في بناية مهجورة، في بلدية بني بوعياش، قرب مدينة الحسيمة، في الريف المغربي، منتصف أيلول/ سبتمبر الحالي، عُثر على جثة الشاب صلاح الدين شعبوت، المعتقل السابق، على خلفية احتجاجات الريف التي شهدها المغرب على امتداد أشهر طويلة بين سنتي 2016 و2017.
استبدّ اليأس بصلاح الدين، إلى درجة قرر معها وضع حد لحياته، بعد معاناة نفسية مريرة عاشها، عقب مغادرته السجن الذي قضى فيه سنتين في معتقل يبعد أكثر من 160 كيلومتراً عن مسكن عائلته. لم يستطع صلاح الدين، حسب ما رواه مقرّبون منه، التأقلم والتعايش مع الحياة خارج السجن، وشعر بظلم كبير، وبلا جدوى العيش من دون مستقبل أو أمل، ما انعكس على وضعه النفسي، فأصبح أكثر ميلاً إلى العزلة والانطواء.
إذا كان صلاح الدين شعبوت، قد اختصر الطريق، بإنهاء حياته بهذه الطريقة المفجعة، فإن سجناء سياسيين سابقين على خلفية حراك الريف، قد قرروا المغامرة بحياتهم، وركوب قوارب الموت إلى أوروبا، أملاً بالنجاة من مصير مماثل.
وقدّرت مصادر متطابقة، عدد الذين هاجروا سراً من المعتقلين السابقين، بأكثر من 300، معظمهم قرروا الرحيل، بعد أشهر فقط من خروجهم من السجن، وبعد أن اكتشفوا أن خياراتهم لإعادة الاندماج في الحياة العامة، شبه معدومة.
وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، ستتحول الحسيمة إلى مدينة هرِمة، حسب ما يعتقد الفاعل الحقوقي عبد الوهاب تدمري. "الحسيمة تفرغ من شبابها، وجلّهم يرون في ركوب البحر، الملاذ الأخير، وعلى رأسهم المعتقلون السابقون، الذين لم يجدوا بعد معانقتهم الحرية، أي بنية تسندهم، أو تمد يد المساعدة إليهم، لكي يندمجوا مجدداً في الحياة العامة"، يشرح لنا تدمري، منسق منتدى شمال المغرب لحقوق الإنسان.
بعد تجربة الاعتقال يعجز معتقلو حراك الريف السابقون عن العثور على وظائف. قرّر البعض منهم الهجرة السرية وآخرون استبدّ بهم اليأس
قامت احتجاجات الريف في المغرب، إثر حادثة مقتل بائع السمك محسن فكري، في تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 2016، في مدينة الحسيمة، بعد أن ابتلعته شاحنة لضغط النفايات، وسحقته، بينما كان يحاول منع مصادرة أسماك بوسيف، التي كان يتاجر بها.
ورفعت الحركة الاحتجاجية شعاراتٍ تطالب برفع التهميش، والعزلة، والإنصاف، وبمصالحة حقيقية مع منطقة الريف، التي عرفت انتفاضتَين، سنتًي 1958 و1984، تعرضتا لقمع شديد من النظام، غير أن التاريخ أعاد نفسه، إذ استعملت الدولة القبضة الأمنية لفض الحركة الاحتجاجية التي استمرت نحو سبعة أشهر، واعتقلت مئات المحتجين، الذين قدّرت جمعيات حقوقية عددهم بأكثر من 800 معتقل، تم توزيع أحكام سجنية قاسية عليهم، وصلت إلى 20 سنة حبساً، بالنسبة إلى الوجوه البارزة في الحراك.
بعد انقضاء خمس سنوات على أكبر حركة احتجاجية شهدتها البلاد في عهد الملك محمد السادس، وباستثناء القيادات البارزة، أُطلق سراح معظم المسجونين، إما بعد انتهاء مدة محكوميتهم، أو لاستفادتهم من عفو ملكي، لكن هؤلاء بالكاد يحاولون العيش، وفق ما توثّقه شهادات السجناء السابقين الذين تحدثنا إليهم.
ما أصعب استئناف الحياة
يصف محمد الأصريحي، الذي استفاد من عفو ملكي صيف سنة 2020، بعد قضائه زهاء ثلاث سنوات في السجن، شعور المعتقلين السابقين، بعد خروجهم إلى الحرية، بأنه مزيج من الإحباط والوحدة: "حينما تكون داخل السجن، تصاب بإحباط كبير، وحينما تغادره، يخالجك شعور باليأس، لأنك تجد وضعاً أسوء من السابق وأصعب، وتجد نفسك معدماً ووحيداً، وتشعر دائما بأنك بمفردك، ولا أحد بجانبك".
كان الأصريحي، قبيل سجنه، يعمل مصوّراً صحافياً، مع عدد من المواقع الجهوية والوطنية، وهو عمل لم يعد يستطيع مزاولته الآن: "كنت أشتغل سابقاً بشكل طبيعي، والآن، لم يعد هذا ممكناً. لم يعد ممكناً أن نتحدث عن المواضيع نفسها، ولا تستطيع أن تتحدث عما يهم المواطن، ويمسه بشكل مباشر؛ مشكلاته، وأزماته، ومعاناته. بإمكان ذلك أن يعرّضك مجدداً لخطر العودة إلى السجن، كما أن معظم المواقع موالية للسلطة، ولا تتمتع حتى بالحد الأدنى من الاستقلالية"، يضيف الأصريحي الذي يشكو كذلك من ضغوط لا زالت تمارسها السلطة، لحرمان المعتقلين السابقين على خلفية الحراك، من ولوج سلك الوظيفة العامة، وهو ما اختبره شخصياً، حينما ترشح لعدد من المباريات لولوج قطاع التعليم.
"بعد خروجي من السجن، حاولت استئناف حياتي من دون ضجيج، خصوصاً بعد أن درست في السجن، وحصلت على شهادة جامعية. قررت الترشح لوظيفة ملحق تربوي، وكرّست وقتاً طويلاً للتحضير للمباراة، واجتزت الاختبار الكتابي بنجاح. وخلال الاختبار الشفهي، حظيت بإشادة أعضاء اللجنة جميعهم، وخرجت سعيداً. كان يُفترَض أن تعلَن النتيجة في تاريخ معين، لكنها تأخرت خمسة أيام، وكانت مخاوفي من تدخل الحسابات الأمنية في التأشير على لائحة الناجين، في محلها"، يتابع الأصريحي بمرارة، مؤكداً أن ذلك يمتد إلى القطاع الخاص، فكثيرون من أصدقائه تخلى عنهم مشغّلوهم، بعد أن علموا، بطريقة أو بأخرى، أنهم من المعتقلين السابقين للحراك.
لم يكن وضع ربيع الأبلق، أفضل حالاً، من رفيقه الأصريحي، على الرغم من محاولاته التأسيس لمشروع خاص، من خلال افتتاح مقهى في مدينة الحسيمة، بمساعدة العائلة والأصدقاء الذين دعموه مادياً، حتى يستطيع أن يبدأ من الصفر.
"تزامن افتتاحي لهذا المشروع، مع أزمة كورونا، وما رافق ذلك من إجراءات احترازية قاسية، مثل إغلاق المقاهي في وقت معين، ثم إعادة افتتاحها مع تقليص ساعات عملها. كان ذلك ضربة قاضية لمشروع بدأ للتو، فبدأت الديون تتراكم عليّ. حاولت في البداية الالتزام بدفع ثمن كراء المقهى، لكنني لم أتمكن بعدها من المسايرة. أحياناً، أفكر أنه لو بقيت من دون فعل أي شيء، وأقضي يومي في تزجية الوقت، لكان أفضل لي، لكنني لا أحمّل هذا الفشل لنفسي، بل أحمّله للدولة"، يحكي لنا الأبلق عن تجربته في ميدان عمل يختبره للمرة الأولى.
"كنت أشتغل سابقاً بشكل طبيعي، والآن، لم يعد هذا ممكناً. لم يعد ممكناً أن نتحدث عن المواضيع نفسها، ولا تستطيع أن تتحدث عما يهم المواطن، ويمسه بشكل مباشر". معتقلو الريف السابقون بين سجنَين
بدوره، قال الأبلق إن السلطات مارست ضغوطاً عليه، بعد افتتاحه المشروع، للتراجع عن قناعاته، والتوقف عن نشاطه الحقوقي المساند لبقية المعتقلين، والمنتقد للأوضاع التي تعيشها المنطقة. "إنهم يطلبون منك أن تصمت تماماً، إلى الأبد، حتى يتركوك وشأنك. كلما تحدثت عن إخوتك في السجن، يهددونك بقطع رزقك. المعادلة بالنسبة إليهم بسيطة: لكي تمضي في حياتك، عليك أن تختار طريقاً آخر، وإلا ستكون دائماً عرضة للمضايقات، وهو ما حصل معي في أكثر من مناسبة. وقبل أشهر، اعتُقلت يومين، مرة أخرى، لاحتجاجي على هذه الممارسات".
على الرغم من كل شيء، يرى الأبلق الذي خاض إضرابات طويلة عن الطعام في السجن تجاوزت مدتها الإجمالية 200 يوم، نفسه، أكثر حظاً من عدد كبير من السجناء السياسيين الريفيين السابقين. "على الأقل، وجدت عائلة بإمكانها، وفي حدود معينة، مساندتي، وهو ليس وضع كثيرين، خصوصاً الذين أسسوا عائلات، ولهم أبناء، إذ خرجوا من السجن وكأنهم خرجوا إلى الشارع؛ كيف سيعيلون أبناءهم، وهم لا يستطيعون حتى توفير 20 درهماً يومياً (دولارين)، لشرب القهوة، وتدخين سيجارة؟ إذا كنت معتقلاً سابقاً في الحسيمة، سيكون من الجنون أن تفكّر في الزواج، وتأسيس عائلة"، يروي لنا الأبلق بحسرة، متذكراً رحيل كثيرين من أصدقائه ومعارفه، سرّاً عبر البحر، بحثاً عن فرصة جديدة.
أبغض الحلال قوارب الموت
يتمنى المرتضى إعمراشن، ألا يضطر هو الآخر إلى المجازفة بحياته، وركوب البحر، لمغادرة البلاد. "فكّرت في هذا الاحتمال مراراً، وكنت في كل مرة أتراجع في اللحظة الأخيرة، حينما أضع أمامي صور زوجتي، وابنتي، ووالدتي. ربما تنقصني الشجاعة، لأغادر كما فعل أصدقاء آخرون حاولوا هم أيضاً أن يعودوا إلى حياة طبيعية، وأن يجدوا مورد رزق في مدينتهم، من دون أن ينجحوا. أتمنى ألا يصل بي اليأس إلى أن أسلك هذه الطريق الوعرة، وأتمنى أن تتيسر أموري، وألا أعود إلى التفكير في هذا الحل أبداً".
إثر خروجه من السجن، بعد قضائه ثلاث سنوات من عمره ضريبةً، وجّه المرتضى نداء إلى أصحاب رؤوس الأموال من أبناء المنطقة، لاحتضان المعتقلين السابقين، وتوفير فرص شغل لهم، وعدم تركهم لليأس، لكنه نداء لم يلقَ استجابة كبيرة، ما دفع المرتضى إلى أن يبدأ مجدداً من الصفر.
"في النهاية ظهر أنهم يتلاعبون بي فحسب، كما قدّمت طلباً للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ولا زلت أنتظر جواباً منهم"
"قبل اعتقالي، كنت أشتغل في إدارة تسويق شركة في السعودية، لكنني لم أستطع العودة إليها، بعد خروجي، فبدأت أفكّر في بدائل جديدة. اشتغلت في شركة للحليب، لكن ساعات العمل كانت طويلة جداً، ولا تسمح لي بقضاء وقت مع العائلة، فانقطعت عنها. وإزاء الأزمة الخانقة التي أعيشها، لم يكن أمامي من خيار، سوى أن ألجأ إلى ممارسة التجارة، بداية كبائع متجوّل، لكن ما أجنيه لا يزال زهيداً جداً. لا تسير أمور التجارة بشكل جيد، حتى الآن، وبالكاد أستطيع توفير قوت عائلتي اليومي"، يسترسل إعمراشن.
يطمح إعمراشن إلى تطوير مشروعه إلى محل تجاري، ويحاول جاهداً أن يجد تمويلاً له، غير أنه يصطدم بـ"لاءَات" كثيرة، وتوصد في وجهه الأبواب كلها، وخصوصاً تلك المرتبطة بمؤسسات محسوبة على الدولة، كما أن وضعه الحالي لا يسمح له بتوفير الضمانات الكافية، للحصول على قرض من البنك.
"قدّمت طلباً لمؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء، بهدف دعمي، لكن موقفهم كان سلبياً، إن لم يكن غير أخلاقي. وجّهت مراسلات عدة، وكنت أتنقل بين مدينتَي الحسيمة وطنجة، من مالي الخاص، لكن في النهاية ظهر أنهم يتلاعبون بي فحسب، كما قدّمت طلباً للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ولا زلت أنتظر جواباً منهم"، يستمر المرتضى إعمراشن في سرد مكابدته المريرة لعيش حياة كريمة.
ويرى المرتضى أن معاناة المعتقلين الريفيين السابقين، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تُعد الأبعاد النفسية أكثر أهمية، إذ واجهته في البداية صعوبات جمة في الاندماج مع عائلته؛ فابنته آمال لا زالت لم تتعود عليه، وبالكاد تستطيع أن تستوعب أنه والدها، كما لا تزال تراوده كوابيس بين الفينة والأخرى، بأنه لا يزال في السجن.
القاصرون والكهول... إخوة في المأساة
جمعت احتجاجات الريف أجيالاً وأعماراً مختلفة من أبناء المنطقة، ولم تكن حكراً على الشباب فحسب، وكان الحبيب الحنودي، وهو مناضل يساري قديم منذ سنوات دراسته الجامعية، من بين هؤلاء، غير الشباب، الذين تبنّوا خطاب حراك الريف، وانخرطوا فيه، إلى أن اعتُقل وهو يزاول عمله.
وبالنسبة إلى رجل في عمره، تصبح مهمة الاندماج مجدداً في حياة عامة عادية، أكثر تعقيداً: "أخذوا ثلاث سنوات وشهرين من عمري، فقط لأنني عبرت عن رأيي، ومارست حقاً من حقوقي. لم أمارس عنفاً، ولم أعتد على أحد، والفترة التي قضيتها في السجن أحدثت قطيعة تامة بين الحياة التي كنت أعيشها من قبل، والحياة التي أعيشها اليوم، بعد استعادتي حريتي. من دون أدنى شك، كان حالي أفضل بكثير. كان لدي عمل محترم، ودخل يمكّنني من إعالة أسرتي، ودفع فواتيري"، يقول الحنودي، الذي كان يعمل سائق حافلة قبل اعتقاله.
مثل بقية المعتقلين، لم يتمكن من العودة إلى عمله السابق في الشركة نفسها، لأن القطاع تضرر بسبب جائحة كورونا، وما فرضته من قيود على حركة النقل، وتقليص نشاط الشركات المشتغلة في المجال.
وإلى الآن، لا يزال الحبيب الحنودي عاطلاً عن العمل، إلى درجة أنه لم يدفع إيجار منزله منذ نحو سنة، ويعيش بفضل تضامن إخوته وأقاربه.
" الأثر النفسي على هؤلاء الأطفال (من المعتقلين السابقين) كبير جداً، وإذا لم يتم الاهتمام بهم، فإن مستقبلهم قد يأخذ مساراً سلبياً."
"أنا لم أعد شاباً، ربما لو كنت شاباً، لاختلفت الأمور. ربما كنت سأحاول، وأعيد محاولة البدء من الصفر، حتى أنجح. اليوم أبلغ من العمر 56 سنة، والخيارات المتاحة أمامي محدودة جداً للأسف، ثم نحن في منطقة لا فرص عمل فيها. إذا كان معظم الشباب عاطلين عن العمل، فكيف سيكون حالي؟ وحتى لو فكرت في التأسيس لعمل خاص يناسب سني، فمن أين لي برأسمال البداية؟"، يتساءل الحنودي الذي يبقى عزاؤه الوحيد في هذه المحنة، هو الاحترام والتقدير الكبيران اللذان يحظى بهما هو وبقية السجناء السابقين على خلفية الحراك، لدى سكان الريف، وهو دعم رمزي يعني له الكثير.
محمد المجاوي، أو حكيم الحراك، كما يوصف هناك في الريف، كان من بين قلائل معدودين على رؤوس الأصابع، ممن استفادوا من قرارات إعادتهم إلى وظائفهم في القطاع العام، خصوصاً في قطاعَي التعليم والصحة، بعد أن استفادوا من عفو ملكي.
"عُقدت مجالس تأديبية، واتخذت قرارات بتوقيفي لفترة صغيرة، واستطعت استئناف عملي كمدرس، على الرغم من أن قناعتي تقول بأن عودتنا إلى عملنا، كان يجب أن تتم تلقائياً، من دون اللجوء إلى هذه المساطر، حتى لو كانت شكلية. هذا حق من حقوقنا، وأبسط شيء يمكن القيام به، لتعويضنا عن الظلم الذي مورس علينا، كما أن هذه الإجراءات التأديبية ستبقى تلاحقنا طوال مسارنا المهني، لأنها ستحرمنا من الاستفادة من الترقية مثلاً، لمدة طويلة. لكن، وعلى الرغم من ذلك، أعدّ نفسي من المحظوظين؛ على الأقل لدي عمل"، قال المجاوي، وهو مجايل للحنودي، في حديثه لنا، وهو يتذكر عشرات الأمثلة عن معتقلين سابقين يعيشون ظروفاً مزرية جداً.
برأي المجاوي، كان يتعين على مؤسسات الدولة، أن تعكف على إيجاد مخارج وحلول، لهؤلاء المعتقلين، بطريقة تساعدهم على الاندماج بأريحية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. "لا توجد هناك إستراتيجية، أو حلول منهجية تستهدف هذه الفئات المتضررة، وتضمن لها العيش في بلدها بكرامة، لذلك يضطر معظمهم إلى الهجرة سراً، لأنهم يرون فيها الحل الوحيد. الطبيعة السياسية للملف، والتهم، والأحكام الثقيلة التي ووجهنا بها، كانت تفرض على الدولة أن تتحرك لإيجاد حل يستوعب مئات العائلات التي عانت الويلات، بسبب هذا الملف. ما نعاينه الآن هو حلول جزئية فحسب، ولا تشمل الجميع".
ويدقّ المجاوي ناقوس الخطر، بخصوص حالات المعتقلين القاصرين الذين دخلوا السجن وعمرهم لا يتجاوز 16 سنة. "هذه الفئة، هي أكثر الفئات التي تستدعي رعاية وعناية خاصتَين، ويجب أن يحظوا بالأولوية، لأن الأثر النفسي على هؤلاء الأطفال كبير جداً، وإذا لم يتم الاهتمام بهم، فإن مستقبلهم قد يأخذ مساراً سلبياً. تتعين مواكبتهم نفسياً، واجتماعياً، ووضعهم على السكة الصحيحة، واستخراج ما هو كامن فيهم من طاقة إيجابية، وإلا قد نجدهم مجدداً في السجن، بتهم حق عام"، يحذّر المجاوي من مغبة إهمال هذه الفئة الفتية من معتقلي حراك الريف.
لا تنمية لمن ينادي
يسجل نبيل الأندلسي، وهو عضو في مجلس بلدية الحسيمة، ومستشار برلماني، غياب تصور عام وشامل لدى الدولة، لإعادة إدماج السجناء السابقين لحراك الريف، مشيراً إلى وجود فئة محدودة من هؤلاء الشباب ممن استفادوا من دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتمويلها، وهي مشروع ملكي انطلق سنة 2005، ويستهدف محاربة الفقر، والهشاشة، والإقصاء الاجتماعي.
لكن عدد الذين استفادوا من هذه المبادرة، لا يتجاوز عشرين شخصاً، حسب مصادر متطابقة تحدثنا إليها، سواء من معتقلين سابقين، أو فاعلين محليين، كما أجمع المتحدثون على أن السلطات المحلية تمارس أحياناً، نوعاً من الانتقائية المتعمدة والماكرة في انتقاء المستفيدين، بهدف التمييز، وأحياناً التفريق بين المعتقلين السابقين، بإظهار أن الذين استفادوا، هم أولئك الذين لم يكونوا وجوهاً بارزة في الحراك، أو من الذين لم تعد لهم مواقف.
شاب انتحر، آخرون قرروا الهجرة السرية، والباقون يعانون الأمرّين. معتقلو حراك الريف المغربي السابقون، يعيشون أوضاعا مزرية
"كفاعل سياسي، تابعت الملف منذ الاحتجاجات، مروراً بالاعتقالات، وصولاً إلى يوم الناس هذا، وأعتقد أن الدولة ملزمة بإيجاد حل نهائي للملف، بالإفراج عن بقية المعتقلين بسبب الحراك، وهذا يكون بداية لانفراج حقيقي في المنطقة، كما عليها إعمال مقاربة تعتمد المساواة بين المعتقلين السابقين جميعهم، لا أن تصنّفهم على أساس معتقل درجة أولى، ومعتقل درجة ثانية، أو تميّز بين أولئك الذين تخشى من أن يعودوا إلى الشارع، للاحتجاج، وبين البقية"، يقول الأندلسي، الذي يعتقد أنه تجب مقاربة المشكلة، جذرياً، والعمل على معالجة أصولها، وهي حسب قوله: البطالة، وعدم نجاعة المشاريع التنموية. فلا يمكن إيجاد حل للسجناء السابقين، من دون استثمار الإمكانات الكبيرة التي تزخر بها المنطقة، في خلق فرص شغل يمكن أن تحتضن الجميع.
يشاطره التدمري الرأي، إذ يستنتج الأخير غياب إستراتيجية تنموية تستجيب لمطالب السكان المحليين وطموحاتهم، في خلق فرص شغل. "حتى الآن، لا انعكاس لهذه المشاريع بشكل مباشر على المواطن. أموال طائلة صُرفت على مشاريع تنموية، لكنها لم تكن في محلها، ولم تراعِ خصوصية المنطقة ومقدراتها، فلا يمكنك أن تجلس في الرباط مثلاً، وتقرر إنشاء مشروع في الحسيمة لا يراعي احتياجاتها"، يشرح التدمري.
صرفت الدولة مثلاً، أكثر من نصف مليار دولار على مشروع منارة المتوسط، لكنها "مشاريع فوقية تسيطر عليها رؤية مركزية يغيب عنها تشخيص دقيق وسليم للمنطقة، وإمكاناتها، ونقاط القوة والضعف فيها، ولا يتم فيها إشراك السكان، فتصبح تالياً، مجرد هدر للمال العام"، يرى التدمري، من موقعه كفاعل مدني.
وبغض النظر عن فكرة مخطط "الحسيمة منارة المتوسط"، الذي أطلقه العاهل المغربي محمد السادس، سنة 2015، ومدى استجابته لأولويات السكان، يسجل نبيل الأندلسي أن الإشكالات الجوهرية في المشروع، متعلقة بالأساس بجدية التنفيذ، وجودة الأشغال، وهو ما يجعل المواطنين يفقدون الثقة.
المعتقلون السابقون كذلك، يرون أن ما قدّمته الدولة حتى الآن، لا يشفي غليلهم. "دعم بعض المشاريع الخاصة البسيطة مثل مقهى، أو مطعم وجبات سريعة، أو محل تجاري، أمر جيد تبعث من خلاله الدولة إشارات إيجابية إلى المعتقلين المفرج عنهم، لكن هذه الحلول البسيطة تقليدية، ولا تجيب عن أسئلة الشباب"، يقول المرتضى إعمراشن.
"على الدولة أن تخلق فرص شغل حقيقية. هذه حلول ترقيعية، وتشمل البعض فقط. معظم المعتقلين السابقين أصبحوا عالة على أسرهم، للأسف، لذلك فإن ملجأ كل معتقل سابق، أصبح الهجرة السرّية، ولن يتوقف هذا النزيف. ماذا سيفعلون في مدينة لا مصانع، ولا معامل فيها؟"، يسأل ربيع الأبلق، قبل أن يتابع بحرقة: "يخبروننا دائماً أن الحسيمة منطقة سياحية، هل سآكل السياحة؟".
ما يحتاج إليه المعتقلون السياسيون السابقون في الريف، هو مشروع مؤسساتي متكامل لإعادة الإدماج. هذا ما يقترحه عبد الوهاب التدمري، حتى يتم استيعاب من تبقى منهم ممن ظلوا صامدين، ولم يغادروا الريف. "يجب أن يتم ذلك في إطار رؤية شمولية عقلانية، لإصلاح ذات البين، والعلاقة بين الريف والدولة، وإحداث مصالحة حقيقية، ببعديها السياسي والتنموي"، يستطرد التدمري، الذي يأسف لتملص المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو مؤسسة وطنية تُعنى بالنظر في القضايا المرتبطة بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات، وحمايتها، من واجباتها في هذا الإطار.
وفي السياق، كشف المعتقل السابق الحبيب الحنودي، أنهم كمجموعة من المعتقلين السابقين، سبق وطرحوا، خلال حوار جمعهم بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان، إثر خروجهم، مسألة جبر الضرر الفردي، بالنسبة إلى المعتقلين السابقين، إلا أن جواب المؤسسة في هذا الخصوص كان سلبياً. "لقد فهمنا منهم أنه لا إمكانية لتكرار تجربة الإنصاف والمصالحة مجدداً"، يكشف لنا الحنودي.
هكذا إذاً، يعيش السجناء الريفيون السابقون أيامهم بنصف حرية، وهم الذين اعتُقلوا عقاباً لهم، لاحتجاجهم على أوضاعهم، ولمطالبتهم بتحسينها، ثم خرجوا بعدها ليجدوا أنفسهم في وضع أسوأ من السابق. خرجوا من سجن صغير إلى سجن أكبر، وسلبتهم الدولة حريتهم، ثم أعادتها لهم، لتتركهم وحيدين في العراء يواجهون مصائرهم.
كان لافتاً أن اللجنة الخاصة بإعداد النموذج التنموي، التي عيّنها القصر، لإعداد نموذج جديد يكون خريطة طريق لمسار البلاد، في السنوات القادمة، قد تجاهلت خلال جولاتها الميدانية زيارة منطقة الريف، التي عرفت أكبر حركة احتجاجية تطالب بالتنمية. وكانت من بين أبرز الأسباب التي دفعت أعلى سلطات في المغرب، إلى الاعتراف بفشل الإستراتيجيات التنموية السابقة.
وكأن الحراك لم يقع أبداً. ظلّ الحال على ما هو عليه، ولم يتغير شيء: يأس جماعي، وإحباط عام يعمّ الريف، وشعور فردي بالمرارة، وخسارة أشياء غير قابلة للتوصيف، في أوساط السجناء السابقين الذين مات فيهم كل شيء صلب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com