قارب فصل الصيف على الانتهاء، ليغلق مؤقتاً ملف الحرائق الذي طالت العديد من بلدان المنطقة، بعد أن تحولت دول الشرق الأوسط إلى أفران مشتعلة جراء الارتفاع الكبير في درجات الحرارة، والجفاف الذي ضرب أنهاراً رئيسية منها نهر الفرات، بالإضافة إلى حرائق الغابات والمزارع في الجزائر وتونس ولبنان وإسرائيل وتركيا، وحيث أصبحت الحواضر الكبرى المكتظة كالقاهرة، لا تطاق.
لمعرفة الآثار المدمرة للجفاف والاحترار، لا تنظر أبعد من سوريا، ففي الماضي تسبب تغير المناخ في جفاف واسع النطاق، دفع المزارعين الريفيين إلى الهجرة نحو المراكز الحضرية مثل دمشق وحلب، فزاد الضغط على الخدمات وارتفعت معدلات الفقر. وكانت تلك واحدة من أهم شرارات الثورة التي تحولت إلى حرب أهلية.
وحذر تقرير نشرته وكالة الأنباء الفرنسية "فرانس برس" في 30 آب/أغسطس 2021، من أن موجة جفاف قاسية أخرى ستضرب شمال سوريا، وتؤدي إلى توقف تام في تدفق نهر الفرات بعد انحسار مياهه، ما قد يؤدي إلى كارثة إنسانية تطال خمسة ملايين سوري، بعد انقطاع مياه الشرب والري.
وأكد مدير سد تشرين، حمود الحماديين، للوكالة حدوث انخفاض "تاريخي ومرعب" في منسوب المياه، "لم يشهده السد منذ بنائه العام 1999"، وهو ما يعني توقف إنتاج الكهرباء وانتشار التلوث البيئي على حد قوله.
الباحثون وجمعيات الإغاثة يتهمون تركيا بوقف تدفق المياه، لأن نهر الفرات يمر حيث الأكراد الذين يتركزون في الشمال السوري، وتريد أنقرة خنقهم اقتصادياً وصحياً.
لكن مصدراً دبلوماسياً تركياً قال لفرانس برس إن بلاده "لم تقدم يوماً على خفض نسبة تدفق المياه، لأسباب سياسية أو أي أسباب أخرى". متهماً التغير المناخي الذي تشهده المنطقة بالتسبب في جفاف النهر مع انخفاض معدلات الإمطار.
حقل جاف في شمال سوريا - صورة منشورة تحت رخصة المشاع الإبداعي - فليكر
ورقة ضغط سياسية
في الوقت الذي يمثل فيه "التغير المناخي" مخرجاً لتركيا للرد على اتهامات تسببها في الجفاف الذي يطال الأراضي السورية والعراقية، مع توسعها في إنشاء السدود وحجز المياه عن الدولتين، عكست الجزائر الآية إذ استخدمت الحرائق التي تسبب بها الاحتباس الحراري والتغير المناخي في حربها السياسية ضد قنابل الامازيغ الانفصالية، إذ اتهمت المعارضين السياسيين بإشعال الحرائق عوضاً عن البحث عن حلول لمشكلة ينتظر أن تتفاقم آثارها على الجزائر وفقاً لتقرير أممي.
لم تكن الجزائر الدولة العربية الأولى التي تستخدم تبعات الاحتباس الحراري في تحركاتها ضد معارضيها. إذ أدى تغيّر المناخ في مصر إلى سيول موسمية تفيض معها شوارع المدن الرئيسية، واتهمت الحكومة معارضيها من الإخوان بتشكيل خلايا إرهابية لسد البالوعات
ولم تكن الجزائر الدولة العربية الأولى التي تستخدم تبعات الاحتباس الحراري في تحركاتها ضد معارضيها. فعلي عكس الحرائق الجزائرية، أدى الاحترار والتغير المناخي في مصر، التي تندر فيها الأمطار، إلى سيول موسمية عنيفة تتكرر كل شتاء، تغرق معها المدن التي أعيد تخطيطها وإلغاء نظام صرف الأمطار فيها، فتفيض شوارع المدن الرئيسية وعلى رأسها القاهرة كل عام بالمياه الناجمة عن انسداد شبكة الصرف الصحي لارتفاع المنصرف من الأمطار عن قدرتها على الاستيعاب.
ومن البداية رفضت الحكومة المصرية الاتهامات الموجهة إليها بتجاهل مشكلة الصرف، والمطالبات المتعالية بتخصيص ميزانية لاستعادة شبكة تصريف الأمطار القديمة التي أنشأتها البلاد في ظل الحكم الملكي قبل 1952، إلا أن الحكومة المصرية أصرت أن لا مشكلة هناك، وظهر إعلاميوها ليؤكدوا أن "أهل الشر" – وهو مصطلح يستخدمه الرئيس عبدالفتاح السيسي- من الإخوان المسلمين قاموا بسد بالوعات الصرف الصحي حتى تعجز عن استيعاب الأمطار. وبالفعل أعلنت السلطات القبض على أفراد في مناسبات مختلفة، ووجهت إليهم تهمة "تشكيل خلية إرهابية لسد بالوعات الصرف".
طمع الحكام يشعل مناخ المنطقة
في تقرير كتبه الصحافي إنشال فوهرا في مجلة فورين بوليسي الأمريكية، أكد أن الأسوأ من ذلك كله، أن هذه التغييرات مجرد بداية. إذ من المتوقع أن ترتفع درجة حرارة الشرق الأوسط بمعدل ضعفي المتوسط العالمي. وبحلول عام 2050، ستكون المنطقة أكثر دفئاً بمقدار أربع درجات مئوية مقارنة بـ 1.5 درجة التي اعتبرها العلماء الحد الذي يسمح بإنقاذ البشرية. وفي بعض الدول، ومنها مصر، ستصل الزيادة إلى ست درجات مئوية.
يقول البنك الدولي إن الظروف المناخية القاسية ستصبح روتينية، وقد تتعرض المنطقة لأربعة أشهر من أشعة الشمس الحارقة كل عام. ووفقاً لمعهد ماكس بلانك الألماني، فقد تصبح العديد من المدن في الشرق الأوسط غير صالحة للسكن فعلياً قبل نهاية القرن الحالي. وقد تكون المنطقة، التي مزقتها الحروب والغارقة في الصراعات الطائفية، غير مستعدة لمواجهة التحديات التي تهدد وجودها الجماعي.
الارتفاع الحاد في درجات الحرارة من ناحية، ونقص الخدمات الأساسية من ناحية أخرى، يجعلان المنطقة مكاناً أكثر يأساً وخطورة
وتضاعفت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في منطقة الشرق الأوسط أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقود الثلاثة الماضية خاصة في ظل الحروب والصراعات المسلحة المستمرة في المنطقة، وتسبب ذلك في قلق الخبراء من أن الارتفاع الحاد في درجات الحرارة من ناحية ونقص الخدمات الأساسية، من ناحية أخرى يجعلان المنطقة مكاناً أكثر يأساً وخطورة.
وذكر جوس ليليفيلد، الخبير في مناخ الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط في معهد ماكس بلانك، لفورين بوليسي، أن الشرق الأوسط قد تجاوز الاتحاد الأوروبي في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. وأضاف: "في العديد من مدن الشرق الأوسط، ارتفعت درجات الحرارة بشكل كبير بما يزيد عن 50 درجة مئوية. وإذا لم يتغير شيء، فقد تتعرض المدن لدرجات حرارة تصل إلى 60 درجة مئوية في المستقبل، وهو ما سيكون خطيراً بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى مكيفات الهواء".
أصبحت مكيفات الهواء رفاهية حتى للأثرياء نسبياً في دول مثل إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن. هذه البلدان مثقلة بالحرب أو العقوبات الغربية أو "النخبة الحاكمة التي تخدم مصالحها". وشهدت هذه البلدان احتجاجات كبيرة ضد نقص الخدمات الأساسية مع ارتفاع درجات الحرارة والجفاف.
في العراق، دفعت الحرارة القياسية في تموز/ يوليو الماضي الناس إلى الشوارع. أغلقوا الطرق، وأحرقوا الإطارات، وحاصروا محطات الطاقة التي كان على القوات المسلحة تأمينها. ومن المفارقات أن البصرة الغنية بالنفط في جنوب العراق تواجه أطول فترات انقطاع للتيار الكهربائي، وكانت مركز التظاهرات التي قتل فيها ثلاثة عراقيين على الأقل.
في لبنان، حدث سيناريو مماثل خلال شهر آب/أغسطس. اللبنانيون يتصارعون مع أزمات لا تحصى، وهم محبطون من تقاعس النخبة السياسية. ومع تضاؤل إمدادات الوقود، ظهرت مشاهد من الفوضى في جميع أنحاء البلاد.
وتشبثت الطبقة السياسية في لبنان بالسلطة ورفضت الشروع في إصلاحات لتطوير قطاع الكهرباء المدعوم. يقول الخبراء إن لبنان لديه إمكانات هائلة لجعل قطاع الكهرباء مربحاً وذلك من خلال الاستفادة من طاقة الرياح والشمس الوفيرة.
رصدت الإيكونوميست البريطانية أن ضغط المياه قد ارتفع مؤخراً في الجزائر العاصمة حيث يوجد القصر الرئاسي والسفارات الأجنبية، فيما جفّت الصنابير في الضواحي، أثناء ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، ما أشعل احتجاجات واسعة
في عام 2017، سجلت إيران أعلى درجة حرارة رسمية في المنطقة بلغت 54 درجة مئوية (129.2 درجة فهرنهايت) وعبرت 50 درجة (122 درجة) الشهر الماضي. وجعلت موجات الجفاف المتكررة محطات الطاقة الكهرومائية في البلاد غير قادرة على تلبية احتياجات المواطنين. في تموز/ يوليو الماضي، اندلعت احتجاجات في مدن مختلفة في إيران، وهتف بعض المتظاهرين "الموت للديكتاتور" و "الموت لخامنئي"، في إشارة إلى آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى لإيران وأقوى رجل في البلاد.
في اليمن، يبلغ نصيب الفرد السنوي من المياه 120 متراً مكعباً فقط، مقارنةً بحصة الفرد في العالم البالغة 7500 متر مكعب. قبل الحرب، فرضت وزارة المياه اليمنية شروطاً على حفر الآبار، لكن خلال الصراع، كان من المستحيل مراقبتها. على مدى العقد الماضي، استنفد اليمن بسرعة موارده الشحيحة من المياه العذبة.
في الجزائر العاصمة حيث يوجد القصر الرئاسي والسفارات الأجنبية، رصدت مجلة الإيكونومست البريطانية أن ضغط المياه قد ارتفع مؤخراً. وفي الضواحي جفت الصنابير في الشهر الماضي أثناء ارتفاع استثنائياَ في درجات الحرارة، فأغلق المحتجون الطرق الرئيسية والسكك الحديدية.
صورة بالأقمار الصناعية لحرائق الغابات في الجزائر خلال أغسطس/ آب 2021- منشورة تحت رخصة المشاع الإبداعي - فليكر
حكامنا يبحثون عن الأرباح
في عام 2019 حذر تقرير لمجلس ذا أتلانتك الأمريكي من أن الحكومات في المنطقة وشركاءها الدوليين لم يفعلوا الكثير في سبيل دمج التغير المناخي في إستراتيجياتهم، للتخفيف من عدم الاستقرار والصراعات. وينبغي لهم أن يستعدوا لشرق أوسط يؤدي فيه الاحترار الزائد إلى تكثيف الاضطرابات، وإضعاف قدرة الدولة، وإثارة صراعات جديدة على الموارد.
الأخطر أن العديد من الدول العربية تعرقل الجهود التي تستهدف خفض الانبعاثات، إذ تخشى أن تؤدي خطط زيادة إنتاج الطاقة المتجددة إلى تقليل الاعتماد على النفط الذي يعد مصدر دخل دول الخليج والعراق وليبيا والجزائر. بل صدرت تعليقات علنية من وزير النفط السعودي يقطع فيها بأن المملكة لن تتوقف عن الإنتاج حتى آخر نقطة بترول، من دون اكتراث للأثر البيئي لتلك السياسة.
تهديدات وزير النفط السعودي، شقيق ولي العهد الحالي، لم تتوقف عند التصريحات، بل تتخذ خطوات تنفيذية على الأرض. ففي 2019، عرقلت السعودية تبني تقرير أممي يتعلق بالتغير المناخي، عبر تشكيكها بتقييم سابق للأمم المتحدة يؤكد على ضرورة خفض الانبعاثات الكربونية التي يتسبب بها حرق الوقود الأحفوري. ولم تكن هذه العرقلة هي الأولى في تاريخها إذ اتخذت المملكة هذه الخطوة في أعوام 1992 و1996 و2007.
ومع ذلك حاولت السعودية التعامل مع هذه القضية بإيجابية بسبب الحملة الكبيرة التي تعرضت لها من المنظمات الصديقة للبيئة، إذ وقعت على اتفاقية باريس للمناخ قبل يوم واحد من دخولها حيز التنفيذ في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016. وفي أيلول/ سبتمبر 2017، استضافت الرياض، النشاط الإقليمي للتوعية بتغير المناخ، ومع ذلك يشكك الباحثون في هذه الخطوات ويعتبرونها قليلة بالمقارنة مع حجم الانبعاثات.
دول عربية تعرقل الجهود التي تستهدف خفض الانبعاثات، إذ تخشى أن تؤدي خطط زيادة إنتاج الطاقة المتجددة إلى تقليل الاعتماد على النفط الذي يعد مصدر دخل في دول الخليج والعراق وليبيا والجزائر
وقال تقرير فورين بوليسي إن بلدان المنطقة تحكمها حكومات غير فعالة، أو مستبدون أو رجال دين. ولديها بنية تحتية متداعية للطاقة، وأوجه قصور هيكلية عميقة الجذور تمنع الترويج والابتكار التكنولوجي في مجال الطاقة المتجددة.
ويقول الخبراء للمجلة إن الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تعزز المؤسسات وتشجع الشركات على التفكير بحرية، باتت ضرورية للحد من انبعاثات الكربون وضمان التحول إلى الطاقة النظيفة في الشرق الأوسط.
وأضاف: "هناك عدد قليل من الاتفاقات الثنائية العابرة للحدود بشأن المياه، ولا توجد اتفاقات للأنهار المشتركة بين بلدان المنطقة.وقال يوهان شار، زميل أول مشارك في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام لفورين بوليسي، إن التعاون الإقليمي يمكن أن يخفف من أزمة المياه ويقلل من انبعاثات الكربون في المنطقة.
وحذر ليليفيلد من زيادة الهجرة بسبب تغير المناخ قائلاً: "تغير المناخ وما يترتب عليه من زيادة في الظواهر الجوية الشديدة، تزيد التحديات الناجمة عن الصراعات الإقليمية، مما يؤدي إلى حوافز إضافية للأشخاص للهجرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...