أكثر من 400 عام، هو عمر منطقة "العتبة" بالقاهرة، كانت خلالها، واقعة تحت ضغط وحدة التحولات التي شهدتها مصر. لكن صورة العتبة، طالما كانت مضاءة مزهرة، بمعالمها الثقافية المتنوعة، والحدائق والأشجار التي تحيط بميدانها، وأسواقها التي كانت تضاهي أسواقَ باريس، في تصميمها، وأناقتها. اختفت هذه الصورة الملونة، تحت تراب الحرائق المروعة التي شهدتها العتبة في السنوات الأخيرة، وتحت أقدام الباعة الجائلين الذين يبحثون عن "لقمة عيش" وسط الخراب.
تختزن العتبة كثافة تاريخية هائلة، وهذه الكثافة جعلتها تمثل ثقلاً كبيراً كإحدى أهم مناطق القاهرة، بل هي نقطة الأصل، فمن ميدانها الشهير بالعتبة الخضراء، والذي إليه تُقاس المسافات على الطرق السريعة، وقد وصفها الكاتب والمؤرخ عباس الطرابيلي بـ"صرّة العاصمة" في كتابه "شوارع لها تاريخ... سياحة في عقل الأمة"، فهي ملتقى الكثير من الشوارع الهامة، من شارع عبد العزيز، والقلعة، والأزهر، إلى شارع الجيش، والأزبكية، والأوبرا.
ووفقاً للموقع الرسمي لمحافظة القاهرة، يرتبط تاريخ العتبة بأرض الأزبكية، حيث كانت جزءاً أصيلاً منها، قبل أن يتلاشى اسم الأزبكية، جراء عمليات التخطيط الكثيرة التي تعرضت لها المنطقة، والتي أدت إلى الصعود الكبير للعتبة، في مقابل تضاؤل دور الأزبكية كعمق ثقافي وتاريخي لمصر.
ويسرد عباس الطرابيلي في كتابه سابق الذكر، قصةَ تخطيط منطقة العتبة، حيث يقول إنه ثمة بركتان كانتا ملء السمع والبصر في القاهرة، في عصر محمد علي الكبير؛ الأولى بركة الفيل، والثانية بركة الأزبكية، وهي ما تبقى من بركة بطن البقرة، ويرجع اسمها إلى الأتابك أزبك بن ططخ الذي قام بتعميرها بعد أن كانت منطقة خربة. سكن الأمير أزبك بجوارها بعد أن أزال منها تلال القمامة، ومهد الأرض، وجدد حفر البركة، وبنى رصيفاً حولها.
قال الخديوي لهوسمان: أريد الأزبكية قطعةً من باريس، تجمع بين جمال حدائق الغابة السوداء (غابة بولونيا) بباريس وبين منطقة أوبرا باريس والأحياء التجارية حولها
وقد شجعت هذه العمليات الأهالي، فانطلقوا يبنون حولها بيوتهم لتتحول الأزبكية إلى حيّ كبير، تسكنه البرجوازية القاهرية. ثم أنشأ الأمير أزبك مسجداً كبيراً، وانتشرت حوله الحمامات والطواحين والربوع (جمع "ربع")، وهذه تذكرنا بمنطقة "تحت الربع" القريبة من ميدان العتبة.
أما اسم العتبة فله قصة شهيرة؛ عندما دخل العثمانيون مصر عام 1517، أقاموا الخيام حول بركة الأزبكية، ثم بنى رضوان كتخدا، أحد كبار أمراء المماليك، قصراً كبيراً على الحافة الشرقية للبركة في نفس موقع بيت الدادة الشرايبي تاجر البن الشهير، وكان هذا القصر يُعرف باسم "الثلاث ولية". ثم عُرف باسم "العتبة الزرقاء"، وهي الدار التي آلت بعد ذلك إلى طاهر باشا ناظر الجمارك، في عهد محمد علي، ثم إلى عباس حلمي الأول -ثالث الولاة من أسرة محمد علي والذي حكم مصر بين عامي 1848 و1854-، وقد هدمها عباس حلمي وأعاد بناءها، وأمر بتلوين عتبة داره باللون الأخضر، وأطلق عليها اسم "العتبة الخضراء"، لأنه كان يتشاءم من اللون الأزرق، أي أن الأصل هو ميدان "العتبة الزرقاء" قبل أن تصبح العتبة الخضراء في عهد عباس حلمي الأول.
وفي عهد الخديوي إسماعيل تمّ تكليف المهندس الفرنسي الشهير هوسمان، بإعادة تخطيط منطقة الأزبكية، وأصبحت هذه الدار في وسط الميدان، الذي اُطلق على جزء منه اسم "العتبة الخضراء"، وعلى الجزء الآخر "ميدان أزبك". وفيما بعد أصبح هذا القصر مقراً للمحكمة المختلطة، في عهد وزارة نوبار باشا، قبل أن يتم هدمه نهائياً أثناء إحدى عمليات توسيع الميدان.
النهضة الثقافية والتطور الحضاري الكبير الذي شهدته العتبة كان في عهد الخديوي إسماعيل، فبحسب الطرابيلي: "لم يكن هدف الخديوي إسماعيل مجرد تجميل منطقة الأزبكية (العتبة حالياً)، بل كان يُخطط لتحويلها إلى دُرّة ومنارة للعاصمة، ولهذا كلف المهندس الفرنسي الشهير في تخطيط المدن (هوسمان)، بتخطيط منطقة الأزبكية. وقال الخديوي لهوسمان: أريد الأزبكية قطعةً من باريس، تجمع بين جمال حدائق الغابة السوداء (غابة بولونيا) بباريس وبين منطقة أوبرا باريس والأحياء التجارية حولها. وبالفعل خصص هوسمان مساحة كبيرة من الأزبكية، لتصبح على غرار غابة بولونيا في قلب باريس، وعهد بتخطيطها إلى المهندس الفرنسي باريلي ديشان بك. وقد تم ردم بركة الأزبكية عام 1864".
وأنشئت حديقة الأزبكية التي تطل على ميدان العتبة عام 1872، وكجزء من تعمير هذه المنطقة تم إنشاء دار الأوبرا المصرية عام 1869، ثم أقيم تمثال إبراهيم باشا –والد الخديوي إسماعيل- في منتصف الميدان، ونفذه المثال كورديه.
وفي نفس عام تأسيس دار الأوبرا المصرية، أنشئت أسواق العتبة، حيث أمر الخديوي إسماعيل بإنشاء سوق مبنية بالأحجار على مساحة واسعة ومسقوفة بالكامل، مقلداً بذلك الأسواق الحديثة في باريس وتركيا في ذلك الوقت. وأصبح الميدان يضمّ أشهر وأكبر المحلات منها: فيتيل، وليبتون، بالإضافة إلى البازارات ومحلات المانيفاتورة والرهونات التي كان يملكها اليهود.
يرتبط تاريخ العتبة بأرض الأزبكية، حيث كانت جزءاً أصيلاً منها، قبل أن يتلاشى اسم الأزبكية، جراء عمليات التخطيط الكثيرة التي تعرضت لها المنطقة
ومما ضاعف من أهمية ميدان العتبة هو أنه كان نقطة انطلاق "الترامواي" إلى جميع أنحاء العاصمة؛ ففي 12 آب/أغسطس عام 1896، فتحت عربات الترام أبوابها أمام الجموع الغفيرة من الجماهير في احتفال مهيب. وقديماً كان يعد الميدان أحد أهم المراكز الثقافية في مصر، ففي محيطه يقع المسرح القومي ومسرح الطفل والعرائس، وغيرها من المسارح التي تم إزالتها، ويتفرع من الميدان شوارع ومناطق تجارية كبيرة، حيث تمتلئ المنطقة بمحلات الملابس والأقمشة والتحف والنجف.
انطفأت ألوان العتبة الخضراء، وضاعت معالمها البارزة، وانمحى وجه العتبة الزاهي، تحت وطأة الإهمال، والجهل بالأهمية الكبيرة لتلك المنطقة، فهذا التاريخ الزاهر، لم يبق منه اليوم شيء يذكر، حيث نالت منه الحرائق الكثيرة، وكانت بدايتها مع حريق دار الأوبرا المصرية عام 1971، حيث تحولت إلى مرأب سيارات متعدد الأدوار، ثم توالت الحرائق في المحلات والعمارات ذات الطراز الفريد.
وعن التحولات التي لحقت بالعتبة وأهميتها التاريخية، قال الدكتور محمد عفيفي رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة القاهرة والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، لرصيف22: "العتبة منطقة تاريخية وثقافية هامة، ولعل أهميتها الكبيرة، تكمن في كونها كانت في زمن مضى، نقطة الوصل بين القاهرة المعزية والخديوية، كما أن قربها من قصر عابدين، الذي كان مقراً للحكم في مصر، قد ساهم في فرض قوتها، وسيطرتها، وجعلها محط أنظار المسؤولين". ورأى عفيفي أن أهمية العتبة كعاصمة للقاهرة، قد بدأت في الخفوت والتواري، بعد انتقال مقر الحكم إلى قصر القبة.
اختُصرت العتبة اليوم وتحجم دورها، وأصبحت عبارة عن سوق كبير للملابس الرخيصة، يعج بالباعة الجائلين الذين يفترشون الأرصفة ببضائعهم من ملابس وأحذية، وحقائب، ومستلزمات البيوت. وللوصول إلى هذه السوق، يقطع المصريون الذين يأتون من كافة أنحاء الجمهورية، وخاصة الفقراء منهم، رحلة شاقة ومضنية لشراء مستلزماتهم، فإن خرج المرء من محطة العتبة سالماً، دون أن يفقد ذاته، فهذا يعد نجاحاً كبيراً في محطة يقصدها الآلاف من البشر.
بعد الخروج من المحطة، سيكون أمامنا تحدٍّ آخر، وهو تخطي منطقة سور الأزبكية، الذي يُشبه عنق الزجاجة، وهو مركز تجمع بائعي الكتب القديمة، وقد تم تقليصه إلى النصف وربما أكثر. فور الخروج من ممرّ السور، نجد كافة أنواع البضائع معروضة بأسعار زهيدة. إنها، ولا شكّ، رحلة زاخرة بالغبار والعرق، والصخب. مهرجان خاص بالفقراء الذين أصبحت العتبة ملاذهم الوحيد السعيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين