صباحات فيروزية تنبعث من البيوت والمحلات والمكاتب في مدينتي دمشق. أمشي ولا يفوتني أي مقطع من أغانيها. المدينة كلها تغني مع فيروز، فهي من رموزها الصباحية التي لم ولن تنسى. أستعيد من ذاكرتي ذاك الصوت المخملي، وفنجان قهوتي المدلل بحبات الهال، وفطوري السريع من زيت وزعتر وبعض البسكويتات البيضاء على شكل الوردة، والمحشوة بمربى الفريز، وهي المفضلة لدي قبل خروجي من المنزل. لطالما كانت هذه ذكرياتي على بلكونة بيت جدي في حي الصالحية. وعند كل زيارة لي إلى دمشق، أنا التي ولدت وعشت طفولتي في الشارقة، كنت أرى تلك البسكويتات تنتظرني، وكأنني لم أغب عنها عاماً كاملاً.
توفي جدي عام 2002، ولكني لم أنقطع عن زيارة بيته، وتلك البلكونة التي تحمل ذكرياتي، وفنجان قهوتي كل سبت لسنوات عديدة، إلى حين بيع المنزل. ومنذ ذلك الوقت، انقطعت عن البيت، وعن الصالحية، وشعرت وكأن حبلاً من الحبال المتينة التي تربطني بدمشق يُقطع، كما هو حال حبال أخرى ستُقطع في السنوات التالية.
حي الصالحية في دمشق - تصوير: رانيا قطف
تشوهات وغربة
يعيش المرء في حياته انقلابات عدة، أو عكس ذلك تماماً حين يتكرر المشهد أمامه مثبتاً بأن التاريخ سيعيد نفسه بشكل أو بآخر، في خسارة الأشخاص، أو الأماكن، أو الاثنين معاً.
منذ بداية الحرب في سوريا، وأنا أراقب ذاك التطوّر العكسي الذي يحل على دمشق، وكنت أتمنى أن أقول إن الحرب كانت المسبب الرئيسي بالتغييرات كلها التي يلمسها سكان المدينة، سواء على المستوى العمراني، أو الاجتماعي، أو الثقافي. لكنها في الحقيقة أقدم من تلك المرحلة بكثير. التغييرات التي أتحدث عنها هي تشوهات طالت المدينة عاماً بعد آخر، وإحساس سكانها وأهلها بالغربة عنها، وتفضيل بعضهم الخروج نحو ضواحٍ ومناطق أبعد وأقل ضجيجاً وفوضى، لشعورهم أن مدينتهم التي يعيشون فيها منذ عشرات السنين "ما عادت لهم".
منذ بداية الحرب في سوريا، وأنا أراقب ذاك التطوّر العكسي الذي يحل على دمشق، وكنت أتمنى أن أقول إن الحرب كانت المسبب الرئيسي بالتغييرات كلها التي يلمسها سكان المدينة، سواء على المستوى العمراني، أو الاجتماعي، أو الثقافي. لكنها في الحقيقة أقدم من تلك المرحلة بكثير
تحدثني رجاء سمكري، الجدّة السبعينية التي ولدت في دمشق، وترعرعت بين حواريها القديمة في منطقة الجسر الأبيض، عن ذكرياتها في حيّها الجميل: "كان يمر من منطقة الجسر الأبيض أحد فروع نهر بردى، فرع تورا، وكان بيتنا ما يزال بيتاً عربياً قديماً، فكنّا نأخذ المياه من النهر مباشرة، لنغسل الفاكهة ونصوّل الرز، إذ كانت نقية للغاية. وكنت أسمع من الناس أن تسمية الجسر الأبيض تعود إلى مياه النهر النظيفة والرقراقة، ولون حجرها الأبيض".
تتابع السيدة بحزن: "للأسف، أُغلق هذا الفرع من النهر، ومع ازدياد السكان في المدينة كثرت البيوت، وتغيرت مسارات تلك الأنهر، وتحول ما تبقى منها إلى مكبات للنفايات".
اليوم تعيش السيدة سمكري مع زوجها في ضاحية قدسيا غرب دمشق، التي تبعد حوالي 20 كيلومتراً عن وسط المدينة، وتقول: "استغنيت عن السكن في الشام، فأنا لم أعد أطيق الضجيج والازدحام السكاني، لذلك أفضل العيش هنا حيث الهواء نظيف، تماماً كما كان الهواء نظيفاً في مدينتنا قبل عقود".
نهر تورا وهو أحد أفرع نهر بردى بدمشق وقد جفت مياهه وتحول لمكب للأوساخ - تصوير رانيا قطف
بيوت دمشق القديمة تتحول
مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بدأت ظاهرة تحويل منازل دمشقية، خاصةً تلك التي تقع داخل سور المدينة القديمة، إلى مطاعم ومقاهٍ وفنادق. الفكرة كما رُوّج لها حينها، كانت تكمن في إنعاش المنطقة، وتطويرها، وجذب المزيد من السياح إليها، بعد هجر الكثير من تلك البيوت من قبل أصحابها، وإهمالهم لها.
ومع مرور السنوات، ودخولنا في الألفية الثالثة، ازداد عدد هذه المطاعم والفنادق بشكل كبير، وازداد معه عدد السياح، ما شكّل مصدر شعور بالغربة بالنسبة إلى أهالي المنطقة التي اكتظت تدريجياً بالزوار بشكل عشوائي وفوضوي، ووصل إلى حد الشعور بالإزعاج، بسبب مآلات التحول نحو منطقة سياحية بشكل غير مدروس كفاية، بما يعنيه ذلك من ازدحام سكاني وبصري وسمعي. يضاف إلى ذلك تفريغ غير مباشر للمنطقة من أهلها، عبر إغرائهم ببيع بيوتهم بأسعار مرتفعة جداً لمستثمرين يرغبون في تحويلها إلى مطاعم وفنادق بهدف الربح المادي، وهو ما تحدث عنه موقع الاقتصادي في تقرير صحافي نشره منتصف عام 2011.
أحد مطاعم دمشق القديمة - تصوير رانيا قطف
في حديث دار بيني وبين المهندس المعماري نعيم زابيطة في مكتب عنبر، وهو مقر لجنة حماية مدينة دمشق القديمة، زودني بمعلومات عن الدراسات التي تمت في العقدين الأخيرين لصالح المدينة القديمة. ففي عام 2008 بدأ المخطط التوجيهي والتفصيلي بالتركيز على جميع محاور المدينة القديمة، لتحديد العمل الوظيفي لكل عقار حسب الشروط اللازمة، من بيوت سكنية، ومراكز تجارية، ومساجد، وكنائس، ومدارس.
ويكمل زابيطة حديثه فيقول: "بعد المخططات والدراسات التي قمنا بها كلها، يتغاضى بعض المالكين عنها، ويحولون منازلهم إلى مطاعم وفنادق لكونها استثماراً مربحاً، من دون الأخذ بعين الاعتبار تأثيره السلبي في المدى البعيد".
تحول 3.5% من الكتلة السكنية في دمشق القديمة إلى مطاعم ومقاهٍ وفنادق.
وبحسب مديرية دمشق القديمة، تم إحصاء عدد المحاور السياحية التي تتألف من مطاعم وفنادق ونُزُل، حلت محل الكتلة السكنية داخل أسوار دمشق، التي يبلغ عدد منازلها اليوم ما يقارب ستة آلاف منزل، وقد تحول 152 منزلاً منها إلى مطاعم ومقاهٍ، و57 إلى فنادق، أي ما يقارب 3.5% من مساحة دمشق القديمة، ما عدا النزل. وحسب تأكيدات المهندس زابيطة، يعكس هذا الرقم أعداد العقارات المرخصة فحسب.
الذاكرة الثقافية عند أهل الشام
لافتٌ اهتمام الكُتّاب والأدباء السوريين منذ سبعينيات القرن الماضي بالمواضيع التي تخص حال المدينة القديمة، والتهديد الذي يستهدف هويتها وأهلها.
فالكاتبة غادة السمّان تخاطب في كتابها "يا دمشق وداعاً"، مدينة دمشق التي لم تعد كما كانت تعرفها في ذاكرتها؛ وكأنها تدوّن تفاصيلها، من أحياء، ومتاجر، وأسماء عوائل دمشقية، لتخلق أرشيفاً خاصاً بها، بلهجتها الشامية العتيقة، ولتصون ذكرياتها التي عبّرت عنها عبر شخصية "زين" في روايتها، فتكتب بلسانها عن آلامها في مدينتها: "لكنني أعشق زقاق الياسمين... أنا مدمنة أحياء دمشق (الجوّانية)، ولا أباهي كالبعض بأنني من سكان أبو رمانة، والمالكي، وشارع القصور، وسواها من الأحياء الجديدة التي بدأ 'العمار' فيها باغتيال البساتين التي أحبّها".
وتكشف الكاتبة ناديا خوست في كتابها "الهجرة من الجنة" التناقضات كلها التي أصابت ملامح المدينة، كما تصفها بأنها لا تنتمي إلى أهلها بأي صفة. ومن المواضيع اللافتة التي ذكرتها خوست، مخاوفها من عمليات الهدم، وخسارة التراث الثقافي المرتبط بالمدينة القديمة في سبيل تحويلها إلى مدينة حيويّة تجذب السياح.
عن الموضوع كتبت أيضاً الكاتبة وأستاذة الأنثروبولوجيا في كلية ليمان وجامعة مدينة نيويورك كريستا سالامندرا، كتابها الذي صدر عام 2004 بعنوان "الوجه الجديد لدمشق القديمة A New Old Damascus"، وتناقش فيه كيف يتم تحويل المدينة القديمة من مدينة سكنية لمختلف العوائل الدمشقية، إلى منتجع سياحي للسياح والطبقات الأرستقراطية في البلد، مهددين بذلك البنية التحتية والثقافية والاجتماعية لأقدم مدينة مأهولة باستمرار في التاريخ.
تكمن خطورة ما يحدث في عدم احترام الكتلة السكانية التي تعيش في دمشق القديمة، وتُغتصب مساحتها الخاصة بشكل أو بآخر، كما أن كثيرين باتوا يفضلون الربح المادي على الطابع المعنوي للمدينة التي تحمل ذكريات الأجداد والآباء وصورهم، واليوم تضيع وراء كواليس التغيير
بندقية الشرق
في بداية هذا العام، وأنا أتجول بين حارات باب توما، التي أصبحت اليوم أحد أهم المراكز السياحية وأكثرها اكتظاظاً لكثرة المطاعم والمقاهي والملاهي والفنادق فيها، سمعت أحد السكان وهو يشكو همه لجاره، ويفصح عن تفكيره ببيع منزله بسبب حرصه على ابنته التي تعمل ممرضة، وتعود أحياناً بعد منتصف الليل بموجب عملها، وعن خوفه من أن تتعرض لمشاكل من قبل مرتادي تلك الأماكن التي باتت لا تغلق أبوابها إلا بعد منتصف الليل، خاصة أيام نهاية الأسبوع. حديث الرجل كان يفصح عن مدى إحساسه بغربته عن الحارة التي عاش حياته كلها فيها.
تكمن خطورة ما يحدث في دمشق القديمة اليوم في عدم احترام الكتلة السكانية التي تعيش فيها، وتُغتصب مساحتها الخاصة كل يوم بشكل أو بآخر، كما أن كثيرين باتوا يفضلون الربح المادي على الطابع المعنوي للمدينة التي تحمل ذكريات الأجداد والآباء وصورهم، واليوم تضيع وراء كواليس التغيير.
الازدحام في دمشق القديمة - تصوير رانيا قطف
يذكّرني ما يحدث في دمشق القديمة كله اليوم بمدينة البندقية في إيطاليا.
من خلف الضوضاء التي تميزها في الصور السياحية التي نعرفها عنها، لا بد أن تبدو ملامح الانطواء وضيق المعيشة لدى ساكنيها، فهي لم تعد ترتدي لباسها الليلي، ولا تلك الخطوات الصباحية التي تتسارع لكسب رزقها، ولا تلك الجدران التي تحكي عن عصر النهضة. بل انسلخت تماماً عن أهلها لتبقى حكراً على السياحة العالمية، إذ وضعوا بيوتهم للإيجار، وتخلوا عن جذورهم وذكرياتهم والزوايا كلها التي شهدت أحزانهم وأفراحهم، لتتحول مدينتهم إلى خشبة عرض، و"فترينة" مثيرة، لكن للسياح فحسب، وليس لأهلها وناسها، ولتعج بالمعارض مثل "بينالي البندقية"، والمهرجانات مثل "مهرجان البندقية السينمائي"، والأسواق التي تصرخ بآخر صيحات الموضة، ولتصبح من أهم المدن السياحية، وتستقطب الملايين من أنحاء العالم كل عام. لكن، وكما يشير أحد سكانها في تقرير صحافي، فإنه "من دون سياح، بالكاد قد نجد أحداً في المدينة".
صديقتي الإيطالية مارغريت، تصف البندقية بأنها لم تعد مدينتها، وتقول عن نفسها: "أنا الغريبة داخل مدينتي"، ولعل هذا هو حالنا اليوم نحن سكان دمشق، فالمدينة لم تعد تشبهنا، ولا أعلم إن كانت ستعود يوماً لتشبه نفسها، ولتحتضن أبناءها، والوافدين إليها كلهم، فهذا ما اعتادت عليه المدينة، وإنما بحب وألفة، وليس بنبذٍ وإقصاء وتشويه للهوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...