كان طولي يكفي، كي أسند ذقني إلى حافة طاولة العرض التي يقف خلفها صاحب محل الأقمشة. يبعد محل الأقمشة عن بيتنا، ما يقارب خمساً وعشرين دقيقة، بخطوات أمي القصيرة والمتلاحقة. اجتياز الباب من تحت اللافتة الكبيرة التي كُتبت بخط جميل، يملأ نفس الناظر بالثقة والفخر بأنه داخلٌ إلى حرم الأقمشة المقدّس.
ندخل، فتنفتح أمام ناظرينا مغارة كنوز الأنسجة والألوان. رفوفٌ منتظمة تغطي جدران المكان. صُفّت عليها بانتظام لفّات الأقمشة. رفوفٌ مخصصةٌ للأقمشة الشتوية ذات النسيج السميك والمتين، والتي تغلب عليها الألوان العميقة والداكنة، وتغمر الناظر إليها بموجة شوق دافئة إلى أوقات تخص فصل الشتاء، كأن يتخيل الناظر نفسه جالساً قرب المدفأة، وفي يده كأس شاي ساخن، أو أنه مجتمِع مع العائلة حول قدر شوربة العدس، يتناوبون على السكب منه في صحونهم. أما رفوف الأقمشة الصيفية، فهي مهرجانٌ للألوان والخفة، تكاد، بالنظر إليها، ترى سرب فراشات يطير من منحنياتها، أو يمر في فمك طعم حزٍّ من البطيخ الأحمر الحلو، والبارد.
ما يقارب من مئة وسبعين مليون طفل، أي ما يعادل 11% من أطفال العالم، يُقحَمون في العمل ساعاتٍ طويلة، وبأجور زهيدة، وفي أعمال مرتبطة بصناعة الملابس.
بعد السّلام والسؤال عن العائلة المتبادل، يبدأ حديث العمل. تخبر أمي صاحب المحل عن الغرض من قطعة القماش: "أريد قماشاً لثوب صيفي خفيف، أو أريد قماشاً لطقم شتوي مكوّن من جاكيت، وتنورة". تبعاً للطلب، يتوجه البائع إلى الرفوف المخصصة للغرض، ويتناول منها عدداً من اللفّات، ويحملها إلى طاولة العرض التي يقف خلفها، وقبالته، على الضفة الأخرى، نحن. يفتح اللفّات إلى جانب بعضها البعض، على سطح الطاولة الزجاجي اللامع بما يكفي ليظهر اللّون والنقوش. ثم يبدأ بالشرح والتوضيح: "شوفي يا بنت خالي، هذا قماش إيطالي، نوعه جديد، واسمه ميلبا. قطن مية بالمية. أنسب قماش للصيف". "هذا جوخ إنكليزي. صوف أصلي أفضل ما يُلبس في الشتاء، وسيعيش الطقم منه عشر سنوات، من دون أن يتغير". تعاين أمي القماش بيدها الخبيرة، وتتأكد من خلوّه مما تسميّه أمي "خيوط نايلون". ثم تختار نوع القماش الذي قررت أن تشتري، ويقترح البائع كمية القماش التي يعتقد أنها تكفي لخياطة الثوب. يقص البائع قطعة القماش، ويضعها في الكيس، وتدفع أمي ثمنها، ثم نغادر.
نحمل القماش، ونمشي عائدين باتجاه بيتنا. وقبل أن نصل، نمر في طريقنا على بيت الخيّاطة. باب البيت مختبئ خلف شجرة دفلى وارفة، تبقى أشهراً عدة حاملةً ورودها الزهرية السعيدة. ندق الباب، ويفتح لنا أحد أهل البيت؛ أم الخيّاطة، أو أختها، أو طفلٌ صادف وجوده مع أمه في بيتها. نسلّم، وتتبادل أمي أحاديث قصيرة مع أهل الدار.
نمر إلى جانب حاكورة الدار، حيث شجيرات ورد وملّيسة، وأصص حبق وخبيزة متراصة على حافاتها. ثم ندخل إلى غرفة الخياطة، في زاوية البيت الداخلية. الغرفة أشبه بالكهف، عابقةٌ برائحة القماش؛ في أرجائها كلها تتوزع لفات القماش، وعلى الجدران عُلّقت الملابس المخيَّطة التي أصبحت جاهزةً كي يستلمها أصحابها. الخيّاطة هي المتعبدة الزاهدة الساكنة في هذا الكهف. نسلّم، فتجيبنا أحياناً من دون أن تلتفت إلينا، وتجيب وهي منحنيةٌ تقص قماشةً مفرودةً أمامها، على رقعة قماش تغطي السجادة المفروشة على أرض الغرفة، أو بينما هي جالسةٌ خلف آلة الخياطة، تمرر القماش تحت الإبرة الراكضة كفرس على سهوب القماش. وقد تردّ السلام من بين شفاه تحبس بينها عدداً من الدبابيس، فيخرج الجواب وعراً متعرجاً، كدروب مدينتنا. نأخذ لنا مكاناً على الكنبة بين أكوام قطع القماش، والأكياس.
تُخبرها أمي عن الموديل الذي تريده: "فستان إلى تحت الركبة، مزموم على الخصر، مكولش، بقبّة مدوّرة، نص كم". تأخذ الخيّاطة مقاسات أمي، وتحدد موعداً للقياس. نغادر بيت الخياطة مع هالة من البهجة والأمل تحيط بنا
عندما تفرغ مما بين يديها من عمل، تلتفت إلينا وتسأل أمي عن الحال والأولاد، وعما تريد خياطته. تُخرج أمي حينها قطعة القماش من الكيس، وتفردها بفرح، وغالباً ما تثني الخيّاطة على اختيارات أمي من القماش، مما يزيد الفرحة حلاوةً. تُخبرها أمي عن الموديل الذي تريده: "فستان إلى تحت الركبة، مزموم على الخصر، مكولش، بقبّة مدوّرة، نص كم". تأخذ الخيّاطة مقاسات أمي، وتحدد موعداً للقياس. نغادر بيت الخياطة مع هالة من البهجة والأمل تحيط بنا. بعد القياس الأول، يُحدد موعد الاستلام.
بعض الفساتين التي كانت تخاط لمناسبة عرس أحد الأقارب، كانت تحظى بمعاملة استثنائية. تحمل أمي الفستان إلى سيدة مختصة بشك الخرز، لتزيّن صدر الفستان بوردة من الخرز المشكوك، أو بعرق من الورود، ما يزيد الفستان بهاءً وسناء. يدخل الفستان الخزانة معززاً مكرّماً، ليجاور إخوته الأكبر سناً.
عندما يتّسخ الفستان، لا يوضَع مع الملابس الأخرى، ولا يتعرض للدوران الشرس في الغسالة، بل يُغسل وحده، في "طشت" واسع، بالماء الدافئ، ومسحوق الغسيل. لم يكن قرار خياطة فستان جديد، يؤخذ على عجل، بل كان يخضع لأحكام الحاجة إليه، وعدم تعارضها مع أولويات العائلة الأكثر أهمية، لهذا كانت تمر أحياناً صيفيات عدة، من دون أن يضاف إلى خزانة أمي أي فرد جديد. كما كان عمر الفستان طويلاً. مراتٌ كثيرةٌ تلك التي سمعت فيها أمي تخبر بفخر، إحدى القريبات، أو الجارات، أن الفستان الذي ترتديه عمره سبع سنوات مثلاً، وأن قماشه من الجودة بحيث يظن كل من يراه أنه جديد! عندما يحال فستانٌ ما إلى التقاعد، بسبب أن قماشه صار باهتاً، أو مهترئاً، كان يتحول إلى زهرة تجف لتنثر بذورها حولها، لتضمن بقاءها. هكذا كان الفستان يتحوّل إلى وجه "طرّاحة"، وقطع لحمل الأواني الساخنة في المطبخ.
هل يمكننا أن نرتدي ملابس سعيدة؟ ملابس لم يجمع قطنها، ويغزله، أطفال صغار انتهك الإجهاد حرمة طفولتهم؟ ملابس تقاضى من عمل في إنتاجها أجوراً عادلة؟ ملابس لم تلوّث أصبغتها الأنهار؟
هذه كانت سيرة حياة فستان لسيدة من الطبقة المتوسطة، قبل أن يجتاح طوفان منتجات شركات الملابس الجاهزة الأسواق، وقبل أن تصبح صناعة الملابس، وما يسمى بالموضة السريعة، مسؤولةً عما يُقدَّر بعشرة بالمئة من انبعاثات الكربون، وثاني أكبر ملوّث للمياه العذبة، وقبل أن يستهلك مَن على الأرض ما يقدر بثمانين بليون قطعة ملابس، سنوياً. ليس هذا فحسب، بل إن الموضة السريعة والرخيصة، وفي مراحل الإنتاج كافة، بدءاً من زراعة بذور القطن، حتى جمع المحصول، ثم الغزل، والصباغة، وحتى الخياطة، مرتبطة اليوم بعمالة الأطفال، في البلدان الفقيرة. تقدّر منظمة العمل الدولية، أن ما يقارب من مئة وسبعين مليون طفل، أي ما يعادل 11% من أطفال العالم، يُقحَمون في العمل ساعاتٍ طويلة، وبأجور زهيدة، وفي أعمال مرتبطة بصناعة الملابس.
السؤال الذي يمكن أن نطرحه هو: هل يمكننا أن نرتدي ملابس سعيدة؟ ملابس لم يجمع قطنها، ويغزله، أطفال صغار انتهك الإجهاد حرمة طفولتهم؟ ملابس تقاضى من عمل في إنتاجها أجوراً عادلة؟ ملابس لم تلوّث أصبغتها الأنهار؟ هناك، اليوم، عدد من شركات إنتاج الملابس التي تعهّدت ضمان عدم تشغيل الأطفال، في خط إنتاجها، وفي الإنتاج الحيوي لموادها الأولية. يمكننا أن نبحث وندقّق في مصادر ملابسنا. ماذا أيضاً لو فكّرنا أن الموضة السريعة، كما الأغذية السريعة، ليست إلّا تخمةً من دون صحة. الصحة في إنتاج الملابس، تعني صحة الأرض بترابها، وهوائها، ومائها، وأحيائها. وأخيراً، ليكن على الفساتين التي تعيش عمراً طويلاً وسعيداً، السّلام، وعلى الأرض المسرّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون