يمثل زي الشعوب في كل بلد ثقافتهم وآدابهم ومعتقداتهم، ولكن ليس في بلدان مثل إيران وأفغانستان التي تجبرهم الحكومات فيها على ارتداء أزياء خاصة وتمنعهم عن الأخرى.
لم يمرّ سوى ثلاث سنوات على رفع إجبار ارتداء البرقع (او التشادُري) للنساء في أفغانستان من قبل وزارة الثقافة في هذا البلد في 11 أب/أغسطس 2018 حتى عاد طالبان ثانية وخلاف ادعاءاتهم عن احترام حقوق المراة، أطلقوا الرصاص على شابة ذات الواحد والعشرين في 4 أب/اغسطس 2021، بسبب عدم ارتدائها للبرقع، وسيرها دون مرافقة رجل.
مع عودة طالبان، اضطُرّت كثير من النساء إلى شراء البرقع خشية القتل على يدهم، والباعة الذين كانوا قد واجهوا ركوداً في أسواقهم خلال السنوات الأخيرة، استغلوا الفرصة هذه ليرفعوا أسعار البرقع عشرات الأضعاف، في حين أن الخياطين وجدوا فرصتهم الذهبية لدرّ الأموال نحو صناديقهم. أما الصين فهو المستفيد الآخر في هذه العلمية، ذلك أن الجزء الأكبر من البراقع يتم استيراده من الصين إلى أفغانستان.
ما هو البرقع أو "الشادوري"؟ ومن أين أتى؟
إن قمنا ببحث في غوغل عن الأزياء الأفغانية ستنفتح أمامنا شاشة مليئة بالألوان والتي لا تمت بصلة بالوضع الأفغاني هذه الأيام. خلال السنوات الأخيرة كانت الأزياء التقليدية ذات الألوان الكثيرة في أفغانستان قد واجهت أقبالاً واسعاً، وكانت تتمّ عروض أزياء (فاشن شوز) كثيرة بأفكار تمزج بين اللباس التقليدي والحديث.
إن قمنا ببحث في غوغل عن الأزياء الأفغانية ستنفتح أمامنا شاشة مليئة بالألوان والتي لا تمت بصلة بالوضع الأفغاني هذه الأيام
أما البرقع الذي ترتديه الأفغانيات اليوم فقد تم فرض ارتدائه منذ عام 1996 في أفغانستان، أي منذ احتلال طالبان لهذا البلد، وهو زي إسلامي ترتديه النساء في كلّ من الهند، وباكستان، وأفغانستان، وجنوب إيران، وكل منطقة لها صيغتها الخاصة في شكله وارتدائه؛ فالنوع الأفغاني والباكستاني منه يغطي كل جسد المرأة، بما فيه وجهها. وفي هذا النوع تختفي العينان عادة خلف ستارة مشبكة، حيث لا تتبين العينان من خلف هذه الستارة.
في البلدان الإسلامية الشرقية، وقبل دخول التيار الحداثي إليها، أي قبل ما يقارب مئة عام، كان يتم "إخفاء" النساء من أجل "الحفاظ" عليهن باعتبارهن "مِلكاً للرجال". فإما لم تستطع النساء التردد في المدن، وفي حال السماح لهن بالخروج من البيت فلم يستطعن ذلك دون ارتداء الحجاب.
حين تعرّف ملوك هذه البلدان إلى ظاهرة التجدد في الغرب، ومشاركة النساء في المجتمع، قرروا فتح فسحة لهن في الحريات المدنية، ومن ذلك الحرية في ارتداء الثياب.
من جهة أخرى، لم يسمح ارتداء الحجاب الكامل من قبل النساء في هذه البلدان، بما فيها أفغانستان، بتمييز هوياتهن من قبل الشرطة، فكانت تتمّ عمليات إرهابية تحت البرقع أو "الشادور". كان الرجال الإرهابيون يرتدون البرقع ويقومون بالعمل الإرهابي تحت هذه القطعة القماشية التي تغطي الجسد كله، فلا يتبين إن كان رجل قد ارتداها أم امرأة.
واعتُبر البرقعُ من قبل كثير من النشطاء والناشطات في مجال حقوق المرأة والمطالبين والمطالبات بالحرية كرمزٍ للتحجر، والتعصب، وتقييد النساء؛ منهم مؤسس الهند الحديثة، جواهر لعل نهرو، الذي اعتبر الحجاب والشادور سجناً يُحبس فيه نصف المجتمع.
تاريخ الحجاب في فغانستان
قبل قرن، أصبح حجاب النساء المسلمات في البلدان الإسلامية مشكلة لدى الحكومات والحكام من أتاتورك العثماني إلى رضا خان في إيران وأمان الله خان في أفغانستان. فأمر هؤلاء الحكام بمنع الحجاب للتعويض عن شعورهم بالتخلف إزاء الغرب. عندما أعلن أمان الله خان، حاكم أفغانستان آنذاك، عن منع الحجاب عام 1924، ظهرت الملكة ثريا علانية دون حجاب وسافرة.
أدى هذا الحادث إلى انتقادات كثيرة من قبل رجال الدين. لكن العائلة الحاكمة لم تتراجع من خطوتها، وواصلت الملكة سعيها لتحسين وضع المرأة، حيث أسست أول مدرسة ومستشفى نسائي في أفغانستان. كما تم حظر زواج الفتيات القاصرات وتعدد الزوجات.
ردود الفعل الحادة من قبل للمتطرفين الإسلاميين دفع أمان الله خان إلى التراجع قليلاً، لكنه سرعان ما حقق أهدافه في مجال حرية المرأة. وفي شوارع كابول المهمة، رفعت لافتات تقول: "لا يمكن لامرأة أن تعبر هنا مرتدية البرقع".
أدى استياء رجال الدين من الحريات الاجتماعية إلى سقوط نظام أمان الله خان من قبل المتمردين بقيادة حبيب الله كلكاني. حكم كلكاني البلاد لمدة تسعة أشهر، وألغى جميع الإجراءات التقدمية السابقة التي قام بها أمان الله خان، ومنع النساء من الدراسة والعمل والسفر دون إذن ولي الأمر.
بعد كلكاني وصل نادر شاه إلى السلطة، لكنه تصرف أيضاً بشكل متحفظ للغاية وجعل حجاب النساء إلزامياً في البلاد. وبعد ذلك بفترة قصيرة، وصل ظاهر شاه إلى السلطة. أعاد الحاكم الجديد حق المرأة في التعليم، وفي عام 1933 تمكنت المرأة من العودة إلى المجتمع. وفي عام 1959 ومع وصول داود خان إلى السلطة، تم الإعلان عن الحجاب الاختياري مرة أخرى.
"أتذكر والدتي وهي تذرف الدموع وتقول لي: ابنتي لقد تخلصتِ من هذا العبء، ولم تعودي مضطرةً إلى ارتداء الشادور!"
تقول محبوبة سراج، الناشطة الأفغانية في مجال حقوق المرأة، عن نفسها في ذلك الوقت: "كنت في الصف السادس وفي ذلك الوقت كان علينا ارتداء الشادور بناءً على تعليمات المدارس. حضر داوخان بعد وصوله إلى السلطة اجتماعاً للنساء، فقال لهن بأنه ليس عليهن ارتداء الشادور من اليوم فصاعداً. أتذكر والدتي وهي تذرف الدموع وتقول لي: ابنتي لقد تخلصتِ من هذا العبء، ولم تعودي مضطرةً إلى ارتداء الشادور! منذ تلك اللحظة لم أعد أرتدي الشادور ثانية."
في عام 1963، مُنحت المرأة الأفغانية حق التصويت، ودخلت النساء عالم السياسة، وتم إرسالهن إلى دول أخرى كمبعوثات للدولة. أجريت هذه التغييرات في المدن الرئيسية في أفغانستان، بينما كانت المرأة الريفية لا تزال تعيش على نفس النمط القديم، ويهيمن عليها الرجال وترتدي الحجاب، حتى كان يتم تهديد النساء في الأرياف بالتعرض للعنف في الانتخابات من أجل التصويت للمرشح الذي تدعمه العائلة.
وعلى الرغم من أن نشطاء وناشطات حقوق المرأة عملوا/ن بجد لنشر حقوق المرأة في جميع أنحاء البلاد، إلا أن الأحداث العسكرية والحرب الأهلية في أفغانستان زعزعت مكانة المرأة، ووصول طالبان إلى السلطة لمدة خمس سنوات، حتى عام 2001، أدى إلى إلحاق ضرر كبير بالحركة النسائية وحقوق المرأة في أفغانستان، حتى توقع بعض علماء الاجتماع ضرورة مضي سنوات عديدة لتعويض هذا الضرر.
خلال السنوات العشرين الأخيرة (من 2001 إلى 2021) كان هناك الكثير من الجدل حول حقوق المرأة في أفغانستان، فقد خلعت بعض النساء الحجاب وبعضهن بقين يرتدين الشادور، إما بسبب التعصب الذكوري، وإما خوفاً من انعدام الأمن، لكنه لم يعد إلزامياً خلال هذه السنوات. ورغم أن رجال الدين والمتطرفين كانوا يعارضون حرية المرأة، إلا أن وصول طالبان مؤخراً إلى السلطة، بالحرب وإراقة الدماء، وبين عشية وضحاها، ، بدد أمل النساء الأفغانيات في تحسين الوضع.
لماذا أصبح الحجاب قضية حكام الدول الإسلامية؟
الحكومات الاستبدادية تتخذ القرار بشان أزياء الرجال، وأكثر من ذلك بكثير تقرر بشان أزياء النساء. عدم قدرة نصف المجتمع (النساء) على المشاركة في الشؤون السياسية للبلاد قد يصب في مصلحة هذه الحكومات، ووجود الحجاب والتحذير المستمر للمرأة لضرورة بقائها في البيت واتخاذ القرارات لها هو أفضل وسيلة لمنع المرأة من المشاركة في إدارة البلاد.
الرجال دائماً -ولا يتعلق هذا الأمر بالرجال كجنس بشري فحسب بل المقصود هو القوانين الذكورية والسياسة والشؤون العسكرية- هم الذين يقررون للمرأة ما إذا كانت تستطيع أن تمارس حقوقها الطبيعية أم لا، مما يدل على أن نصف المجتمع يخضع للسياسة الذكورية؛ إن سمحت القوانين الهرمية للمرأة، فيمكنها المشاركة في المجتمع، وإلا فلن تستطيع ذلك.
ثم رُفعت لافتة في شوارع كابول: "لا يمكن لامرأة أن تعبر هنا مرتدية البرقع"
وكما تقول حركة طالبان، سيقرر "الملالي" ما إذا كان يجب أن يكون للمرأة حضور في أفغانستان أم لا. كما أن الحركة ليس لديها أدنى شك في أن الحجاب سيكون إلزامياً في أفغانستان.
لم تنحصر هذه القضية على الدول الإسلامية فحسب، حيث في الدول الغربية أيضاً هناك نساء كثرٌ، لا سيما الرياضيات منهن، يكافحن ضد قرارات الرجال لهن في مجال اللباس. وليس هناك شك في أنه في معظم أنحاء العالم، يُنظر إلى المرأة على أنها سلعة، وجسدها وقضاياه مقدَّمة على كل شيء يتعلق بها.
موقف الغرب من الحجاب الإجباري في الدول الإسلامية
أثارت قضية الحجاب الكامل لمراسلة سي إن إن في افغانستان بعد دخول طالبان إلى مدينة هراة الأفغانية الكثيرَ من التعليقات والانتقادات. ربما يعتقد موافقو حجاب هذه الصحفية أن حضور المرأة أهم من كيفية حضورها، والمهم أن تكون هي حاضرة حتى إن كانت في "كيس أسود".
قضية الصحفية هي قضية مؤقتة بالنسبة لها، حيث يمكنها مغادرة أفغانستان في أي وقت تشاء، وبدعم من حكومتها، ولم يتم تهجيرها في المطارات -كما حال الأفغان- للهروب من بلدها خشية المعاملة الوحشية. إن نظرنا إلى هذه القضية من منظور شخص في الشرق الأوسط، فلن نحصل على شيء سوى المصالح في مجال حقوق الإنسان والمساواة.
دعونا نلقي نظرة على تجربة مماثلة في إيران. بعد مرور أقل من شهر على الثورة الإيرانية، عندما خرجت النساء الإيرانيات في 8 مارس 1979 إلى الشوارع ضد الحجاب الإجباري، اعتبرته العديد من القوى السياسية أمراً ثانوياً، وقابلاً للتفاوض في المستقبل، ورفضت دعم الحركة النسائية ضد الحجاب الإجباري، واتخاذ موقف تجاه ذلك. وبهذا الموقف المتحفظ سمحوا بقمع النساء من جانب الجماعات الإسلامية المتطرفة. والآن وبعد مرور ما يقارب 43 عاماً على ذلك، نرى أن موقف النظام لم يتغير.
واللافت أن الكثير من الغربيين يعتقدون أن المرأة سواء في إيران أم أفغانستان، ترتدي الحجاب الإسلامي بشكل طوعي ولا تشعر أنه إلزامي وقسري، دون أن يعلموا أن ارتداء الحجاب هو بمثابة السجن، وفي أفغانستان هذه الأيام هو بمثابة الموت. فطالما أن هناك أنظمة استبدادية، لا يكون نوع الأزياء التي يرتديها أهل بلد ما مجبّرين، رمزاً لثقافتهم ومعتقداتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.