يحدثنا حاتم. أ ، الذي كان بعمر ـ26 عاماً حين اندلعت الثورة في سوريا، عن عمله في التصوير والتوثيق في ريف دمشق حتى عام 2013، تاريخ خروجه من سوريا، وذلك ضمن لقاء أجرته معه الباحثة الفرنسية سيسل بويكس، في كتابها الصادر مؤخراً "سوريا، حقبة جديدة من الصور- من الثورة إلى الصراع الدولي"، بالتعاون مع الباحثة أغنيس دوفيكتور. وفي نهاية اللقاء، يخبرنا حاتم عن الصور والتسجيلات التي لم ينشرها، تلك التي تصفها بويكس بأنها ما زالت أسيرة الذواكر الشخصية وكروت الذاكرة المحمولة.
واحدة من هذه الصور غير المنشورة، هي تجهيزه لموته بصورة ما، أي امتلاكه لحقّ تمثيل نفسه حين يموت "شهيداً"، إذ يخبرنا في سياق يتداخل فيه المزاح مع الجدّ كيف كفّن نفسه، والتقط عدة صور مع صديقه استعداداً لـ"موته"، وقال مازحاً إنها مجهزة للنشر على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي، السبب ربما، هو رغبته بامتلاك شكل موته وأسلوب الحداد عليه، خصوصاً أن النظام السوري حينها، صادر حق الحداد ومنع الدفن وغيرها من تقنيات تعطيل النحيب.
الصورة في الحكاية السابقة و"تملّكها" في الحالة السورية هي أكثر من مجرد لعب أو رغبة في الظهور، هي أداة سياسية ونقدية، ووصلت الآن إلى حد "التأريخ"، فدفق الصور الذي خرج من سوريا واكتسح العالم، لعب ضمنه "صانعو الصور" دوراً في حفظ الذاكرة وتحقيق العدالة، والأهم، استعادة التمثيل السياسي وتملكه، وأحياناً السخرية من "نظام التمثيل" بأكمله.
"الصورة" و"تملّكها" في الحالة السورية هي أداة سياسية ونقدية، ووصلت الآن إلى حد "التأريخ"، فدفق الصور الذي خرج من سوريا واكتسح العالم، لعب ضمنه "صانعو الصور" دوراً في حفظ الذاكرة وتحقيق العدالة، والأهم، استعادة التمثيل السياسي وتملكه، وأحياناً السخرية من "نظام التمثيل" بأكمله
تقرأ بويكس وتحلل و"تبحث" في "الصور" من سوريا، بوصفها شكلاً من أشكال التأريخ الصراع السياسي، مهما اختلفت نوعيتها وأسلوب إنتاجها ودقتها ومضمونها، وتحاول تكوين جسد مفاهيمي لاستيعاب "معانيها"، لا فقط "عددها"، كما تعمل أيضاً على البحث وراءها، حرفياً ومجازياً، إذ نتعرّف على أسلوب نشرها وتنظيم "ما فوق البيانات" الرقمية التي تحويها كل صورة، وأثرها على المصداقية والأصالة، إلى جانب محاولة تقصّي سياقها وطبيعة الخطر الذي كان قائماً لحظة التقاطها.
إذ تتناول الصور التي أنتجها المتظاهرون السلميون، وتلك التي أنتجها الجيش الحر وتنظيم الدولة الإسلامية والمجموعات الكردية، بوصفها أشكالاً من "التمثيل" و"السياسة" و"الجهد الجمالي"، كل هذا ضمن سياق تحولت فيه الصورة إلى أداة حربية ووسيلة نقدية، وأحياناً أسلوب للنجاة من الموت.
لن نخوض في كلّ الكتاب أو تفنيده، لأن الجهد البحثي فيه لا يمكن تلخيصه أو مجرد الاقتباس منه دون الانتقاص من قيمته، خصوصاً أننا نتحرك ضمن مساحة شديدة الهشاشة، وهذا ما تشير له بويكس نفسها. الصور منتشرة في كل مكان، بعضها ضاع والآخر ما زال حبيس "هاردات" من التقطه، والبعض الآخر مهتز، ذو دقة منخفضة، ولابد من شرح السياق الذي يظهر فيه.
و هذه واحدة من أهم إشكاليات دراسة الصور في سوريا، فالصور لا مركزية، وتتحرك ضد الأرشيف ، فهي تتغير دوماً، تحذف وتنشر وتعدل، وبعضها ما زال ضمن "الأرشيف الحي"، أي لابد من العودة إلى أصحابها، إما للحصول عليها أو لفهم سياقها، بعيداً عن تلك المجهّزة والمصمّمة كي تنشر.
نحاول هنا أن نقسم فعل التصوير الذي قام به المتظاهرون في سوريا بناء على هدفه، دون الخوض في التفاصيل في الكتاب لغناها، لكن لابد من الإشارة إلى أن التصوير في الحالة السورية أصبح "جهداً" يومياً، ونستخدم كلمة "جهد" لأن فيها تهديداً للحياة واستنزافاً لطاقة الفرد، وتغييراً للوضعية السياسية، والأهم، أنها أسلوب لكسب المال في الكثير من الأحيان.
التصوير في الحالة السورية أصبح "جهداً" يومياً، ونستخدم كلمة "جهد" لأن فيها تهديداً للحياة واستنزافاً لطاقة الفرد، وتغييراً للوضعية السياسية، والأهم، أنها أسلوب لكسب المال في الكثير من الأحيان
التصوير للتوثيق
يصوّر من في سوريا منذ عام 2011، ليس فقط لإظهار ما يحدث في سوريا للعالم، بل أيضاً خوفاً من سلطة الاختفاء وتلاشي "الحدث"، الأمر الذي سبق أن شهدته سوريا في الثمانينيات، فكلُ فرد بكاميرا موبايله يوثق ما يحدث لأجله، ولأجل "العالم" ولأجل أقرانه من السوريين. التوثيق هنا، يجعل من الصورة جزءاً من الواقع نفسه، لأن بدونها يمكن نفي الحدث، وهذا ما راهن عليه النظام السوري نفسه، سواء عبر إنكار المظاهرات أو أعداد من قتلهم أو إنكار حقائق بأكملها.
هذا "الجهد" مارسه الكثيرون، وهناك في مكان ما، كتلة كبيرة من الصور التي لم تنشر، حُذفت، أو لم تكن ملائمة للبثّ على القنوات العالمية، فـ"مُنتجت" أجزاء منها، وهذا ما أشارت له بويكس، فصنّاع الصور استوعبوا بسرعة دور الصورة، وعملوا على تطوير أسلوب عملهم، لتحوي الصورة نفسها شكلاً يدافع عن مصداقيتها، مع الأخذ بعين الاعتبار حماية من يظهر فيها، هذه التقنيات تتجلى في وضع اسم المكان والتاريخ أمام العدسة، إخفاء أوجه المتظاهرين وعدم ضغط الصور.
كل هذا محاولة لجعل كل صورة حدث في (العالم) لا بد أن يبقى حاضراً ولو رقمياً، لأجل الذاكرة، وأحياناً لأجل الخلاص الشخصي.
التصوير للاحتجاج
لعب التصوير في سوريا دوراً في استعراض الاحتجاجات، إذ صممت و"أخرجت" العديد من المظاهرات كي تُعرض للعلن، و تؤكد وجود متظاهرين، في محاولة لـ"محاربة" بروباغندا النظام الرسمية التي تنفي وجودهم، فظهور الصورة نفسه، وبعيداً عن التهديد والخطر المحيط بظروف التقاطها ونشرها، هو تحدٍّ لسياسات الاختفاء والإخفاء التي يمارسها النظام.
يصوّر من في سوريا منذ عام 2011، ليس فقط لإظهار ما يحدث في سوريا للعالم، بل أيضاً خوفاً من سلطة الاختفاء وتلاشي "الحدث"، الأمر الذي سبق أن شهدته سوريا في الثمانينيات
الأهم، التصوير دعوة للاحتجاج، والخط الفاصل، إن صح القول، بين "المشاهدين" و"المشاركين" فمرئي. من يظهر في الصورة يتحدد موقفه السياسي، هل يشارك في التظاهر؟ هل يشاهد فقط؟ هل يقف بوجه المتظاهرين أم يساعدهم؟
كل هذه الأسئلة تظهر لثوان معدودة ضمن العديد من الفيديوهات التي توثق المظاهرات في سوريا، وعبرها يحدد كل من النظام والثوار "موقفهم" من هذا الفرد، وهنا تظهر أدائية الصورة، أو فعل التصوير ودوره في تحديد الولاء، وهذا ما نلاحظه حين تتحول الصورة سواء إلى وسيلة لتحديد هوية "المخبرين" أو وسيلة لالتقاط المتظاهرين والتعرّف عليهم، وكيف تمت مواجهة ذلك باستراتيجيات التخفّي التي تشير لها بويكس في الكتاب، كوضع الأقنعة، وتشويش الأوجه وغيرها.
التصوير للتأريخ واستعادة التمثيل السياسي
كمُّ الصور الذي "خرج" من سوريا عبر القنوات الرسمية و غير الرسمية، يتركنا في حيرة، خصوصاً في ظل غياب الأرشيف، لكن التمحيص والبحث ومحاولة خلق بنيان مفاهيمي، يكشف لنا عن دور الصورة في صناعة التاريخ، وكيفية تلقينا له، و هذا ما نتلمّسه في الفصل الذي يتحدث عن تحولات عبد الباسط الساروت، الأيقونة السورية، الذي بدأ كمتظاهر سلمي، ووصل حد مقاتل سلفي، هذه "الرحلة" رصدناها عبر مئات الفيديوهات التي توثق مسيرته وتنقلاته وحياته على الجبهة أو في الأنفاق والمخابئ.
الأهم، لعب فعل التصوير دوراً في التمثيل السياسي، أو استعادته من قبل السوريين بأطيافهم، فالجنود يصورون انشقاقهم، والمدنيون يصورون كسرهم لهوياتهم، والطلاب يوثقون تمزيقهم لبطاقاتهم الجامعية.
هذا الفعل المصور والمنشور علناً واختلاف أسلوب "إخراجه"، هو أولاً كسر للتمثيل السياسي للنظام السوري ومؤسساته، والدور الذي تلعبه في تكوين "النظام"، وثانياً، أسلوب لإعلان الولاء لـ"الثورة"، و الموقف السياسي الذي تتبناه، وكأن "صورة" كل واحد من السوريين، علامة على الانتماء والموقف السياسي، والأهم، جزء من تاريخه الشخصي، الواضح والعلني، الذي يحمل وجهه واسمه، لا ذك الذي يقدمه النظام لجثث تحمل فقط أرقاماً وتهماً وتقارير طبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...