منطقة وسط البلد أو القاهرة الخديوية (نسبة لمؤسسها الخديوي إسماعيل) لا ينتهي منها السحر. إنها قادرة دائماً على إبهاري، فهي وإن كانت حديثة زمنياً_عمرها يزيد عن المئة والخمسين عاماً_ بالنسبة لتاريخ مصر الموغل في القدم، لكننا نجد فيها دوماً الجديدَ والذي يبوح لنا بأسرار الإنسان المصري عبر العصور، وكأن منطقة وسط البلد في قلب العاصمة القاهرة حملت بداخلها كلّ التاريخ المصري. في شارع عدلي في وسط البلد يقع المعبد اليهودي وهو مبنى صغير نسبياً، قياساً بالمباني من حوله.
و كان يطلق على هذا المبنى قديماً معبد الإسماعيلية نسبة إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً)، أما اسمهه الرسمي "بوابة السماء". والمرور من بوابة السماء ليس سهلاً، فأمامه قوة أمن متمركزة بشكل دائم، والدخول إليه يستلزم بعض التصاريح.
يشبه المبنى من الخارج المعابدَ المصرية القديمة، فهو كتلة واحدة شكلت في الفراغ، ويبدو أنه صغير الحجم، ولكن لو أغمضنا أعيننا للحظات، وعدنا إلى الوراء في أوائل القرن العشرين، لرأيناه منفردًا، تحيط به الحدائق، فلا وجود للعمارات الشاهقة والأبراج التي تحجب الشمس.
في قاعة الاجتماعات في المعبد، والتي كانت في السابق قاعة للاحتفالات، كان اللقاء مع السيدة ماجدة هارون رئيس الطائفة اليهودية في مصر، ومعها السيد سامي إبراهيم نائب رئيس جمعية "قطرة اللبن"، والمعنية بالحفاظ على التراث اليهودي.
وتحوي هذه القاعة العديد من المقتنيات، والتي يصعب تصويرها حتى لا تؤثر عليها أضواء الكاميرا، إلا أنه تم تصوير أحد الأبواب الأثرية والتي تحمل شعار الطائفة اليهودية بالقاهرة (النخلة)، وهذا الباب تم شراؤه من أحد تجار "الروبابيكيا"، وقد تم ترميمه في ما بعد.
كل شيء هنا تم الإنفاق عليه بسخاء، وهذا للتأكيد على قوة الطائفة اليهودية آنذاك، وليتواجد اليهود في أماكن معينة حول المعبد حتى يستطيع من يريدون الصلاة يوم السبت أن يأتوا إلى المعبد سيراً على الأقدام
في الغرفة هناك منصة صغيرة، كانت مثاراً للدهشة، كما حكت لنا السيدة ماجدة هارون، حيث أن بها نقوشاً آسيوية، وتحمل أيضاً شعار الطائفة في القاهرة. وبعد ترميمها، وجدوا اسم "فرانكلين" مكتوباً عليها، وهو اسم عائلة أول مخرج مصري أخرج فيلماً للرسوم المتحركة في مصر، واشتهرت بابتكارها لشخصية "مشمش". اشتهرت عائلة فرانكلين بالنجارة وصناعة الأثاث، وكانت هذه المنصة من صناعتهم.
يوجد أيضاً في الغرفة العديد من الصور لرؤساء الطائفة في القاهرة، وصورة كبيرة الحجم لقطاوي باشا، وهو الذي أمر ببناء المعبد عام 1902، وكان وزيراً للمالية، ورئيساً للطائفة اليهودية، وهو مصري من عائلة مصرية، ومن أوائل اليهود الذين أصروا على الخروج من حارة اليهود في الموسكي، لكي يعيش ويتعامل مع كل الطوائف، فلم تكن حارة اليهود في مصر غيتو مغلقاً على اليهود لحمايتهم، بل مكاناً قريباً من المعبد لممارسة الطقوس الدينية.
من المقتنيات الطريفة والتي كان من الصعب تصويرها كرسي عالي الارتفاع صغير الحجم وبجواره كرسي أصغر منه موضوعاً على الأرض، ويسمى هذا "كرسي الطهور" أو الختان، حيث يجلس الطفل على الكرسي العالي إن كان كبيراً بعض الشيء. أما إن كان طفلاً رضيعاً فيضعونه على الكرسي الصغير، ثمّ يوضع هذا الكرسي فوق الكرسي الأكبر، وذلك لأن ختان الذكور في العقيدة اليهودية طقس ديني مهمّ وتقوم له احتفالات دينية.
يستقبلنا باب المعبد، وهو باب خشبي ضخم ذو مصرعين وعليه زجاج ونقوش نحاسية، ويوجد عليه شعار الطائفة (النخلة). البلح الموجود في هذه النخلة أشبه بثمرة الرمان، حيث أن للرمان مكانة خاصة في الاحتفال برأس السنة اليهودية.
وبجوار المعبد هناك نقش نحاسي طولي اسمه "المزوزا"، وهو يشبه المعوذتين في الديانة الإسلامية، ويجب على الداخلين إلى المعبد أن يضعوا عليه أيديهم للتبرك أثناء الدخول.
قاعة العبادة في الداخل ليست كبيرة، ويوجد بها مقاعد خشبية شبيهة بمقاعد الكنائس. تسع هذه القاعة لأربعمائة وخمسين شخصاً، وقد كُتب فيها أسماء بعض الأشخاص على النحاس، إذ كان باستطاعة من يرغب أن يؤجر لنفسه مقعداً دائماً لمدة عام، ويتحدد سعر هذا الإيجار حسب قرب المقعد من الهيكل.
وعلى الحوائط ثمة قائمة بمن قاموا للتبرع للمعبد، وهي قائمة تمت كتابتها على حسب قيمة التبرع المالي، على شكل ألواح الوصايا العشر، ومكتوبة باللغة العبرية، ويوجد بها مكان فارغ، ليتمكن من يقوم أحد بالتبرع من كتابة اسمه في المكان الفارغ.
الطابق العلوي للمعبد مخصص للسيدات، ولا يظهر منه أي شيء، فهنا لا يجب أن تختلط النساء بالرجال ولا أن يروهنّ إطلاقاً
من الممنوع إقامة أي احتفالات داخل قاعة المعبد، فهي مكان مخصص للعبادة فقط، والاحتفالات، سواء الأفراح أو الجنازات، كانت تتمّ في القاعة الخارجية.
الهيكل متجه للشرق ناحية فلسطين، وأمامه يوجد المنبر الذي يقف فيه الحاخام. خلف الهيكل توجد اللفائف التي تحتوي على التوراة، وهي مكتوبة على رقائق من جلد البقر، وأغلبها نذور للمعبد من بعض الأشخاص، وكانت تتم الكتابة عليها بواسطة أحد الأشخاص. بعد أن يدبغ الجلد ليصبح جاهزاً للكتابة، تُكتب عليه النذور بدون أخطاء أو شطب، وإلا فكان عليهم أن يعيدوا كتابتها من جديد. وبعد أن تنتهي الكتابة يقوم الكاتبُ بخياطتها بعضاً ببعض، لتصبح لفائف.
يتميز المعبد بالشبابيك ذات الزجاج المعشق الملون، وتتألق فيها نجمة كبيرة الحجم هي نجمة داود. وهذه النجمة لا تتقاطع، بل تتداخل مع بعضها، كرمز للانهائية.
أما الأعمدة الموجودة بالداخل فهي رخامية تمّ استيرادها من فرنسا، والكتل الرخامية من إيطالية، وهي تشبه الأعمدة الفرعونية. والطابق العلوي للمعبد مخصص للسيدات، ولا يظهر منه أي شيء، فهنا لا يجب أن تختلط النساء بالرجال ولا أن يرهونّ إطلاقاً.
كل شيء هنا تم الإنفاق عليه بسخاء، وهذا للتأكيد على قوة الطائفة اليهودية آنذاك، وليتواجد اليهود في أماكن معينة حول المعبد حتى يستطيع من يريدون الصلاة يوم السبت أن يأتوا إلى المعبد سيراً على الأقدام، فمن المحرم على اليهودي المتدين حتى أن يركب في هذا اليوم.
معبد بوابة السماء إلى جانب مجموعة من البنايات يقف شاهداً على القاهرة "الكوزموبوليتان"، حيث جميع الأعراق وأصحاب الديانات كانوا يتعايشون في سلام، وعلى جمال يبدو أنه ولّى ولكنه باقٍ بين ثنايا ذاكرة المباني القديمة التي لو تحدثت لقالت لإنهم كانوا هنا يوماً ما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...