شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"لبست فساتين شعبية ونوبية وسط الزحمة"... حملات نسائية لاستعادة "هوية" الأزياء المصرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 27 سبتمبر 202005:11 م

في عام 1956، كانت تحية كاريوكا تمشي على سجادة مهرجان "كان" السينمائي، سيدة جميلة ممشوقة القوام، ترتدي فستان "سواريه" على طريقة نجمات العالم المشاركات معها في المهرجان، حيث مشاركة فيلمها "شباب امرأة" بالمهرجان ضمن أفلام الوفد المصري، والذي كان يرأسه آنذاك الكاتب الكبير يحيى حقي، لكن لا أحد من الحضور لاحظ وجودها أو وجود أحد أعضاء الوفد، فلم تلتفت إليها العدسات ولم ترصد تحركاتها كما فعلت مع غيرها من النجمات، وكان من الممكن أن يدوم ذلك الاستقبال الفاتر لولا ذكاء تحية كاريوكا، التي تعلمت في صالات الكباريهات كيف تلفت انتباه الزبون، حتى أصبحت تطلب بالاسم.

صعدت تحية كاريوكا إلى غرفتها مسرعة، فتحت شنطة ملابسها على عجل، ودون تردد أمسكت بهما، ملاية لف كانت أحضرتها معها في رحلتها وشبشب بوردة، لتخرج بهما سيدة مصرية نشأت في حارة بسيطة، تجيد إظهار مفاتنها ببعض الانحناءات والتموجات في مشيتها، واثقة من أن الملاية اللف تجيد صنع ما عجز عنه الفستان الباريسي مكشوف الكتفين، وإن شئت أن تسمي تلك السيدة فقل "شفعات" الشخصية التي جسدتها كاريوكا في "شباب امرأة".

بالعباية اللف والشبشب أخذت تحية كاريوكا تروح وتجيء على السجادة، بينما عيون الحضور تتابعها متسائلة عنها: من هي؟ ولماذا هنا؟ ليأتي الجواب أنها تحية كاريوكا، صاحبة فيلم "شباب امرأة" المشارك ضمن فعاليات المهرجان، بينما عيون الكاميرات تحرص على تسجيل خطواتها، وتوثيق تلك اللحظة، والتي أثبتت فيها كاريوكا أن الحضور المصري والظهور يبدأ من التمسك بالهوية المصرية، حتى وإن تمثلت تلك الهوية في الملابس.

"ألبس صح"

لم يكن موقف كاريوكا دعوة صريحة لتبني الهوية المصرية في اللبس، ولكن مؤخراً ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوة الكاتبة المصرية مي سعيد، لارتداء الثياب المرتبطة بالبيئة المصرية، سواء السيناوية أو النوبية أو الفلاحية.

تحكي مي سعيد أن البداية كانت قبل أشهر، عندما أضافتها إحدى صديقاتها إلى "غروب" على موقع التواصل "فيسبوك" بعنوان "ألبس صح"، وهو عبارة عن مجموعة مشتركة من الشباب والفتيات، يتبادلون أراءهم حول الملابس، مضيفة أن ما لفت انتباهها هو عنوان المجموعة "ألبس صح"، لتبدأ في التساؤل حول المقصود بـ "صح".

"اغتراب شباب وبنات الأقاليم، والأرياف، وسفرهم الدائم إلى القاهرة، جعلهم مطلعين بشكل مباشر على الأزياء التي ترتديها السيدات هناك، ومن ثم تولد لديهم نفور من أزيائهم القروية، باعتبارها غير متحضرة"

وتابعت: "بدأت اسأل هو صح بالنسبة لمين؟ فجميع الملابس المعروضة هي عبارة عن ماركات يغلو ثمنها حسب اللوجو، كما أن سعرها ارتفع بشكل مبالغ بفعل تعويم سعر الدولار والتضخم، في حين أن هناك ملابس في المناطق الشعبية بخامة ممتازة وأسعار مناسبة جداً".

تضيف سعيد أنها بدأت بتجربة بسيطة، حيث اشترت قطعتين من صفحة على فيسبوك، كانا على قدر عال من الجودة، كما أنهما مطرزتان بشكل جميل ومبهج، ومن الطريف ما لاحظته من تفاعل الناس مع الملابس، حيث كان الجميع يبدون إعجابهم بملابسها، حتى أن النساء كن يستوقفنها في الشوارع ووسائل المواصلات ليسألنها عن أماكن الشراء، ما جعلها تستبدل دولاب ملابسها بالكامل إلى ذلك النوع من الثياب، مستطردة: "احنا كنساء دائماً ما نعاني من نظرات البعض في الشوارع، ولكن لاحظت أن تلك النظرات اختلف مضمونها من نظرات جريئة متفحصة إلى نظرات إعجاب وتشجيع".

تعجبن صديقات مي من شكل الفساتين التي ترتديها، فالبعض أرجعها إلى تصاميم مستوحاة من البيئة الفرعونية، في حين أنها أكدت أنه زي شعبي بروح عصرية مطورة، حيث طوروا التطريز السيناوي وشكل الكلفة الفلاحي: "بعض صديقاتي قالوا لي إنه لا يشبه ما شاهدناه في السينما على الفلاحات، وهذا حقيقي فأنا لا أصنع (راكور)، فالموجود في السوق هي ملابس مستمدة من البيئة السيناوية والنوبية".

وتحكي سعيد لـرصيف22 أن البيئتين "السيناوية والنوبية" تتميزان بملابسهما المصرية الخاصة، حيث الجودة المطلوبة من حيث الخامات، وكذلك مصريته من حيث التصميم والأشكال، مشيرة إلى ما ساد الشارع المصري من "عبايات سوداء" والتي ترتديها النساء في الحارات المصرية، وهي الظاهرة التي لمستها بحكم عملها كمرشدة سياحية، حيث يفضل السياح الذهاب إلى المناطق الشعبية أحياناً، بالرغم من أن تلك العبايات الخليجية تأتي بأسعار مرتفعة لا تناسب مستوى معيشة تلك الفئات، حيث يصل سعر العباية الواحدة إلى 800 جنيه، حتى أن بعضهن يشاركن في جمعيات ويقترضن لشراء واحدة من تلك العبايات "المؤذية للعين والجسد، والغريبة عن الثقافة والهوية المصرية"، حسب قول مي سعيد، والتي قد تكون مناسبة لبيئتها الصحراوية في الخليج.

أزياء من مقبرة فرعونية

في فبراير 1952 جاءت دعوة مشابهة لمبادرة الكاتبة مي سعيد للعودة للزي المصري، ذلك في مقالة بعنوان "أزياء المرأة في الريف المصري" نشرت بمجلة "الهلال" لسيدة لم تعلن عن اسمها، مكتفية بتوقيع "حرم محمد كامل منير"، والتي تمنت فيها "لو عنى فنانونا الإخصائيون بدراسة الأزياء الريفية وتعديلها بما يتفق مع الذوق الفني الحديث، مع الإبقاء على طابعها الجميل".

أيضاً حكت صاحبة المقالة، أنه حينما كشفت مقبرة توت عنخ آمون، لم يمض وقت قليل حتى أخذت بيوت الأزياء الحديثة الكبرى في عواصم الغرب تخرج أزياء طريفة رائعة، اقتبستها من أزياء ذلك العصر المصري القديم، مؤكدة انتشار هذه الأزياء في العالم كله.

وتابعت: "وعندنا في الريف أزياء تقليدية عدة، هي مزيج من الأزياء الفرعونية والعربية وغيرها. وتمتاز بمراعاة التعاليم الدينية والآداب العامة ومقتضيات الحياة العملية".

أما سعيد فتؤكد أن ملابسها الجديدة المعتمدة على البيئة المصرية لم تعق عملها كمرشدة سياحية مثلاً، على العكس، أشارت إلى اندهاش الأجانب وإعجابهم الشديد بتلك الملابس، فبجانب خصوصيتها وما تعكسه من بيئة وثقافة مصرية، "تميزت الملابس المصرية أيضاً بألوانها الزاهية، فمثلاً "الفساتين أم سفرة" والتي كانت تلبسها الفلاحات كان يكسوها الورد الملون، والذي له علاقة مباشرة بطبيعتهم الزراعية الجميلة، كما أن تلك الثياب كانت فضفاضة ومناسبة لطبيعة الجو، حيث تسمح بدخول الهواء إلى الجسم".

"ألوانها زاهية وتكلفتها بسيطة"

حكت مصممة الأزياء نورة النيلي هي الأخرى لرصيف22 أن "الفساتين أم سفرة" كان ترتديها مؤخراً كبيرات السن، ولكن مع الوقت أخذت في التلاشي حتى اختفى وجودها تقريباً، أما من حيث التصميم فأكدت أن ألوانها الزاهية ذات النقوش، كالورود، تعكس شكل الريف والحصاد بشكل واضح، والذي يعتبر عنصر استلهام مهم جداً، حيث يعاد صياغته بشكل معاصر في الوقت الحالي.

وتابعت: "تتميز تلك الثياب بأكمام منفوخة وتنورة واسعة تناسب براح الريف، كما يتم إضافة شرائط على الرقبة أو الصدر والأكمام لتتزين بشكل تلقائي، مع إضافة غطاء لرأس يحتوي على كور من الخيوط ملفوفة بشكل دائري، تعطي إحساساً بحقل من الزهور متنوع الألوان".

"الفساتين أم سفرة" التي كانت تلبسها الفلاحات قديما، ويكسوها الورد الملون، مرتبط بشكل الطبيعة الزراعية، وفضفاضة ومناسبة لطبيعة الجو، حيث تسمح بدخول الهواء إلى الجسم

عن تكلفة صنع الفساتين الفلاحي، تقول نورة النيلي إنها بسيطة، حيث لا يحتوى على أي تطريز يدوي، الأمر يعتمد بشكل أساسي على الطباعة لأشكال الورود في الغالب، مضيفة: "الفساتين خاماتها غالباً فسكوز أو قطن، بسعر 40 جنيها للمتر تقريباً، ويحتاج الفستان الواحد لـ 3 أمتار، وأيضا نحتاج لشرايط التزيين في حدود 30 جنيهاً، أما أجرة التفصيل فغالباً 80 جنيهاً، وبذلك تكون تكلفة الفستان 200 جنيه تقريباً، ويمكن أيضاً استخدام الكاستور والسموكين، والكاستور سعره 20 جنيهاً للمتر تقريباً، يعني باختلاف الخامات ممكن الفستان يبقى 150 أو 180 أو 200 جنيه، أي ما يتجاوز قليلاً عشرة دولارات".

اختفاء "الفستان أبو سفرة"

في حديثها عن مبادرتها، أشارت مي سعيد إلى اختفاء تلك الأزياء تدريجياً، بعد أن اعتاد المصريون ارتدائها، وعن سبب الاختفاء، تقول عبير إبراهيم، الطالبة بكلية التربية جامعة بني سويف، لرصيف22 إنها كانت ترى السيدات الكبار في عائلتها، وجيرانها يرتدين تلك الثياب في صباها، ولكن تدريجياً بدأت تشعر أن الأقمشة والتي كانت تشتريها السيدات وتذهبن بها إلى الخياطة لصنع "جلابية سفرة" ليست موجودة، "العبايات الجاهزة جعلت الناس ما يشتروش القماش، فالتجار ما بقوش يجيبوه".

وسائل الإعلام كان لها دور أيضاً في ابتعاد السيدات عن تلك التصاميم، فالفلاحة دائما تظهر في التليفزيون على اعتبار أنها امرأة ساذجة لا تواكب العصر: "حالياً البنات في الأرياف بقوا عايزين يلبسوا على الموضة زي ما بيشوفوا في التليفزيون".

كذلك اغتراب شباب الأقاليم وسفرهم الدائم إلى القاهرة، جعلهم مطلعين بشكل مباشر على الأزياء التي ترتديها السيدات هناك، ومن ثم أصبح تصورهم عن الفتاة التي يسعون للارتباط بها أن تكون قريبة الشبه ببنات العاصمة، حسب عبير إبراهيم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image