ستراتهن المميزة حفظت مكانها فوق أجسادهن، يحملن في أيديهن "المقشة"، التي لا ترفع أطرافها عن سطح الطريق إلا بقدوم وقت الراحة، يجلسن على الرصيف، يتناولن طعامهن البسيط ليستكملن رحلتهن مع كنس شوارع، وطرقات المدينة الساحلية الصغيرة.
على اختلاف أعمارهن، وأجسادهن، يجمعهن النقاب، غطاء الوجه الأسود الذي يخفي ملامح كل واحدة منهن لأسباب خاصة.
تأملتهن لأيام من خلف نافذة بيتي، في الحي الأول بدمياط الجديدة، مدينة مصرية تطل على ساحل البحر المتوسط، وتساءلت: لماذا يخفين وجوههن؟ ما هي الحكايات التي يخفينها خلف تلك الأقمشة السوداء، هل هن متدينات ومتشددات، أم يشعرن بالعار من عملهنّ؟ من هنّ أصلاً؟
اقتربت منهن ذات صباح، وأنا أهديهن بعض الطعام والماء، أدهشتني مكالماتهنّ الهاتفية، وحكاياتهن الصباحية، ومشاكساتهن أو اختلافاتهن حول عطية منحها لهنّ أحد المارة.
فقررت أن أزيح النقاب عن وجوههن ولو بشكل مجازي، وأستمع لحكاياتهنّ، وأسرارهن التي يحاولن إخفاءها بأزياءهن، ونقابهنّ.
"بنشيل زبالة الناس"
أم يوسف، هكذا عرفتني بنفسها، وهي تقبض علي يد مقشتها الخشبية بكلتا يديها، واضعة الهاتف فوق أذنها، مستعينة بغطاء رأسها، ونقابها الأسود لتثبيته، قطعت عليها استرسالها في سرد مشكلة عائلية لإحداهن، وطلبت أن أختصر كلامي معها، فاستشعرت الخجل، وتوقعت أن ترفض الحديث، ولكنها فاجأتني بود كبير، وهي تقول لمحدثتها: "اقفلي يا بت هاكلمك بعدين".
منحتني كل انتباهها.
عرفت منها أنهنّ يعملن لدى شركة نظافة خاصة، "تشحنهن" على حد تعبيرها في أتوبيسات في السادسة من صباح كل يوم، تنقلهنّ من قريتها الصغيرة في مدينة بلقاس التابعة لمحافظة الدقهلية، ليتم توزيعهن على شوارع دمياط الجديدة، ليعملن حتى الثانية ظهراً.
ثم يتم "شحنهن" مرة أخرى في نفس الأتوبيس، الذي يرجع بهنّ من حيث أتى. يتقاضين كل شهر 1600 جنيهاً (101 دولار) وهو ما يعني أن أجرهنّ في اليوم بضع وخمسون جنيهاً فقط (أي لا يتجاوز الأربع دولارات).
ثماني ساعات تحت صهد الشمس، وفي عزّ البرد والمطر، يجبن الشوارع بحثاً عن رزق حلال يجنينه بالتعب والجهد، ولكن لماذا النقاب؟ هل هو التزام ديني؟ أم أخلاق تفرضها تقاليدهنّ؟
تقول أم يوسف: "ده عشان ماحدش يعرفنا، بنريح دماغنا من كلام الناس، الناس في البلد فاكرين الأتوبيسات بتاخدنا لمصانع زي غيرنا، ما يعرفوش إننا بنيجي يتقطم وسطنا في الشارع كل يوم، ونشيل زبالة الناس".
"باخرج من بيتي منقبة، وامشي كل يوم اتنين كيلو على رجلي عشان آخد الأتوبيس من بلد تانية، ما حدش يعرفني فيها، عشان أهل البلد ما يعايروش بناتي بشغلانتي"
"وطالما متضايقة من شغلك ليه مكملة؟"
سؤال اعتراضي طرحته على أم يوسف، التي تخطى عمرها الأربعين بقليل، فقالت: "إيه اللي رماك ع المر يا أبلة... جوزي سابني وطفش من سنتين ماعرفلوش طريق، وعندي ولد صغير وبنتين خلصوا دبلوم وبيشتغلوا، واحدة في محل ملابس، والتانية في عيادة دكتور، ويادوبك اللي بيجيبوه بيكفيهم، كان لازم أدور على جنيه حلال أسندهم بيه".
"عشان ماحدش يعايرهم إن أمهم بتنضف الشوارع وتلم زبالة الخلق، والقالهم عريس كويس؛ بامشي كل يوم اتنين كيلو على رجلي عشان آخد الأتوبيس من بلد تانية، ما حدش يعرفني فيها، عشان أهل البلد ما يعايروش بناتي بشغلانتي".
"لبست النقاب وارتحت"
حديثي مع أم يوسف فتح شهيتي للتواصل مع امرأة أخرى، على ما يبدو أن كل منهن لها سبب مختلف لارتداء النقاب، لم يرتدينه تديناً كما يظن الرائي من النظرة الأولى، ولا لإخفاء هوياتهن كالمتسولات كما هو شائع.
في الشوارع الجانبية لمنزلي بحثت عن عاملة نظافة أخرى، حاولت أن أختار في هذه المرة، فتاة شابة، أصغر سناً، في محاولة مني للبحث عن تفاصيل حكاية مختلفة.
تحدثتُ مع هدى، هكذا اختارت اسماً وهمياً بعد أن رفضت أن تصرح لي باسمها الحقيقي، وأخبرتني أيضاً أن عمرها (25 عاماً)، وأنها من مدينة جمصة، الواقعة بمحافظة الدقهلية أيضاً.
حكت لي هدى أنها أرملة، توفي زوجها شاباً منذ عام ونصف، ولأنها لم تنل من التعليم ما يكفي لم تجد غير ذلك العمل يضمن لها دخلاً يساعدها في توفير بعض نفقاتها هي وابنها الصغير.
سألتها عن النقاب، فأجابت: "أنا صغيرة، والناس بتقول إني حلوة، وعشان أرملة فيّ الطمع، وبقيت اتعرض لكلام كتير من الناس في الشارع أو من شوية من اللي شغالين معايا، كنت بازعل واتخانق، ولما حسيت إن أكل عيشي هايتقطع، شكيت لواحدة صاحبتي، فقالت لي البسي النقاب وداري وشك، فعملت كده وارتحت".
على عكس أم يوسف، لا ترى هدى في تنظيف الشوارع عيباً، فهي مهنة شريفة كغيرها، تقول بنغمة واثقة: "الناس كلها عارفة، وهاخبي ليه؟ دي شغلانه شريفة يا أبلة ماتعرّش حد، مش أحسن ما أقف أشحت، أو امد إيدي للخلق واستلف".
ثم استرسلت قائلة: "على فكرة أنا ماباخدش حاجة من حد زي غيري، أنا لازم أربي ابني بالحلال مش بالشحاتة (التسول)".
لم أستطع أن أخفي إعجابي بعزة نفس هدى وتصالحها مع الواقع، لكنني أيضاً لم أستطع أن أخفي غضبي من تقاليد وسلوكيات ذكورية ظالمة، لم تتركها تمارس عملها الشريف بحرية، وأجبرتها على كتم أنفاسها، وإخفاء ملامحها فقط لتجني رزقها بلا مشاكل.
بعد أيام قليلة اكتشفت أن شوارع مدينة دمياط أيضاً تنظفها النساء المنقبات، توقفت بالقرب من امرأة ممتلئة الجسد، جلست على رصيف الكورنيش، تتناول بضع لقيمات فقيرة في استراحة الغداء على ما يبدو.
امتلاء جسدها الملفت جعلني أتساءل: كيف تستطيع الحركة في الشوارع بدأب لمدة 8 ساعات يومياً؟
أجابت "ربك بيعين"، عرفت منها أن اسمها أم سيد من مدينة شربين، التابعة لمحافظة المنصورة المجاورة، عمرها خمسون عاماً، لم تتزوج. اعتلت الدهشة وجهي، ففهمت بفطرتها السبب، وأجابت بلا سؤال وهي تضحك: "أبويا سماني كده، الله يسامحه أعمل له إيه؟ واديني لا شوفت سيد ولا أبوه"، ضحكَت.
خفة دمها الملفتة جعلتني أسألها عن سبب ارتدائها النقاب، دون تردد كما فعلت مع الأخريات، وهل هو خوفاً من التعرف على هويتها أو منعاً لتحرش المارة بها، فتعالت ضحكاتها، وهي تقول: "هوية إيه وتحرش إيه بس، أنا لبساه عشان وشي مايسودش من الشمس يا أستاذة".
"لبست النقاب وارتحت"
قبل أن أهم بالانصراف، جذبتني أم سيد نحوها وقالت: "مش انتِ بتقولي إنك صحفية، خلى البلد تهتم بينا شويه، من كام شهر واحدة زميلتي قاعدة زي حالاتي تحت شجرة تاكل لقمة تسندها، عيل طايش ابن امبارح، اتقلب بعربيته فوقها، ماتت يا حبيبتى وأهلها لا أخده حق ولا باطل، احنا ناس برضه يا أستاذة ولينا أهل".
شعرت أن أم سيد تخفي وجعها بضحكاتها لتنسى واقعها الأليم، ابتسمت، وانصرفت صامتة.
بحثت عن صاحب الشركة الخاصة التي يعملن لديها، فلم أصل إلا للمسؤول عنهن، أحمد عبد الدايم، عرفت أنه وأصحاب الشركة من أبناء دمياط، فسألته لماذا تجلبون العمالة من المحافظات المجاورة إذن؟
فأجاب: "عشان ببساطة ماحدش في دمياط قبل يشتغل الشغلانة دي، الدمايطة أغلبهم صنايعية، حتى الستات لما بتشتغل بتشتغل في البيت، مالهمش في شغل الشارع، فاستعانّا بأبناء المحافظات المجاورة، وخصوصاً القرى الفقيرة، العمل شاق، ووقفة الشارع مش سهلة على أي حد".
"ليه الستات؟".
"إحنا بنشغل ستات ورجالة على فكرة، بس الرجالة بتشتغل على سيارات نقل القمامة، وجمعها من الصناديق الحديدية، والذهاب بها إلى المقالب المعروفة".
"وقررنا إن تنظيف الشوارع يقتصر على السيدات، عشان عندهم ضمير شوية".
"وليه النقاب سمة مشتركة بين كل العاملات؟".
أجاب عبد الدايم: "دي مسألة شخصية لم تتدخل فيها الشركة أبداً، مش مهم عندنا إلا السترة الخاصة بالشركة، اللي الستات بيلبسوها فوق ملابسهم، أما نقاب وغيره فلا يعنينا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون