في فيديو يتخطى المليون مشاهدة، من صحيفة الغارديان في عام 2011، أشاهد توأماً من فلسطين؛ صبي وصبية في الثانية عشرة من عمريهما، تقفز الشقاوة من عينيهما قفزاً، يمسكان بالكاميرا، ويلهوان في حي الشيخ جرّاح، حول بيوته المسروقة، ويعيشان مع المستوطن الذي سرق نصف بيتهما، قسراً، تحت سقف واحد، ويجريان إلى أماكن وجود المستوطنين، ويقتربان منهم بحذر، ويصرخان بالهتاف والشتائم، ثم يركضان هرباً، فتهتز عدسة الكاميرا مع ضحكاتهما المجلجلة في المكان. تبتسم بلا وعي من شقاوتهما، وتنبهر لشجاعتهما، في سن يهتم فيه مراهقو العالم بشؤون أخرى تماماً، غير الاحتلال، والاستيطان، والبيوت المسروقة، ودمارٍ ينتشر.
تقفز عشر سنواتٍ أُخَر، في عام 2021، فيطل عليك الوجهان المألوفان نفسهما، اللذان أحببت، ولكن مع بعض التغييرات. كبر الولد، وصار أعرض وأطول، واحتدت خطوط وجهه الذي نبتت لحيته. كبرت الصبية، وصارت فتاة يافعة، يحيط برأسها حجابها. صار التوأم في الثالثة والعشرين من عمريهما، وتغيرت تقاسيم وجهيهما كلها، لكن شيئاً ما لم يتغير.
ممتنٌ، ومثلي الكثيرون، لمقاومة منى ومحمد الملهمة، التي تُخجِلنا أحياناً، وتوقظ فينا شيئاً من حميَّة، أحياناً أخرى.
لا تزال الكاميرا مصوَّبة نحو المحتل، وما ينفكان متصاحبين، يتسابقان، وتبقى الشقاوة تصرخ متمردة في عيونهما.
أكانا يتخيلان أن في هذا العام نفسه، سيكونان ضمن قائمة المئة الأكثر تأثيراً في العالم، في تصنيف مجلة تايم الأمريكية؟
منى ومحمد الكرد، يداً بيدٍ ينطلقان، مُشهِرَيْن عدساتهما، توثيقاً، ونشراً، وإعلاناً، ويهدمان الأشخاص، والسلطات، والأوثان، هدماً، وتتكاثر عليهما قوات الاحتلال، فتضَيِّق تارة، وتطرد تارةً، وتعتقل في أخرى، وما يزدادان إلا عزماً فوق عزم، ويعلوان بالنضال درجاتٍ ومراتبَ تأخذ الألباب.
وحده الإنسان، يقوم، ويواجه، ويسير عكس التيار، مقاوماً ومناضلاً، ويخرج عن النغمة السائدة، واللحن المعزوف ممن يمتلكون المقاليد.
نشازٌ إنسانيٌ بحت
أظل ألمس منتهى الجمال في المقاومة، بالفن والتوثيق. تقوم الاحتلالات، والديكتاتوريات، دوماً، على شقين: القمع، وإعادة كتابة التاريخ.
لا يخفى على أي منا، أن التاريخ يكتبه المنتصر، ويفرضه فرضاً. وفي غياب إنصاف رسمي للقضية الفلسطينية يحكي عن أبطالها، ويبرز جانبهم للعيان، لا تتبقى سوى سواعد الأفراد ممن يحملون عبء القضية على كواهلهم، وينتفضون لتوثيق المسكوت عنه، وإظهار المخفي، وينتجون سرديات موازية تجابه الرواية الرسمية، وتناطحها، فتعلو كثيراً، وتلمس القلوب، وتصل على الرغم من ضآلتها، إلى موازين القوى والعتاد.
أكانا يتخيلان أن في هذا العام نفسه، سيكونان ضمن قائمة المئة الأكثر تأثيراً في العالم، في تصنيف مجلة تايم الأمريكية؟
فما قصة التوأم الفلسطيني المتربع بين أكثر شخصيات العالم تأثيراً؟
ذاع صيت محمد ومنى في شتى أنحاء العالم، بعد أحداث حي الشيخ جرّاح الشهيرة، في فلسطين، حين انتفضا للدفاع عن بيتهما، وحيّهما، ضد الإخلاء، والتهجير القسري، وسرقة بيوتهم من مستوطني الاحتلال، فجعلا العالم يقف، ويتأمل وجِلاً، في تجسد الإنسانية في توأمٍ يصدح بصوت الفلسطينيين المقهورين في الآفاق، بالعربية والإنكليزية، ويظهران في وسائل الإعلام المحلية والعالمية كلها، ويشعلان مواقع التواصل الاجتماعي بالمنشورات، والمقاطع، والتغريدات، التي تنقل الحقيقة، وتحمّس، وتلهب مشاعر التضامن والدعم، حول العالم، حتى يسمع المتجاهلون المأساة، غصباً عنهم، وتوضع المشاهد التي أشاحوا بأنظارهم عنها، أمام أعينهم، فلا يستطيعون أن يديروها.
برعت منى في تأجيج مواقع التواصل، بمقاطعها المصورة، وحديثها المستمر الملتهب عن قضية حي الشيخ جرّاح، ومنزل عائلتها المسروق. تمشي في جنبات الحي، مشهرةً هاتفها، توثيقاً، وتسجيلاً، ثم نشراً، وتتكلم، وتوعّي، وتعلو بصوتها، باحترافية وحرارة، فتنهمر المشاهدات، والإعجابات، والمشاركات، حتى تصير قضية الحي، هي الأولى على مواقع التواصل، وحديث العالم أجمع.
أثار المقطع الشهير الذي واجهت فيه المستوطن يعقوب، استنكاراً شديداً، وغضب الملايين حول العالم، وتضامنهم، حين ظلت تسأله لماذا يعيش في بيتها غصباً وسرقة، فيجيب بإجابته العنصرية الشهيرة التي لخّصت عقلية الاحتلال المقيتة: "إن لم أسرقه أنا، فسيسرقه غيري!".
لم تكتفِ بمجرد التوثيق والنقل، بل انطلقت ناشطة في حشد الدعم، ونشر التوعية بأهمية التضامن، مثيرةً حماس ناشطي مواقع التواصل، كلما شككوا في مدى جدوى كلامهم، وتدويناتهم:
"إحنا بالنسبة إلنا، تضامن هادول الناس، حتى لو بهاشتاج، ببوست قصير، أو بتويتة قصيرة، على أي منصة من منصات التواصل الاجتماعي، ده بالنسبة إلنا يعني كنز!".
وكما تألقت منى، اشتهر محمد بنشاطه المبهر، في وسائل الإعلام الأجنبية، متحدثاً، ومحارباً، وناطقاً بالإنكليزية، بلسان الفلسطينيين، موصلاً صوتهم المقموع، قسراً وعمداً، من وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى في وجه أعتى وسائل الإعلام الأجنبية. وقف محمد يردّ، ولا يتنازل قيد أنملة عن حقه، وحق ناسه، غير متزحزح عن موقف قوته، مهما ضغطوه، بل وبكل احترافية وذكاء، يقلب الطاولة على محاوريه، ويحرجهم، فيُجبروا على السير وفق إدارته لدفة الحديث، ونبرته، ولا يحيد هو أبداً.
يقول محمد الكرد في إحدى مقابلاته: "حين أُسأَل عن شكل طفولتي، أُجيب ببساطة: كنتم أطفالاً، وكانت لديكم بيوت. ليس عليّ أن أشرح".
أثار مقطع من مقابلته مع قناة "سي إن إن"، إعجاب الملايين حول العالم، إذ تحدث بلسان خطيب مفوّه، وسياسي قدير، مستخدماً كل مصطلح في موضعه، ومصوّباً كلماته بدقة، لا تزيد كلمة، ولا تنقص عن المراد، ثم كان مسك الختام بالسؤال المفخخ الذي حاولت المراسلة إحراجه به. سألته إن كان يؤيد المظاهرات "العنيفة" التي خرجت تنديداً بما يحدث في حي الشيخ جرّاح، فردّ محمد، بسرعة بديهة لم تلبث كسراً من ثانية، وأفحمها بسؤاله: "هل تؤيدين أنتِ التهجير العنيف الذي يحدث لي، ولأهلي؟".
ترتبك المذيعة بوضوح، وتتلعثم، ثم تعيد السؤال ساحبة كلمة "عنيفة" منه، سائرةً حسب وجهة الحوار التي أرساها هو، بكل براعة وحسم، أثلجت صدور أنصار القضية المتفرجين كلهم، وأثارت إعجاب غيرهم.
محمد ليس موثقاً وموعياً فحسب، لكنه أيضاً شاعر أبى إلا أن يستلهم من تجربته فناً أصيلاً، وكان كعادته يكتب بالإنكليزية، ليقدم فلسطين إلى العالم الغربي، حتى ملَّ التبرير، وأدرك أن هناك قليلين يكترثون، وأقل منهم من يهتمون لأخذ أي رد فعل، فاتجه شعره نحو التهكم والسخرية من الاحتلال، بلا شرح كثير.
يقول في إحدى مقابلاته: "حين أُسأَل عن شكل طفولتي، أُجيب ببساطة: كنتم أطفالاً، وكانت لديكم بيوت. ليس عليّ أن أشرح".
صاحبنا محمد ومنى، خلال الشهور الماضية، حتى صارا فردين من عائلاتنا. شابان يشبهاننا، نحزن معهما، ونغضب لهما، ونفرح لفرحهما، وحين اعتقلتهما قوات الاحتلال قبل فترة، انفجرت مواقع التواصل غضباً وتضامناً، حتى انتهى اليوم بإخلاء سبيلهما، ومعه أمواج من الدعم والفخر تصاحب كل خطوة من خطواتهما. حبٌّ تجلى مرة أخرى، عندما تخرجت منى من كلية الإعلام في جامعة بير زيت، مؤخراً، وانهمرت سيول المحبة الغامرة، من كل صوب وحدب، تهنّئها، وتفرح لإنجازها، كأخت، أو ابنة، لمن شاهدوا كلمتها الملهمة في حفل التخرج، كلهم.
من الحزين أن الوجود الدائم، والحضور المستمر للاحتلال، في كل تفصيل من تفاصيل حياة منى ومحمد، وملايين الفلسطينيين ممن يشاركونهم الهم والأوضاع، يسلبانهم الكثير مما يجده معظمنا مسلّمات، أو بديهيات في الحياة
راقبت العديد من المناضلين، على مر التاريخ، وهم يتماهون بالكامل، مع قضاياهم وهمومهم، حتى لا تكاد تفرق هذا من ذاك. يتحول الشخص إلى القضية، والقضية إلى الشخص، فيعرفه الناس رمزاً وممثلاً لها. كنت دوماً أتساءل: من هم حقاً؟ ما أحلامهم الصغيرة الشخصية؟ إلام يطمحون؟ بأي مستقبل حلموا في صغرهم؟ ما الذي يضحكهم؟ يبكيهم؟ يؤنس وحدتهم، ويخفف لحظات اكتئابهم؟ أيحبون الموسيقى؟ أي الروايات تستهويهم؟ من هم الذين وراء هذه الشخصية الصلبة المعروضة للجماهير الغفيرة؟
من الحزين أن الوجود الدائم، والحضور المستمر للاحتلال، في كل تفصيل من تفاصيل حياة منى ومحمد، وملايين الفلسطينيين ممن يشاركونهم الهم والأوضاع، يسلبانهم الكثير مما يجده معظمنا مسلّمات، أو بديهيات في الحياة، فيكون الاحتلال حاضراً، كظل جاثم يخنق الأنفاس في ساعات يومهم. وجود مزعج دخيل يعكّر صفو اللحظات الرائقة، ويلوث نسمات الهواء بكينونته الطفيلية.
ممتنٌ، ومثلي الكثيرون، لمقاومة منى ومحمد الملهمة، التي تُخجِلنا أحياناً، وتوقظ فينا شيئاً من حميَّة، أحياناً أخرى.
تقول رضوى عاشور إن "لكل المقهورين أجنحة"، وأنا أضيف أن أجنحة المقاومين منهم غير غير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكلام صحيح والله الواحد كان مكسوف وهو بيقرأ الكلام ده و فى ناس حوله لسه بيهزروا فى نفس الموضوع ،...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ اسبوعينمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ 3 اسابيععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...