شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"العلوي الخائن"... يوم طردني المدرّس لأني لم أتعلم الدين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 2 سبتمبر 202102:52 م

أن تعيش في مجتمع أقليات مغلق، يعني أن تعيش في سجن دائم، وتحت مراقبة دائمة. مهما كانت الملّة التي تنتمي إليها متحررة، أو منفتحة، فأنت دوماً تحت المراقبة، كي لا تذرّ تراصّ الجماعة، ومعتقداتها. وعليك دوماً أن تقدم تبريرات لأهليتك، للعيش بينهم، من قبل المجتمع، و"كباريته"، الذين يظن كل منهم أنه حامي حمى الطائفة، والخائف على مصلحتها، ومن فوقهم الشيوخ، وأتباعهم من متعلّمي الديانة الباطنية، في حال وُجدت.

ولدتُ في مجتمع أغلبه علوي، في طائفة تحاول، باستمرار، أن تثبت لغيرها أنها جديرة بالحياة، وأنها ليست من المغضوب عليهم، أو الضالين. ولأن أبي كان ملحداً، لم أتلقَ توجيهات دينية، كما غيري من الشبان، في سن المراهقة. كان عليّ أنا أيضاً، أن أبرر، وأثبت، لمحيطي ومجتمعي، بدءاً من رفاقي، وصولاً إلى أهاليهم، أني جدير بالحياة والتعامل معهم.

لم أحظَ بفرصة حظيَ بها كثيرون، من شبان الطائفة، كي يفاخر أبي في جَمعة الرجال بأن ابنه قد تعلّم الدين العلوي من صغره، وأًصبح "رجلاً"، ولم أحضر يوماً مناسباتٍ دينية علوية، وأعياداً، وأدخل على شيخ، وأعطيه مبلغاً مالياً، بحجة الزكاة، كي يعلمني الدين الذي يبدأ بثمانين حلفةً على المصحف، بألا أفشي سرّ الطائفة الذي بات منتشراً على الإنترنت، وبأن أشتم نصف الشخصيات السنية، وألعنها، كي أثبت أني جدير بالاعتبار.

تنظر المجتمعات الدينية المغلقة، ومنها العلوية، إلى أي فرد يغرد خارج سربها، على أنه تهديد لها، ولقوتها، وتراصّها، وتعامله كدخيل بينهم، أو كطابور خامس.

حياة مزدوجة

في الثانوية، كان يشرح لنا أشهر أستاذ في المدينة عن الفيزياء، والكون، والعلوم، ويربطها بالله وبالدين، ويستغل أحياناً وجود مجموعة من الطلاب العلويين حوله، كي يقول لنا إن أول مَن اكتشف هذا العلم، هم العلويون، وإننا نعرف حكماً، كمتعلمين للديانة العلوية، أن العلويين يفسرون في دينهم الظواهر العلمية قبل الدينية، ويربطون الأفكار الدينية بالرياضيات، وعلم الكون، والكواكب، والله، والإمام علي.

أسئلتي البسيطة حول كيفية الربط بين هذه الأشياء المتناقضة، واللامنطقية، والتي تبدو لي كالخلط بين الماء والنار، جعلت نظرة المدرّس إليّ حادةً، وعدائية، لذا صرخ في وجهي بصوت عالٍ: "مانك متعلم دين؟!". صمتي كان يعني لا، فأكمل صراخه: "اطلع برا... أي نوع من الآباء عندك؟ عمرك 16 سنة وما متعلم دين؟!، اطلع برا... برا عم قلك".

طُردت من الصف، وانتقلت إلى شعبة أخرى، ولم أجرؤ على البوح لأبي، خوفاً من ردة فعله، وهو الذي ينتظر حدثاً كي يُخرج فيه غضبه على شيوخ الطائفه العلوية الذين نبذوه، وألحقوا الضرر بعمله، لأنه لم يتعلم دينهم.

أستاذ الفيزياء في الشعبة الأخرى، كان شيوعياً سابقاً. وجهه مشوّه من ضرب الأمن السوري له، في المعتقلات، في الثمانينيات من القرن الماضي، لكنه، وكتقديم مستمر لبراءة ذمته، لا ينفك يحدثنا عن الله، وعن الدين، فاكتشفت أن الحل هو أن أعيش حياة مزدوجة.

يطلق عليّ أصدقائي لقب "السنّي"، فلا يفرقني شيء عن السنّة، ما دمت لم أتعلم ديناً علوياً، أو "امرأة"، فأنا كنساء الطائفة لا أتعلم الدين، لأنني مثلهن، إما ناقص عقل ودين، أو لا أحفظ سراً، حتى أنهم ينبهونني مراراً إلى أن لا رجلاً في الطائفة سيزوجني ابنته، فالعرف عند الطائفة يقول: "إلي ما بيحفظ دين ما بيحفظ مرا". نعم، هم ذاتهم العلويون الذين من أشد أعرافهم أيضاً، ألا ترث الفتاة من أبيها أو من أخيها، ولا يسمح لها بالطلاق مجتمعياً، لأنها ستوسم بالعهر.

"العلوي الخائن"

في كل زيارة إلى بيت ما، سأُسأل عن ديني. يجلس والد صديقي قبالتي، في منزلهم، وهو يقشر ليموناً وتفاحاً، ويحدثني عن الدين، وكيف يهزم دائماً الشيوخ السنّة في مناظراتهم الدينية، وكيف أن رفعت الأسد هو حامي حمى العلويين، وسر مجدهم، إذ إن أغلب الضباط العلويين المتقاعدين قد أصبحوا رجال دين، وشيوخاً يعلّمون الدين العلوي الباطني، كمحاولة للتوبة عن أعمالهم، في أثناء خدمتهم، أمام مجتمعهم، ولفتح باب رزق جديد عليهم.

"لم أحظَ بفرصة حظيَ بها كثيرون من شبان الطائفة، بأن يتفاخر أبي في جمعة الرجال بأن ابنه قد تعلّم الدين العلوي من صغره، وأًصبح ‘رجلاً’"

ويحدثنا أيضاً عن فظاعة جيل اليوم الذي لا يكرس وقته كله للدين، وعن شناعته، ثم يأتي السؤال الاختبار: "عمي إنت متعلم دينك. لا؟". لا، لم يتوقع أنني لم أتعلم، لذا صرخ، وضرب الطاولة التي أمامه حتى وقعت، وسقطت الفاكهة على الأرض، وظل يخبط الطاولة بالأرض، وهو يشتم، ويصرخ، حتى كسرها وطردني.

أي تهديد شكلته له؟ أي عقيدة ضعيفة ومهزوزة هي هذه؟ أي شعور بالعمالة شعر به تجاهي، حتى خرجَت منه ردة الفعل تلك؟ كيف لدين يرى نفسه دين الله المختار، وعمره يمتدّ إلى ما قبل الإسلام بقرون، كما يقولون، أن ينفعل معتقدٌ به في وجه شاب عشريني، وينتفض، ويشعر بالعار، لمجرد أنه لم يتعلّمه؟ وأي ضابط يؤمن بألوهية رفعت الأسد، يمكنه أن يعلّم الناس الدين، وينظّر عليهم فيه؟

في الجامعة، لُقّبت بـ"العلوي الخائن"، لأني حاولت حل خلاف بين مجموعة شبان علويين، ومثيلتها من السنّة. كيف أتوسط، وأكون موضوعياً؟ كيف لا أنقذ شبان طائفتي، وأقف معهم على الصح، والخطأ؟ بدأوا يحيكون الحكايات والقصص عني، بأني أتمنى دمار الطائفة، ونهايتها، وكيف خنتها، وخنت عقيدتها وإمامها!

مجتمع مفكك

على الرغم من هذا التراصّ الكبير الذي يبديه العلويون، إلا أنهم مجتمع مفكك، ومشتت، عشائرياً. برزت العشائرية في عهد البعث كثيراً، وكان أساسها التنافس، منذ وصلت الطائفة إلى السلطة في سوريا، عقب انقلاب حافظ الأسد.

عرف الأسد أن هؤلاء، مع الحصة الكبيرة التي لهم في الجيش، ضباطاً، وجنوداً، وقادة، يشكلون خطراً على حكمه، إذا ما اتحدوا ضده، فتم تقسيمهم، وتقسيم ولاءاتهم، ليكون هو وحده، إمام الطائفة، ومرجعها، وكبيرها.

لا يمكن، مثلاً، لأي ضابط علوي سوري من العشيرة الحدادية (عشيرة الحدادين)، أن يخدم في المخابرات العسكرية التي يرأسها اللواء علي دوبا، النميلاتي (ينتمي إلى عشيرة النميلاتيين)، فالمخابرات العسكرية تحت حكم علي دوبا، للنميلاتيين فحسب من الضباط العلويين، وأما الحدادين فلهم القوات الخاصة بزعامة علي حيدر (الحدادي).

وهكذا الجيش كله. حتى فروع الحزب في اللاذقية، تتشكل بناءً على مقاعد طائفية؛ فرئيس فرع الحزب (وهو منصب أعلى من المحافظ)، سنّي من عائلة أرستقراطية دائماً، وهنالك مقعد مسيحي، ومقعد سنّي من جبلة، ومقعد علوي حدادي، ومقعد لعشيرة القراحلة العلوية، ومقعد لعشيرة الخياطين العلوية أيضاً.

"تنظر المجتمعات الدينية المغلقة، ومنها العلوية، إلى أي فرد يغرّد خارج سربها، على أنه تهديد لها، ولقوتها، وتراصّها، وتعامله كدخيل بينهم، أو كطابور خامس"

حتى فرق كرة القدم، فتتشكّل هكذا أحياناً، ويُروى أن أحد أعضاء مجلس الشعب اتصل مرة برئيس نادٍ بارز في المحافظة، ليقول له: "بدنا دفاع علوي حدادي".

في هذه التفاصيل كلها، التي يدخل فيها نظام البعث في سوريا، لبرمجة حكمه المضمون، قد تُنسى الطوائف الأخرى في الساحل، إذ إن لكل محافظة تركيبة قيادية دينية، وعشائرية مشابهة.

التعلّم الديني

أما أهمية التعلم الديني، فقد اكتسبت طابعاً سياسياً، في الحرب السورية. أحد جيراني أتته الشرطة العسكرية ببلاغ التحاق بالخدمة الإلزامية، وبعد أن أنهى دورته، علم أن فرزه جاء في مكتبٍ لبشار الأسد، في حي المالكي، في دمشق، وبراتب لا يتعدى العشرة دولارات شهرياً، فاستدعاه مكتب شؤون الضباط في الجيش، وقابله عميد، وقال له: "جايبك سمعلك دين علوي، إذا حافظ دين، ومتعلم عقيدتك، فأنت أهل وأمان لتحرس في إحدى مقرات الرئيس".

سأله بضعة أسئلة، وعرف أنه تعلم دستوره الديني، ونسي نصفه، ولكن لا مشكلة. المهم أنه شتم يوماً الصحابة، وأعلن ولاءه للطائفة، لذا تم قبوله حارساً للأسد، بعد التأكد من أنه يتحدر من قرية علوية تتبع العشيرة (الكلبانية) العلوية التي يتحدر منها آل الاسد.

الصدمة الكبرى، ليست في ردود أفعال المجتمع، لأنها متوقَعة في مجتمعات الجهل المغلقة كلها، بل في كثرة المواقف التي تعرضتُ لها، مثل أن يمتنع أحد أصدقائي عن التكلم معي، أو عن الاستمرار في صداقتنا، لأن والده يمنعه عن ذلك، كوني لم أتعلم "الدين" بعد، بدءاً من المراهقة، وحتى الجامعة.

قررت يوماً أن أكسر هذا القيد الاجتماعي، ولو شكليّاً، وأن أتعلم الدين العلوي، ولو صورياً، كي أجنب نفسي مواقف أشد سوءاً، مع أني كنت أعلم أنني كلما اطّلعت، كلما ازدادت أسئلتي، وازداد العداء تجاهي. اخترت شيخاً شاباً مشهوراً، في مدينتنا، بسعة صدره، وروحه الشبابية، ومحبة الشبان له، حتى أنه يظهر أحياناً على التلفاز، ويعمل ناشطاً اجتماعياً دينياً، وله صفحة موثقة على فيسبوك. صارحت أبي بأني سأتعلم، فقال لي ضاحكاً: "لن أمنعك، مع إنو هالشيخ ناصب عليي مبلغ 100 ألف ليرة سورية، بس روح جرّب".

وأنا في خضم الاستعداد لأدخل ديني، وعالم العلويين السرّي، لأكون جزءاً صالحاً وغير منبوذٍ منهم، اكتشفت أن الشيخ هذا ليس علوياً، إنما والدته علوية، وقد تربى على يد زوج أمه العلوي، وهو سنّي من إدلب، ويعمل شيخاً علوياً، وهذه أكبر الكبائر، فأشد الكفر عند العلويين أن يعرف سنّي شيئاً ما عن دينهم، فكيف بالذي يؤمّهم! أي اختراق سهل وعميق لطائفة دين الله المختار هو هذا! ضحكت، وسخرت منهم جميعاً، وعلمت أن أبي هو الوحيد الذي كان على حق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image