، لأن يُصاب بذلك التشنج كله، وهو يشرح نظريته! لم أستوعب، حقيقةً، إن كنا نحن -كعدميين- خارج منظومة التاريخ الإنساني، فلمَ يبذل ذلك الجهد كله، لشرح أننا خارج المنظومة، على الرغم من أنه ليست لدينا أي مشكلة في أن نكون خارج التاريخ، بل على العكس تماماً، نحن نطالب بقوة بأن نكون خارج التاريخ بالمعنى الحرفي! خارج التاريخ إلى درجة أننا لا نريد أي جنسية، أو أي هوية قومية، أو دينية، أو إثنية. لا نريد سوى عدّنا كائنات تنتمي إلى الأرض، بكل سهولة ويسر. أسقطوا عنّا قانون الانتماء، ودعونا نسعى في مناكبها، من دون أي شعور من قِبلنا بالصراعات الساذجة للحق الذي يتملكه الوجوديون.
أسقطوا عنا مقومات التجنيس كلها. لا نشعر بضرورة الانتماء إلى قوانينكم، الأيديولوجية القهرية، تحت حجة الوطن، والحب، والإنسانية، والتفلسف، والثقافة، لأنّ ما سبق كله، مفاهيم لتصنيف العبودية المعاصرة، وتقسيم الأدوار المنهجية السلطوية، وفرز البشر في تبعاتها.
لا نريد أي جنسية، أو أي هوية قومية، أو دينية، أو إثنية. لا نريد سوى عدّنا كائنات تنتمي إلى الأرض. أسقطوا عنّا قانون الانتماء، ودعونا نسعى في مناكبها، من دون أي شعور من قِبلنا بالصراعات الساذجة للحق الذي يتملكه الوجوديون
في النهاية، أجبته بالمختصر، بأني شخصياً (ولن أستخدم "نا"، لأنّ العدمية ليست تجمعاً، إنما هي آلية تفكير حياتي فرداني إزاء فكرة الوجود، فهي ببساطة ليست مذهباً متحزباً)، بأني أتمثل الحالة العدمية، كمعيار خاص، في أنّني كائن ينتمي إلى أرض، من دون أي رغبة في وصمي بالهوية.
وإذا أردنا أن نتحدث بالـ"نا"، فالحالات الوجودية في الحياة تمتلك مقومات الانتهاك كلها، لأنها تصِمُ البشر بثقافات خاصة، وتُخضِعهم لأيديولوجيات تدميرية. الوجوديون في العمق السلوكي، هم من يدمّرون الأرض، لأنهم يمتلكون الحقائق الفكرية، من وجهة نظرهم عن أنفسهم، ويسعون إلى تحقيق رؤاهم الصالحة، حسب وجهات نظرهم، على خصومهم الذين يرون في أنفسهم أيضاً، أنهم يمتلكون رؤاهم الصالحة، والحقائق التي يجب تطبيقها، لإحقاق العدل.
الوجوديون الحقيقيون ضد الوجوديين الحقيقيين، إذاً، ما شأننا نحن، لتُكال لنا الاتهامات في تدمير الحياة! نحن خارج المعادلة، لكنكم مع خصومكم متفقون على إدانة من هم أصلاً خارج المعادلة... أي سخرية فكرية وإنسانية هي هذه!
أتريدون الحق الواقعي؟ العدميون بأسرهم لا يهدمون شيئاً. أصلاً هم لا يريدون من فكرة الوجود، وتبعاته السلطوية والمؤسساتية، أي شيء، ومن السذاجة وصفنا، كعدميين، بأننا ندمر الهوية الوجودية.
هل رأيت قاتلاً متسلسلاً ليس وجودياً؟ هل رأيت قاتلاً متسلسلاً عدمياً؟
عزيزي، أنتم من تدمرون أنفسكم، ولسنا نحن. نحن مسالمون إلى تلك الدرجة التي لا يمكن تخيّلها أبداً. نحن لا نريد أن نكون جزءاً منكم، لكنكم تصابون بالهلوسة، لمجرد أنّ هناك من يرفضون أن يكونوا أنتم.
أنتم من تسفّهون أفكاركم، وتناقضونها. حالة الوجود التي تحاولون فرضها على تفاصيل الحياة، من وجهة نظركم، هي أزمتكم. الوجوديون لديهم هواجس تدمير الجنس الذي يخالفهم، ويمتلكون أيديولوجيا ثابتة، سياسية، ودينية، واجتماعية، وأخلاقية، و"فورما" ثقافية... إلخ.
عزيزي، بإمكانك، وأنت تقرأ هذه الكلمات، أن تتأمل قليلاً في عالمك المحيط، وتسترجع تاريخك الوجودي، والاجتماعي، والسلطوي، والديني الثابت، والأخلاقي، كله، والعصبيات العائلية، واستحقار الآخر لاختلافك عنه، لأنّ الذي يستحقر، يمتلك القوة والامتداد، فكيف تدمر تلك الوجوديات التي تعدّها جزءاً طبيعياً من الحياة، عالمك؟
هل استطعت أن تتأمل قليلاً في محيطك البائس! إذاً، لقد وصلت إلى إعطائنا صك البراءة مما يُكال لنا من اتهامات، بأننا عدميون وحوش، أليس كذلك! إننا بريئون براءة الذئب من دم يوسف.
لتسهيل الأمر، دعني أقدّم نموذجاً بسيطاً وسريعاً كمثال: القتلة المتسلسلين.
هل رأيت قاتلاً متسلسلاً ليس وجودياً؟ هل رأيت قاتلاً متسلسلاً عدمياً؟ أو لنطرح السؤال بطريقة أكثر بساطة: ما الذي يجعل العدميين الرافضين للاستمرار الوجودي البشري، هم الأكثر مسالمة، وتفكيراً حراً، وعلماً، على الرغم من أنّ العدميين يكرهون فكرة الثقافة أصلاً، لأنها جزء من حالة المؤسسة التي هي في الجوهر نظام للوجود؟
العدميون يعانون، حقيقةً، من فكرة الوجود، ويجب أن يكونوا أكثر الأشخاص كرهاً لأي أحد يتقدم بتكوين الحياة الوجودية، لكنهم مع ذلك يناظرون الفكرة بالحوار، وليس بالقتل. إنما على الجهة المقابلة، الوجوديون الذين يبحثون عن محاولة لترسيخ سيطرتهم، وقوتهم الفكرية، والحياتية، يمارسون أي عملية للقتل الفردي، أو الجماعي، للتسيّد، لأنهم يعدّون فكرة الوجود هي الحقيقة التي يجب على الجميع الخضوع لها، ولا يجب نبذها.
وأيضاً، يمكن استرجاع قتلة التاريخ المتسلسلين كلهم، لندرك كم هم وجوديين في أعماقهم! إنهم مؤمنون، لأنّ الوجود فكرة الإيمان، والإيمان هو عمق الوجود؛ وعندما نتحدث عن الإيمان، فنحن نتحدث عن كل إيمان؛ من الإيمان الديني، إلى الإيمان السياسي، إلى الإيمان الاجتماعي، إلى الإيمان الجنسي. الجميع يريدون إثبات أنهم الحقيقة التي يجب أن تتسيّد، حتى لو كان الكلام المخالف في ظاهره، من جماعة "كلنا نعيش على كوكب واحد"، لأن فكرة الوجود، في العمق، لا تمتلك سوى الوجود، أو للدقة، لا تفهم الوجود إلا بمنظور الوجود نفسه، فالوجوديون لا يستطيعون أن يكونوا خارجه، ليستوعبوا تدميريته.
يمكن استرجاع قتلة التاريخ المتسلسلين كلهم، لندرك كم هم وجوديين في أعماقهم! إنهم مؤمنون، لأنّ الوجود فكرة الإيمان، والإيمان هو عمق الوجود؛ من الإيمان الديني، إلى الإيمان السياسي، إلى الإيمان الاجتماعي، إلى الإيمان الجنسي
في النهاية، الإيمان هو من أجل السيطرة على الذات، وليس فقدان الذات. لكن كل إيمان في الحياة، يؤدي إلى فقدان الذات، من خلال جعل تلك الذات جزءاً من هيكلية وجودية جمعية تدافع عن ذاتها الجمعية، في تدمير الذوات الجمعية الأخرى... ويخرج الجميع ليتهموا العدميين بتدمير الحياة، مع العلم أن لا أحد يسمح لنا أن نغادر تلك الهويات الوجودية. وبحسب شهادات الجدّات التاريخيات: "لا برحمون، ولا بتركون رحمة الله تنزل".
العدم حالة من المقاومة، ليست لهدف الوجود نفسه، بل لتحطيم صنمية الوجود التي تترسخ أيديولوجيا مطلقة في أذهان مناصريها، مما يسبب لهم غرقاً أكبر في فاشيتها، من دون أن يدركوا.
إننا عدميون، لكننا لا نملك شعوراً بمهمة التدمير الإثني، والديني، والمجتمعي، والسياسي، بل بتدمير الأفكار من خلال الجدل. تلك الإثنيات، والأديان، والمجتمعات، والسياسات، يصنعها ويغذيها الوجوديون، من دون أي شعور بالذنب، بل يدعوهم ذلك للفخر، لأنه الطريقة الوحيدة المثلى، لجعل البشر متماثلين في مهمات ترسيخ جزء بشري، على حساب جزء بشري آخر، مختفين وراء امتلاكهم حقائق زائفة، من قبيل الأيديولوجيا المثالية لهم. الوجوديون يمتلكون وصايا تدمير العرق المخالف، وبياناته كلها، تحت حجة التطهير من الفساد الذي ملأ الأرض.
حقيقةً، إننا عدميون، لكننا نبحث أن نكون خارج التاريخ، لأنّ هذا التاريخ لا يمثل إنسانيتنا الجدلية العقلية، والعاطفية، من دون انصهار في أساليبها الاجتماعية التكرارية. إننا، فعلياً، بريئون وطاهرون، مثل الذئب الأسطوري، أيها الأخوة الوجوديون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع