في مجتمع تحكمه قوانين وعادات ذكورية قاسية على المرأة، لا مجال للهروب بعيداً عن القطيع، أو تحقيق الأحلام خارج صندوق أفكار المجتمع، هذا باختصار ما يصنع جداراً حديدياً بين كل فتاه تكره الزواج وبين حلمها في أن تصبح أماً.
في السنوات الأخيرة، ارتفعت نسب الطلاق (آخر إحصاء قام به الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عام 2019 يشير إلى أن حالة طلاق تحدث في مصر كل 2.11 دقيقة)، وازدادت الخلافات الزوجية، وحفلت وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بقصص الزيجات الفاشلة، وعذاب السيدات المطلقات في قاعات محاكم الأسرة.
وسط هذه الأجواء، نفرت نساء من العلاقات مع الذكور، ولكنهن لم يستطعن التخلي عن مشاعر الأمومة التي تجتاحهن.
الأم كخالة وعمة
لسنوات طويلة، لم تتخيل هناء عبد الرؤف (40 عاماً) من القاهرة، نفسها خاضعة لسيطرة رجل يتحكم فيها، وفي حركتها، وعلاقتها ومشاعرها، كما يحدث مع كثير من النساء حولها، اضطررن في النهاية إلى التخلي عن استقلالهن، وأحلامهن، وطموحاتهن الشخصية.
رفضت هناء الارتباط برجل يهينها، ويؤذيها نفسياً وجسدياً دون رادع اجتماعي أو أخلاقي أو قانوني حقيقي يحميها، أو يعيد لها كرامتها المهدورة، لا لشيء سوى أنه يحمل لقب "زوجها"، بحسب تعبيرها لرصيف22، وتكمل: "انشغلت لسنوات طويلة في تحقيق أحلامي، تفوقت في عملي كمرشدة سياحية، وحققت أماناً مادياً لا بأس به".
وتضيف: "سافرت إلى أغلب دول العالم، وعلى الرغم من كل ذلك، لم أحقق أهم أحلامي، فلم أصبح أماً لطفل جميل أو طفلة بريئة كما تمنيت، فظللت رغم تميزي عن أخواتي باستقلالي وحريتي، أحسدهن على أطفالهن". تحاول هناء منح أطفالهن كل ما لديها من مشاعر الأمومة، ويؤلمها عاطفياً حبهم المبرر لأمهاتهم، تسأل إحداهن مداعبة، "تفضلين الإقامة معي أم مع ماما"، فترجح الطفلة أمها، ويرن في عقلها صدى كلما والدتها: "يا مربي في غير ولدك، يا باني في غير أرضك".
"أنجبت طفلاً وطلبت الطلاق"
تحمل صفاء توفيق، وهي مدرسة في جامعة خاصة بالقاهرة، المشاعر ذاتها حيال الرجال، والزواج، ولكنها على عكس هناء، رضخت لضغوط الواقع، واحتياجاتها العاطفية لتكون أماً، وتزوجت. عن مشاعرها حيال الأمومة، تقول باستفاضة وشاعرية: "مشاعر الأمومة غريزة بداخل كل أنثى، تتضخم أو تتقلص وفقاً للمحيط، وما يعكسه عليها، فلقد كان كلام أمي وضغطها الدائم عليّ للزواج من أجل أن ترى أطفالي دافعاً في اشتعال هذه الغريزة بداخلي، وبلورة حلم الأمومة أمام عيني، على الرغم من رفضي التام لفكرة الزواج، لما عايشته من مشكلات أسرية، عانتها أمي مع أبي ولم تنته إلا بوفاته، ورفضي لما تعانيه أختي الوحيدة من تعنت وعنف من زوجها".
لم تستطع صفاء تقبل الحياة مع رجل داخل إطار الزواج، بسبب ما عانته والدتها مع أبيها، وما تعانيه أختها من تعنت وقسوة زوجها، حتى لقاءاتهما الحميمية ظلت عبئاً عليها، تفعلها فقط لتفوز بالطفل الذي تحلم به، ثم تطلب الطلاق
كل تلك الأسباب دفع صفاء لمقاومة الوقوع في الحب، ورفض الارتباط بكل الطرق، والانهماك في دراستها، وعملها في السلك الجامعي، ولكنها في النهاية قبلت عرض زواج من زميل، تقول: "فجأة وجدتني في لحظة ضعف أقبل عرض زواج من أحد الزملاء، وقلت لنفسي سوف أقبل ما كنت أرفضه".
لم تستطع صفاء تقبل الحياة داخل إطار الزواج، رغم حب زوجها لها، حتى لقاءاتهما الحميمية ظلت عبئاً عليها، تفعلها فقط لتفوز بالطفل الذي تحلم به، تضيف: "بمجرد أن حدث الحمل، تركت بيت الزوجية، وصرت أتعلل بالحمل ومتاعبه حتى أنجبت طفلي الوحيد، حينها فقط صارحت زوجي برغبتي في الانفصال".
وعدت صفاء زوجها بتحمل مسؤولية الطفل، وعدم حرمانه منه، وشددت على أهمية وجوده كأب في حياته، وأخبرته أنها لن تستطيع أن تجبر نفسها على معاشرته، رفض الزوج في البداية الانفصال، واتهمها بالخداع، وأنها استغلته كوسيلة لتحقيق حلم الأمومة. تستطرد صفاء: "كان محقاً، لم يترك لي المجتمع سبيلاً آخر، إلا أنه بمرور الوقت استجاب للأمر، وأيقن أن ذلك أفضل لطفلنا، وتزوج بأخرى، وأعيش أنا الآن مع طفلي أمنحه كل اهتمامي ورعايتي".
"لن أخدع الرجال"
ترفض هبة فتحي ياسين، موظفة بشركة خاصة، أربعينية تسكن في القاهرة، لجوء نساء إلى الزواج فقط لتحقيق حلم الأمومة. تقول: "الأمومة مسؤولية كبيرة، أولى مهامها هي اختيار الرجل المناسب الذي سوف يصبح أباً لطفلي، لأن الأبوة علاقة أبدية، لن تنتهي بانفصال الأب عن الأم أبداً، وهذا الرجل لم يصادفني حتى الآن، لذلك لن أخضع لإلحاح غريزة الأمومة بداخلي، وأجعلها تدفعني للارتباط بأي رجل لمجرد أن أصبح أماً".
وترى أن الرضوخ فقط لمشاعر الأمومة دون الاعتبارات الأخرى، هو "رغبة عمياء تدفع العديد من النساء للارتباط بأشباه الرجال، والنتيجة سيّئة على النساء لسنوات ينفقنها في محاكم الأسرة وفي عذاب لا ينتهي".
وتضيف هبة: "لن ألجأ لطرق ملتوية، وأرتبط بأي شخص حتى أحصل على طفل، وأنهي علاقتي به فوراً بالمخادعة أو باتفاق مسبق، فأنا أرفض هذا في الحالتين، لأنه ليس في مصلحة الطفل".
بالنسبة إلى هبة، وجود الأب والأم في بيت واحد مهم لنمو الطفل، وعلى حد تعبيرها "حضن الأب لن يعوضه حضن الأم مهما كانت، والأم التي تختار البعد عن الأب بكامل إرادتها دون أسباب حقيقية هي أم لا تقل أنانية عن الأب الذي يتنصل من مسؤولية أبنائه".
الأمومة مشروع خاص
إيمان صادق (34 عاماً) تخرجت في كلية التربية من محافظة دمياط، لم تجد "الشريك المناسب"، وتجتاحها مشاعر الأمومة، ولكنها قررت ألا تستجيب لضغوط الأهل والمجتمع، وتقبل "أشياء يرفضها عقلها لتحقق رغبات تفرضها مشاعرها"، بحسب تعبيرها.
تواجه إيمان أهلها والمجتمع بروح متحدية، وتعلن للجميع أنها لا تخشى من لقب "عانس"، وسوف تتحمله عن طيب خاطر، بكل عيوبه، وتكبت مشاعر أمومتها أيضاً.
"الأمومة رغبة عمياء تدفع العديد من النساء للارتباط بأشباه الرجال في مصر، والنتيجة عذاب لا ينتهي"
قررت إيمان أن "تستثمر" مشاعر الأمومة، وأقامت بمبلغ مادي ورثته عن أبيها مشروعها الخاص، دار حضانة للأطفال، تستضيفهم وقت انشغال أهاليهم، أو سفرهم، ومنحت أمومتها لعشرات الأطفال، "بدلاً من طفل واحد"، كما تقول.
عن تجربتها هذه، تقول لرصيف22: "لم أندم على ذلك، فأنا أمارس استقلاليتي التي عشت طوال عمري أؤمن بها، وأخذت من الأمومة جانبها المشرق، اللعب والمرح والأوقات اللطيفة، بدون متاعبها، والوقت الذي أقضيه بصحبة أطفالي، جميل، والمحبة التي يمنحونها لي تكفيني وترضيني".
القطط والكلاب
شهيرة رشدي، (اسم مستعار)، من الإسكندرية، وتقيم منذ سنوات في القاهرة، تبحث عن فرصة لاقتحام عالم الفن كمؤلفة وكاتبة سيناريو. تقول لرصيف22 إنها ليست ضد الزواج كنظام مجتمعي، فهو السبيل الوحيد لتأسيس أسرة وبناء مجتمع، وإنها أقدمت على خطوة الارتباط أكثر من مرة، لكنها كانت تنهي تلك العلاقات قبل خطوة الزواج الرسمي، بعد اكتشافها "عدم صلاحية الطرف الثاني كشريك لها".
وتضيف: "جميعهم كانوا رجالاً لا يرغبون إلا في أن أكون جسداً بلا عقل، أقوم بواجباتي الزوجية من معاشرة وخدمة وإنجاب دون مقابل، وليس لي أي حق في أن أعبر عن شخصيتي أو أن أسعى وراء أحلامي، فجميعهم رفضوا فكرة عملي بالفن، وإن تظاهروا بالقبول في البداية، لذلك كان الانفصال هو الحل".
تراود شهيرة غريزة الأمومة، ولكنها قررت أن تتعامل معها بشكل مختلف، تقول: "ملأت منزلي بالقطط والكلاب، التي أصبحت مع الوقت أطفالاً لي أمنحها كل مشاعري واهتمامي، بعيداً عن قيود الزوج وسجن الزواج".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...