شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عمّا قريب، ستصبح بلاد كاملة غير صالحة للعيش

عمّا قريب، ستصبح بلاد كاملة غير صالحة للعيش

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 25 سبتمبر 202110:29 ص

كثيراً ما يتم الحديث، في هذه الأيام، عن الهجرة الخارجية للسوريين، بعيداً عن بلادهم. لكن ماذا عن الهجرة الداخلية والغربة التي يعانون منها على أرض البلاد؟!

يدور الحديث هنا، عن الهجرة من قرى الريف؛ الهجرة التي عانى منها كثر من السوريين الذين أجبرهم فقر الحال، وعدم توافر فرص العمل، وسوء الخدمات، على مغادرة هذه القرى باتجاه المدن، وتحديداً باتجاه مناطق المخالفات والعشوائيات التي نشأت على أطرافها.

بدأت هذه الهجرة، قبل عقود مضت، واشتدت أكثر فأكثر، بعد بدء الأزمة الحالية التي تعاني منها البلاد، وارتبط ذلك بالخدمات؛ فمن الصحيح أن ما تبقّى من الخدمات العامة ضئيل على مساحة البلاد كلّها، لكن تبقى للمدن حظوظها الأعلى، وبالأخص العاصمة دمشق.

ومن يبحث في تاريخ الهجرة الداخلية للسوريين، بين المحافظات، ومن الريف إلى المدينة، يجد أن الأمر سبق الأزمة السورية بعقدين على الأقل، ويظهر له أن جوهر الأمر لا يرتبط بالأزمة، بقدر ما يرتبط بطبيعة منظومة الحكم، وطريقة إدارتها لأمور البلاد، وتوزيع ثرواتها، منذ عقود.

الباحث في تاريخ الهجرة الداخلية للسوريين، بين المحافظات، ومن الريف إلى المدينة، يجد أن الأمر سبق الأزمة السورية بعقدين على الأقل، ويظهر له أن جوهر الأمر لا يرتبط بالأزمة، بقدر ما يرتبط بطبيعة منظومة الحكم، وطريقة إدارتها لأمور البلاد، وتوزيع ثرواتها، منذ عقود

تحولت هذه القرى التي كانت تنبض بالحيوية والعطاء، إلى مكان للنزهة يقضي فيه أصحاب القرى وأهلها، بضعة أيام لا أكثر! وهذا حال صاحب هذه الكلمات. فبينما ضاقت بي أحوال المدينة، وسئمت ضجيجها، وصخب العيش فيها، توجهت إلى قريتي التي لم أزرها منذ ثلاث سنوات ونيّف، بحثاً عن متنفَّس يعيد بث روح الحياة في نفسي. تُسمّى قريتي "بشاوي"، وهي قرية صغيرة، عندما تزورها مرة واحدة، ستبقى حاضرة في ذهنك أبد الدهر، وأكاد لا أبالغ إن قلت لكم إنها جانب من الجنة على هذه الأرض، وأثق بأن كثراً ممّن سيقرؤون هذه الكلمات، سيسمعون بها للمرة الأولى؛ هي قرية تتربع على رأس قمة جبل وادي العيون، على ارتفاع يبلغ نحو ألف متر عن سطح البحر. وعلى هذا العلو، إن وطأتها قدماك ذات يوم، ستُفاجأ بأن الغيم سيرافقك على الطريق، وسيكون لك دليلاً!

معظم أبناء هذه القرية، مدنيين وعسكريين، غادروا القرية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ومعظمهم يعيشون في محافظة دمشق اليوم.

وحقيقة الأمر أنهم يعيشون في عشوائيات محافظة دمشق، لا في أماكن سكنها المأهولة والمنظمة، التي كانت، وما زالت، حلماً خيالياً لأبناء الأرياف. وحديث العشوائيات حديث طويل، في هذه البلاد العنيدة والقاسية، وربما يحتاج وحده إلى مساحة خاصة. ما أريد قوله سريعاً، هو أن دمشق، عاصمة البلاد السياسية، تحوي من مناطق العشوائيات والمخالفات، أكثر مما تحوي من السكن النظامي المأهول ربما! أحياء طويلة وعريضة على مساحة المحافظة: مزة 86، عش الورور، أجزاء واسعة من منطقة ركن الدين، وادي المشاريع، حي الورود، جوبر، برزة، التضامن، دف الشوك، والقائمة تطول.

هنا في هذه العشوائيات، نشأت عائلتي بالحدود الدنيا من متطلبات العيش الكريم، كغيرها من العوائل السورية. وحتى اللحظة، ما زلنا نعيش في بيت لا نملكه، ونصارع فيه قسوة الحياة، على الرغم مما حصل، وما تغير في حال هذه العشوائيات، من السيء إلى الأسوأ، والتي أصبحت بعد بداية الأزمة، ملجأً للمهجّرين كلهم، من المحافظات جميعها، وهي تكتظ اليوم بالسكان، بأعداد تفوق الحدود الطبيعية والمنطقية.

بعد غياب دام سنوات، ومع أول قدم وضعتها على مشارف القرية، سمعت الأطفال يغنّون: "بشاوي يا أحلى ضيعة من ضياع الجرد... اسمك غنية حلوة ع شفاف الورد"، وقوبلت بالابتسامات، وبرحابة الصدر التي يفتقدها الإنسان في المدن هذه الأيام، لثقل الأعباء وهموم العيش الضاغطة على الجميع إلى درجة الموت!

وإذا تناولنا حديث الخدمات في قريتي هذه، والقرى المجاورة لها، فسنجد أنه كارثي، ومؤلم، ومثير للدهشة حقاً؛ فقريتي اليوم لا ترى الكهرباء أكثر من ثلاث ساعات، على مدار الـ24 ساعة، وهي بلا شبكة صرف صحي حتى اللحظة، ومعظم سكّانها لا يملكون خط هاتف أرضي، لعدم وجود خط شاغر، وهناك من سجّل للحصول على خط هاتفي قبل أكثر من عشر سنوات، ولم يحصل عليه حتى اللحظة. أما المياه، فهي غير متوفرة إلّا يوماً واحداً كل 15 يوماً، وأحياناً أكثر...

بعد غياب دام سنوات، ومع أول قدم وضعتها على مشارف القرية، سمعت الأطفال يغنّون: "بشاوي يا أحلى ضيعة من ضياع الجرد... اسمك غنية حلوة ع شفاف الورد"، وقوبلت بالابتسامات، وبرحابة الصدر التي يفتقدها الإنسان في المدن هذه الأيام

قد يبدو الكلام في بعض مفاصله هنا، مرتبط بحالة فردية، وبقرية استثنائية، إلّا أنه مع الأسف يعبّر عن واقع معظم السوريين في الأرياف السورية. والمؤسف أكثر من ذلك، أن يكون واقع الحال الذي نصفه، في القرن الحادي والعشرين من الزمن، وفي دولة حصلت على استقلالها منذ العام 1946!

سوء واقع الخدمات هذا، غير مرتبط بالأزمة بشكل مباشر؛ جزء منه كذلك، أما جزؤه الآخر، فمرتبط بطبيعة المنظومة التي أهملت قرى الريف على مدار عقود، والتي أجبرت أهل الريف على الهجرة بشكل غير مباشر، ثم لم تؤمّن لهم سكنهم في هذه المدن، فالتهمتهم العشوائيات.

يشير هذا بطبيعة الحال إلى حجم تهتّك منظومة الحكم في البلاد وتآكلها، ويؤكد عجزها عن الدفع بعجلة الحياة والتطور فيها... وإلى هنا، يمكن القول إن التغيير الجذري والشامل على المستويات كافة، أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى، وإلّا فإن بلاداً كاملة ستصبح غير صالحة للسكن والعيش، بعد قليل!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image