لأول مرة منذ 7 سنوات، تشهد مواقع التواصل الاجتماعي سجالاً علمياً بين مجموعة من الباحثين والعلماء المصريين ذوي وجهات النظر المتعارضة، حول شأن علمي له أبعاد سياسية تتعلق بآثار ملء سد النهضة على مصر، وتداعياته الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية، وذلك على خلفية ورقة علمية تقدم بها مجموعة من الباحثين، وأرفقوها بطلب سحب دراسة أشرف عليها العالم المصري المختص في علوم جيولوجيا الفضاء، عصام حجي.
دراسة حجي المنشورة بشكل مفتوح منذ تموز/ يوليو الماضي، تناولت الأضرار المتوقعة من سد النهضة على مصر، تحت عنوان "عجز ميزانية المياه في مصر، وسياسات التخفيف المقترحة لسيناريوهات ملء سد النهضة الإثيوبي الكبير". ونشرت الدراسة أولاً في مجلة الأبحاث البيئية البريطانية العريقة بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 2021.
كان آخر نقاش علمي شبيه في مصر - واتخذ وقتها أيضاً صبغة شعبية هزلية- هو الجدل العلمي الذي صاحب الإعلان عن جهاز خاص لكشف وعلاج الإصابة بفيروس الكبد الوبائي سي، وفيروس HIV المسبب لمرض نقص المناعة البشرية المكتسبة "الإيدز"، وكان ذلك في العام 2014، حين ادعى اللواء بالقوات المسلحة إبراهيم عبد العاطي اختراعه هذا الجهاز، واشتهرت عبارته التي قالها في أحد اللقاءات التلفزيونية، وجاء فيها أن الجهاز سيقوم بسحب بروتين فيروس الإيدز من جسد المريض ثم " أرجعهوله صباع (إصبع) كفتة يتغذى عليه".
حدث آخر نقاش شبيه في مصر في العام 2014، وهو الجدل العلمي الذي صاحب الإعلان عن جهاز خاص لكشف وعلاج الإصابة بفيروس الكبد الوبائي سي، وفيروس HIV المسبب لمرض الإيدز.
وأثار حديث اللواء عبد العاطي وقتها ضجة كبيرة، وتصدّى للرد عليه باحثون وعلماء مصريون مختصون في الأمراض المعدية والمنقولة، وطب المناطق الحارة منهم الراحل أحمد خالد توفيق، كما تصدى للرد عليه أكاديميون فنَّدوا مجافاة الاختراع والإشراف عليه لأصول البحث العلمي، ومنهم عصام حجي، الباحث في وكالة بحوث الفضاء الأمريكية "ناسا"، والذي كان يشغل وقتها منصب المستشار العلمي للرئيس المصري المؤقت عدلي منصور.
وصف حجي الاختراع حينها أنه "فضيحة علمية لمصر"، وقال إن مؤسسة الرئاسة قررت عرض نتائج الأبحاث المتعلقة بالجهاز على لجان علمية متخصصة، والتواصل مع مراكز بحثية عالمية للتأكد من النتائج.
دراسة حجي
يحدد البحث الذي أجرته جامعة جنوب كاليفورنيا بالتعاون مع جامعة كورنيل ووكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، حجم العجز المائي لمصر الذي ينتظر أن يسببه سد النهضة الإثيوبي، وآثاره الاقتصادية، ويقيِّم الحلول المقترحة من المراكز البحثية والحكومة المصرية للتغلب على العجز المائي السنوي المتوقع حدوثه أثناء سنوات الملء.
قدّر البحث متوسط إجمالي العجز السنوي للمياه القادمة إلى مصر بنحو 31 مليار متر مكعب سنوياً (حصة مصر من المياه العذبة تقريباً 77 مليار متر مكعب منها 55 مليار رسمياً من نهر النيل)، نسبة العجز المقدرة حسب الدراسة ستتجاوز 40% من إجمالي موارد مصر من المياه حالياً، وذلك مع أخذ التسرب بين الصخور المتصدعة أسفل وحول خزان سد النهضة في الاعتبار.
وعن الخسائر الاقتصادية المحتملة في إجمالي الناتج الزراعي المحلي، خلال إجمالي فترة الملء، يتوقع البحث خسارة قدرها 51 نحو مليار دولار في حالة سيناريو الملء لمدة 3 سنوات (الذي تصرّ عليه إثيوبيا رسمياً)، و28 مليار دولار في سيناريو الملء لمدة 5 سنوات، و17 مليار دولار لسيناريو الملء لمدة 10 سنوات، و10 مليار دولار لسيناريو الملء لمدة 21 عاماً.
وقال البحث إن سيناريو الملء قصير الأجل المقترح لسد النهضة لمدة ثلاث سنوات، قد يؤدي إلى تدهور 2.8 مليون هكتار من الأراضي، مما قد يؤدي إلى خسارة 4.75 مليون وظيفة في مصر. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى خسارة مقلقة لأكثر من ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية في البلاد، مما يؤدي إلى بطالة أكثر من 60% من العمال الزراعيين، وزيادة العجز في الغذاء، والتوسع في الاعتماد على الاستيراد في ظل أزمة اقتصادية حقيقية. كما يتوقع مع هذا النقص أن يرتفع معدل البطالة الإجمالي من 11% حالياً إلى 25% في المستقبل.
بعد ثلاثة أشهر، فاجأ عصام حجي متابعيه بمنشور عبر حسابه الشخصي على تويتر، يعلن فيه أن مجموعة من الباحثين المصريين ومعهم باحثاً إثيوبياً، اتهموا فريق البحث المشارك في الدراسة التي أشرف هو عليها بـ"عدم التزام المعايير العلمية في الاستشهاد بالأبحاث"
هجمة مضادة
صاحب حجي نشر الدراسة التي أشرف عليها في حزيران/ يونيو الماضي بترويج واسع للبحث على شبكات التواصل الاجتماعي، وتضمن ما كتبه وقتها تركيزاً على ما يراه عجزاً من صناع القرار في مصر عن تقديم حلول لـ"الكارثة" البيئية والاقتصادية التي تنتظر البلاد. إلا أنه لقي هجوماً مع انتشار نص الدراسة، بعدما وجد متابعوه أنه "بالغ في العرض" و"صوَّر مستقبلاً كارثياً حتمياً"، مع أن الدراسة تضع احتمالات وخيارات أخرى ضمن تنبؤاتها.
بعد ثلاثة أشهر من نشر الدراسة والنقاش حولها، فاجأ عصام حجي متابعيه أمس الأربعاء 8 سبتمبر/ أيلول، بمنشور عبر حسابه الشخصي على تويتر، يعلن فيه أن مجموعة من الباحثين المصريين ومعهم باحثاً إثيوبياً، اتهموا فريق البحث المشارك في الدراسة التي أشرف هو عليها بـ"عدم التزام المعايير العلمية في الاستشهاد بالأبحاث".
قمنا اليوم بالرد على شكوى رسمية بحذف بحثنا المنشور عن أثار عملية ملئ سد النهضة مقدمة من باحثين من مصر مع باحث اثيوبي. الشكوى اتهمت فريقنا بعدم التزام المعايير العلمية في الاستشهاد بالابحاث واستشهدت في المراجع المرفقة بالشكوى ببرنامج نشأت الديهي!? البحث:https://t.co/WGDzSjT4Zq pic.twitter.com/1YLtRyrSs3
— د. عصام حجي (@essamheggy) September 8, 2021
وقال حجي ساخراً "قمنا اليوم بالرد على 'شكوى' رسمية بحذف بحثنا المنشور عن آثار عملية ملء سد النهضة على زيادة العجز المائي لمصر. الشكوى اتهمت فريقنا بعدم التزام المعايير العلمية في الاستشهاد بالأبحاث، واستشهدت في أحد المراجع المرفقة بنص الشكوى ببرنامج نشأت الديهي وباحثين مصريين وباحث إثيوبي".
أثار منشور حجي استهجان الباحث المصري صقر النور، المختص بعلم الاجتماع الريفي والزراعة والري، ومغردين آخرين رأوا أن تعليق حجي يُسفِّه من جهود باحثين زملاء، ويحمل طابعاً ساخراً من ورقة التعليق على دراسته لأنها استدلت بحديث للدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية، الذي ظهر مع الإعلامي الموالي للحكومة نشأت الديهي. والأخير، تحيط ممارساته المهنية انتقادات واسعة من معارضين وإعلاميين محترفين.
وفنَّد صقر أخطاءً وقع فيها العالم المصري قائلاً "تم إرسال ورقة تعليق وليست شكوى، وقد قبِلَت مبدئيًا من محرري المجلة، لذلك طلبوا من فريقك الرد". وواصل صقر توجيه حديثه إلى حجي قائلاً "أنت انتقدت من اختزل بحثك في السيناريو الكارثي، والآن تسخر من باحثين وتختزل مجهودهم في مرجع". ورداً على ما أثير بشأن استخدام برنامج الديهي الموالي للحكومة من ضمن مراجع البحث، قال صقر النور "نعم يمكن استخدام الديهي كمرجع للخطاب الإعلامي". مضيفاً: "استخدام سطوتك للسخرية من باحثين شيء محزن".
في السياق ذاته، زعم الدكتور محمد سيد على حسن المتخصص في هندسة الفضاء والنانو باليابان، أنه يعرف هوية الباحث المصري الذي قدم "شكوى" (تعليقاً) على بحث عصام حجي، وقال إن "عباس شراقي أستاذ الموارد المائية بعلوم القاهرة، طلع مشترك مع باحث إثيوبي ومقدمين شكوى علمية ضد بحث عصام حجي عن آثار سد النهضة على مصر"، متسائلأً عن القاسم المشترك بين الباحثين المصريين والباحث الإثيوبي.
وتابع في منشور على فيسبوك: "شراقي عامل استشهاد ذاتي لنفسه في شكواه العلمية، بلقاء تلفزيوني عمله مع نشأت الديهي. تخيل سعادتك لما تلاقي مرجع علمي يستشهد بالديهي أو أحمد موسى بهذا الشكل".
أستاذ جيولوجيا عن دراسة حجي: "البحث يريد أن يرعب المصريين، وأن يثيرهم ضد النظام"... مسحيل أن تبور 72% من الأراضي المصرية "حتى لو قطع النيل الأزرق بكامله"
من جهته، نفى شراقي أن يكون هو الباحث المصري الذي قدم ورقة العمل ضد بحث عصام حجي، وقال في منشور على فيسبوك: "المجلة العلمية طلبت الرد من حجي على بحثه المغرض. قال على حسابه إن فريق علمي ومعهم واحد إثيوبي تقدموا بشكوى للمجلة، البعض ادعى أنني منهم، وهذا شرف ولكن للأسف لم يحدث، وكان المفروض أن أفعل هذا فعلاً، ولكني أوضحت الأمر عندما سئلت فى وسائل الإعلام، ومنها قناة الجزيرة التي أفردت للبحث (يقصد بحث حجي) مساحات كبيرة وقامت بترجمته". وأضاف شراقي: "الأهم هو أن فريق البحث كان المفروض أن يرد على ملاحظاتي، رغم أنهم قاموا بتعديل بعض الأخطاء التي أشرت إليها. ولكن البحث بصفة عامة موجه سياسياً ومغرِض بالفعل".
وتابع شراقي عبر الفيسبوك " لو كان د. حجي على وفاق مع النظام هل كان سيكتب هذا البحث بهذه الطريقة؟ البحث يريد أن يرعب المصريين، وأن يثيرهم ضد النظام... السد له أضرار صحيح، ولكن ليست كما ذكر البحث الذي قال أن حوالي 72% من الأراضي الزراعية سوف تتوقف عن الزراعة، وهذا مستحيل حتى لو قطع النيل الأزرق بكامله".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...