تحمل قصة الخلق في طياتها، حسب منظور الأديان السماوية، الكثير من الإشكاليات التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، على الرغم من أننا لا نستطيع التشكيك بأنها واحدة من أعظم الخمائر الأصيلة في الوعي البشري، ولا تزال قاعدة للفنون جميعها، في العالم. إنها جوهر كل حركة فنية تخيلية، يمكن أن تنشأ من خلالها ملايين النصوص، والمعزوفات، واللوحات. إنها قصة جوهر الوجود بأسره. إنها عمق فكرتنا الإنسانية عن أنفسنا، شئنا أم أبينا.
تنطلق القصة من لحظة البداية في الخطاب الإلهي لكائن بعينه، وهو آدم، بينما المرأة تُضاف كانتماء فرعي. فآدم هو المُخاطب من طرف الرب، بدءاً بخلقه، وإشهاده على ذريته في الملأ الأعلى، ثم تعليمه اللغة، وسيادته على الملائكة، ثم تعرّفه إلى الموجودات، ثم وقوعه في الخطيئة، وطلب المغفرة، وهبوطه إلى الأرض. حتى أن الرب لم يبلّغ الأنثى، بخطاب مباشر، منع الأكل من الشجرة، بل ما وصلها من النهي بالمحظور كان عن طريق آدم.
يقول السُّدّي: "فأخرج إبليس من الجنة حين لعن، وأُسكِن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشاً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة، فاستيقظ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها: من أنت؟ فقالت: امرأة. قال: ولم خُلقتِ؟ قالت: تسكن إليّ. قالت له الملائكة: ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء. قالوا: ولم سُمّيت حواء؟ قال: لأنها خُلقت من شيء حي. فقال الله له: "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منهما رغداً حيث شئتما". إذاً، منذ البداية نحن أمام خطاب إلهي ذكوري، وتهميش أنثوي واضح. حتى في كلام الله: ليسكن آدم مع زوجته. الذكر هو المخاطب هنا.
تجيء هذه المقدمة، لنستطيع شرح فكرة "الأنثى الوهم" التي يأتي بها الطرح الديني، لكن قبل ذلك، يجب أن نتساءل: كيف خلق الله حواء من ضلع آدم، ولماذا أصيبت بالمازوخية والخصاء التاريخي؟ إن الطرح السائد، هو الإيمان بأن حواء هي من الضلع الأيسر لآدم. فعندما كان آدم وحشاً يسير في الجنة وحيداً، لم يشأ الرب أن يبقى هكذا، فأوقعه في سبات عميق، وأخذ أحد أضلاعه، وبرأ منه المرأة. وعندما استيقظ آدم، شاهد حواء إلى جانبه، وجرى حديث تعارفهما، كما طرحته الديانات السماوية الثلاث، وإن اختلفت بعض جُمل الحوار في كل ديانة. لكن، ما الذي دعا الرب ليُخرج ضلع آدم بعد نومه؟
إنّ السبات الذي لفّ آدم، كان بمثابة وقاية له من صدمة الانفصال التي صنعها الرب، ليخلق له زوجاً، والسبب من وراء نوم آدم، هو كي لا يشعر بألم الانفصال، الذي إن حل عليه، فسيكون في موضع الكاره لزوجه. وعلى هذا تكون حواء بالنسبة إلى آدم، حسب أسطورة الخلق، بمثابة الصورة الوهميّة ليسكن إلى نفسه. فإن كانت قد بُرئت منه، وهو في حاجة إلى أن يسكن إليها، فالطبيعي إذاً أنه يسكن إلى نفسه، لأنها منه (واو يا لروعة الشيزوفرينيا). إنها الكيان اللاحق على آدم، ومن آدم، وهي من جوهر آدم، كما هي الحاجة الماسة واللاشعورية لديه، لاستعادة ما فُقِد منه، أي استعادة ذاته غير المُدركة فيزيائياً، التي انتقصها الله منه، وهو نائم. هل يمكن أن نفهم قصة الخلق إلا بهذه الطريقة المنطقية جداً؟ أما إذا كان على الإيمان بقصة الخلق ألا يكون منطقياً، فهذا شأن آخر.
على هذا، أوجد التراث الذكوري، الناقص فيزيائياً حسب المنظور الديني نفسه لقصة الخلق، عبر تقنياته السلطوية، تعقيد الصورة الأنثوية إلى أقصى حد، واصفاً إياها بالعنصر الشبقي، ورمز خصائها، وهي مجرد جزء مستلّ من الذكر نائماً، حيث انشقت عنه في حالة اغتراب وانشطار، من دون أن يوافق آدم عليه
ومن هنا، تصبح صورة الجنس التكاملي -هوام القضيب المفقود لدى الأنثى- مجرد انعكاس مشوه لفكرة الجسد الذكوري الناقص الذي يمارس خاصية الحضور في الانتصاب، باحثاً عن كيان المرأة الهش في فكرة البحث عن الذات التائهة، وغير المدركة، لأنه يبحث عن شيء ناقص فيه.
على هذا، أوجد التراث الذكوري، الناقص فيزيائياً حسب المنظور الديني نفسه لقصة الخلق، عبر تقنياته السلطوية، تعقيد الصورة الأنثوية إلى أقصى حد، واصفاً إياها بالعنصر الشبقي، ورمز خصائها، وهي مجرد جزء مستلّ من الذكر نائماً، حيث انشقت عنه في حالة اغتراب وانشطار، من دون أن يوافق آدم عليه. أي أنه قرار إلهي لا دخل للإرادة الآدمية فيه، لتصبح الأنثى بذلك من طبيعة مازوخية، تلد وهي مستيقظة، وتشعر بالألم، لكنها مع ذلك تزداد حباً لمخلوقها. ذلك التناقض العاطفي بين الألم والحب، أصبح مصبوغاً بالمفهوم الأنثوي، لتجد لذتها في عذابها، تماماً كما في الحالة الجنسية؛ الألم يولّد النشوة، ما يساهم في تضخيم نرجسية الذكورة الباحثة عن نفسها في المازوخية الأنثوية.
أما الجزء الآخر المتعلق بالتهميش الأنثوي، ومازوخيته الحوائية، فهو أسطورة أقدم في العهد القديم، وهي قصة ليليث. فما الذي جعل حواء –على الرغم من تهميشها التاريخي، والخطاب الربوبي المباشر لآدم- تحظى بجزء يسير من الأهمية الوجودية على مستوى الوعي التاريخي، على الرغم من أنه وعي ناقص؟
ميزت الأسطورة الأنثوية ثلاث مراحل أدت إلى لعن ليليث، وتقديس حواء؛ فقد بُنيت أسطورة النفس الأنثوية، التي قادتها ليليث، على أنها المرأة المساوية للرجل، الناشئة من الأصل ذاته، زمانياً ومكانياً، والمرأة الفاعلة جنسياً، الرافضة للدونية القضيبية، والمرأة الكارهة للأمومة.
على هذا النحو، قُسمت صورة الأنثى في تاريخ الأسطورة. فليليث المتمردة التي طالبت بمساواتها، وعدم تفضيل الذكر عليها، تم لعنها وإخفاؤها من التاريخ. وظهور حواء بأسطورة خلق مغايرة، تؤدي الجانب الآخر الذي أسقطته ليليث من وجودها كمهمة، فأصبحت حواء رمزاً للسلبية الجنسية (المفعول به)، والزواج الأحادي (الاختيار الذكوري)، والأمومة المُضحّية، والمُعذّبة، والمتألمة، ورمزاً للخصاء القضيبي. وعلى هذين الشكلين بُني المستقبل البشري في الأنثى، والذي أصبحت فيه حواء وليليث تمثلان الجانب الواقعي من الحياة، وهما القديسة والعاهرة؛ تلك الثنائية التي لا تنتهي.
ليليث، المتمردة التي طالبت بمساواتها، وعدم تفضيل الذكر عليها، تم لعنها وإخفاؤها من التاريخ. وظهور حواء بأسطورة خلق مغايرة، تؤدي الجانب الآخر الذي أسقطته ليليث من وجودها كمهمة، فأصبحت حواء رمزاً للسلبية الجنسية
تلك الصورة في أسطورة الخلق، التي ساهم العقل الذكوري في تعقيدها، يرجع سببها إلى نفي التهمة الأسطورية التي حاول الذكر إسقاطها من جوهرها، والمتجسدة في بحث الذكر عن ذاته الناقصة، والتي هي بمعناها الخفي، ليست دعماً ذكورياً، بل هي عقاب إلهي، لإدراك الإله للمعصية التي سيرتكبها آدم سلفاً. فأصبحت صورة حواء؛ أنثى الوهم، شكلاً لممارسة الذكر لذاته، باحثاً عن كيانه المفقود، الذي هو، بمعنى آخر، اغتصاب غير واعٍ لروحه، كون حواء خلقت ضلعاً، وجزءاً من نفس آدم. تصبح عملية ممارسة آدم للشبق الجنسي، تحت مُسمى التكامل، اغتصاباً لذاته، كعقاب وراء صورة الأنثى الوهم.
على هذا السرد الواضح والمنطقي جداً، حسب القصة الدينية السماوية للخلق، يمكن القول ببساطة: "باغدون للمجتمع البطريركي، إنكم تنكحون ذواتكم وراء مسمى الأنثى التي خُلِقت من ضلوعكم".
أعتذر عن هذه الحقيقة المأساوية. لكن إن كانت قصة الخلق حقيقية في هذه السردية التي تؤمن بها مليارات من البشر، فالأنثى عبارة عن انعكاس وهمي لصورة الذكر الذي بُرئت منه، وما انتصاب الذكورة فيهنّ، سوى اغتصاب لا واعٍ من الذكر، لشبقه المطلق.
إن لم يتم استيعاب ما قيل، فببساطة يمكن اختزاله بما يأتي: كان هناك آدم وحيداً. نام فأخرج الله منه ضلعاً سماها حواء. آدم ينكح حواء، أي أنه ينكح ضلعه، أي ينكح روحه، أي ينكح ذاته. حواء، عزيزي العبقري، ليست سوى الصورة الوهمية لما هو ناقص فينا، كذكور، حسب قصة الخلق. وعليه، وحسب المشروع الديني للخلق، الأنثى عبارة عن وهم، والذكور يغتصبون ذواتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع