كان المشهد غريباً على الأعين والأذهان، فهو مشهد غير مسبوق. حتى المشهد الشهير المماثل الذي تستعيده ذاكرة الإنترنت لمحاكمة نيقولاي شاوشيسكو ديكتاتور رومانيا وإعدامه، كان أقل فوضوية وإفزاعاً من مشهد ملاحقة وقتل القذافي*.
قسوة المشهد وضجيجه كانا مقدمة لفوضى دامت في ليبيا حتى اللحظة، ويرصد تقرير حديث نشرته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، أن حالة الانهيار الأمني الذي أطلقته الحرب الأهلية الليبية التي طالت بعد موت القذافي، امتدت نيرانها من ليبيا إلى جيرانها، وصولاً إلى الساحل الغربي لأفريقيا.
التقرير الذي أعده نيل مانشي مراسل فاينانشال تايمز في غرب أفريقيا، يحقق في زعم أن موت ديكتاتور ليبيا معمر القذافي في2011، كان مقدمة لحالة الفشل الأمني التي تجتاح دول وسط أفريقيا وساحلها الغربي الأوسط، كما أنه أدخل فرنسا "في حرب أبدية في الساحل الأفريقي"، وخلق واحدة من أكبر موجات الهجرة إلى أوروبا، و"أنعش التمرد والفوضى".
يسرد المراسل قصة وقعت في عام 2017، تعكس مدى تسبب الفوضى في انتشار الجريمة بعد مقتل القذافي. في ذلك العام تلقت فتاة نيجيرية تدعو نفسها "بريشوس" اتصالاً من امرأة تسكن في حيِّها، تعرض عليها "فرصة رائعة"، وهي السفر من جنوب نيجيريا إلى إيطاليا، حيث يمكنها العمل كخياطة وإرسال الأموال إلى عائلتها.
كانت بريشوس قد رأت أشخاصاً على وسائل التواصل الاجتماعي يعيشون ما بدا لها "حياة راقية" في أوروبا، وشهدت ما فعلته الأموال التي أرسلوها إلى الوطن لصالح عائلاتهم. أكدت لها المرأة أن الرحلة ستكون سهلة، وبعد ذلك يمكنها مساعدة أسرتها.
تقول بريشوس، وهي جالسة على أريكة في مدينة بنين، رابع أكبر مدينة في نيجيريا والمركز الرئيسي للاتجار بالبشر والهجرة إلى أوروبا: "لقد خدعتني، وأنا عانيت".
تم نقل بريشوس، التي تبلغ من العمر الآن 22 عاماً، من وسيط إلى آخر في نيجيريا. وفي النيجر، وضعوها في مؤخرة شاحنة تويوتا هيلوكس مع 25 شخصاً آخرين لمدة ثلاثة أيام، وقطعت السيارة بهم الصحراء الكبرى في رحلة تعرضت الفتاة خلالها للاعتداء والضرب والجوع، ومات آخرون كانوا في رفقتها.
كانت بداية معاناة "بريشوس" الحقيقية عندما وصلت الشاحنة إلى الحدود مع ليبيا، إذ تم احتجازها لأكثر من عام واستغلالها في الدعارة القسرية مع عشرات النساء الأخريات القادمات من جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى
ومع ذلك، كانت بداية معاناتها الحقيقية عندما وصلت الشاحنة إلى الحدود مع ليبيا، إذ تم احتجازها لأكثر من عام واستغلالها في الدعارة القسرية مع عشرات النساء الأخريات من جميع أنحاء أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
لم يُسمح لها بالخروج، وتعرضت إلى سوء المعاملة والتجويع. وتقول إنها هربت في عام 2019 وعادت إلى وطنها على متن طائرة مستأجرة تابعة للأمم المتحدة، تحمل معها تجربتها القاسية. عادت بريشوس لتخبر وسائل الإعلام أن "ليبيا مكان سيء، لا توجد قوانين هناك".
في رأي معد التقرير، كان معمر القذافي يعمل على تشغيل وإيقاف تدفقات الهجرة، كوسيلة لانتزاع الامتيازات من الاتحاد الأوروبي وإيطاليا. "لكن عندما قُتل هذا الطاغية" عام 2011، ملأ المهربون والميليشيات الفراغ.
تنتشر قصص الانتهاكات الوحشية بين مئات الآلاف ممن مروا عبر ليبيا في العقد الذي أعقب الإطاحة بالديكتاتور، ويمكن أن نجد في قصصهم صورة تفصيلية لانزلاق الدولة الغنية بالنفط في شمال إفريقيا إلى الفوضى والصراع.
طالما كانت ليبيا مركزاً مهماً للمهاجرين المتجهين شمالاً، ولكن بعد ثورة 2011 التي أطاحت القذافي، ارتفعت أعدادهم، وأصبحت ليبيا أهم قناة للأفارقة الذين يسعون للوصول إلى أوروبا، ومثلوا مع السوريين والعراقيين أكبر موجة هجرة حديثة نحو أوروبا، ساعدت في تأجيج صعود اليمين الشعبوي.
أكثر من 700 ألف مهاجر تقطعت بهم السبل حاليًا في ليبيا، وفقًا للجنة الإنقاذ الدولية، التي تصف الرحلة التي سلكتها بريشوس بأنها "أخطر طريق هجرة في العالم".
دول الجوار
ظهر في العقد الماضي، عدد لا يحصى من الوفيات في القوارب العابرة للبحر الأبيض المتوسط خلال الهجرة إلى أوروبا، إلى جانب مئات من معسكرات الرقيق وبيوت الدعارة القسرية فوق الاراضي الليبية. وأدى الانهيار الأمني عبر منطقة الساحل الغربي – المستقلة رسمياً عن فرنسا- إلى فقدان الآلاف حياتهم وتشرد الملايين، وإغراق فرنسا في مستنقع يعتبره البعض حربها "الأبدية" في هذه المنطقة.
يقول ماتياس هونكبي، رئيس مكتب مالي لمبادرة المجتمع المفتوح لغرب إفريقيا: "أصبحت ليبيا نقطة ضعف لجميع البلدان المجاورة، مالي والنيجر وتشاد، كل هذه البلدان تواجه مشاكل لأننا لا نتمتع بالاستقرار في ليبيا".
"أصبحت ليبيا نقطة ضعف لجميع البلدان المجاورة، مالي والنيجر وتشاد، كل هذه البلدان تواجه مشاكل لأننا لا نتمتع بالاستقرار في ليبيا
واجتمع وزراء خارجية جيران ليبيا، بما في ذلك مصر وتونس والسودان وتشاد والنيجر، في الجزائر لمناقشة الوضع الليبي، ودعوا المرتزقة والمقاتلين غير الليبيين إلى الانسحاب من البلاد.
وقال وزير الخارجية الجزائري رمضان لعمامرة خلال المؤتمر: "ليبيا هي الضحية الأولى لهذه العناصر غير النظامية، والمخاطرة حقيقية أن تصبح البلدان المجاورة أيضاً ضحايا، إذا لم يتم التعامل مع انسحاب المرتزقة بطريقة شفافة ومنظمة".
ويعلِّق إيفان جويشاوا، المتخصص في منطقة الساحل في جامعة كِنْت في المملكة المتحدة: "كانت حركات التمرد في بوركينا فاسو والنيجر ومالي جاهزة بطريقة ما للانفجار وتحتاج فقط إلى نوع من الدفع وزناد، وكانت ليبيا هذا الزناد"
في مالي، تمكن المقاتلون - من ثوار الطوارق والجهاديين - مُسلحين بترسانة القذافي والمال، من الاستيلاء على شمال البلاد.
في العاصمة باماكو، تدخلت فرنسا عام 2013 لضبط الأمن، ومنع سقوط المدينة في قبضة المتشددين، ولاتزال هناك منذ ذلك الحين "في وضع مستعصٍ"، حتى أصبحت مالي نقطة ضعف في حملة إعادة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2022.
واستلهم المتطرفون في بوركينا فاسو المجاورة تجربة نظرائهم الماليين، وشنوا تمرداً محلياً أدى إلى زعزعة أمن البلاد. واستغل الجهاديون التوترات العرقية القائمة في كلا البلدين، وملأوا فراغات الحكم.
في تشاد، واجه الزعيم الاستبدادي إدريس ديبي المدعوم أوروبياَ، عدد من الثورات على مدى سنوات، انطلق العديد منها من ليبيا المجاورة.قال خبراء إقليميون إن الجماعة التشادية التي قتلته خلال هذا العام، عمل أفرادها مرتزقة لصالح الجنرال الليبي خليفة حفتر، و"ظهرت (الجماعة) مجهزة لشن هجوم خطير على العاصمة نجامينا".
كان ديبي، الذي شغل منصب الرئيس منذ توليه السلطة في انقلاب عام 1990، أكثر رسوخاً بسبب الدعم السياسي والمالي الذي تلقاه من أوروبا، التي اعتبرته أهم حصن لها ضد الجهاديين في منطقة الساحل.
في تفسيره لهذه الفوضى، يرى دانيال إيزنجا، زميل باحث في مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية: "لقد حدثت أشياء كثيرة منذ 2011، لكن سقوط القذافي كان لحظة مهمة لإطلاق العنان لهذه الأزمات كالانفجار العنقودي".
اعتبر الاتحاد الأوروبي حدوده في وسط الصحراء في النيجر، ودفع 1.6 مليار يورو لهذا البلد كمساعدة بين عامي 2016 و2020 لمنع المهاجرين من السفر على طرق عمرها قرون عبر الصحراء. ما دفع المهاجرين إلى سلوك طرق صحراوية أكثر خطورة، حيث مات الآلاف منذ ذلك الحين.
"شمَّاعة" ليبيا
في رأي، جيشاوا، فإن زعماء منطقة الساحل استخدموا الفوضى في ليبيا كذريعة للدفاع عن انفسهم ضد اتهامهم بالفشل في تأمين دولهم، مضيفًا أن تداعيات الأزمة في ليبيا "بولغ فيها في بعض الأحيان كمحرك لانعدام الأمن".
في ذات السياق، ذكرت كورين دوفكا، مديرة منظمة هيومن رايتس ووتش في غرب إفريقيا، أن ارتباط ليبيا بانعدام الأمن في منطقة الساحل "مبالغ فيه تماماً".
وتقول دوفكا إن "الغالبية العظمى" من الأسلحة المتداولة الآن هي من الهجمات التي شنها الجهاديون ضد قوات الأمن أو "أنهم يشترون السلاح من السوق المفتوحة".
---------
(*) أضيف الرابط بغرض التوثيق ويحذر رصيف22 قرائه من الإطلاع على المشهد لدمويته
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.