شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
خلقتُ أعسر وتهامس رجال الدين

خلقتُ أعسر وتهامس رجال الدين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 30 أغسطس 202012:33 م

يرث الأبناء الكثير من الأشياء عن آبائهم. خُلقت أعسر وأتباهى بأني ورثت عن أمي استخدام اليد اليسرى. في قريتي الصغيرة المحافظة المتدينة، كان أبي يشعر بالحرج حين أجلس على المائدة مع الضيوف ويوجهون إليّ الملاحظات والانتقادات حول تناول الطعام، الذي هو نعمة الله، بيدي اليسرى.

في إحدى المرّات، طلب أبي منّي بلطف أن أجرّب استعمال يدي اليمنى، ونزولاً عند رغبته فعلت وكان الطريق شاقاً وطويلاً بين صحن الحساء وفمي، وبالطبع لم أنجح فسكبت الحساء على ثيابي وبكيت ولم أنتبه إلى أن أمّي ضمتني بيدها اليسرى.

في زيارة قام بها بعض رجال الدين إلى منزلنا، وأثناء تناول الطعام، نظروا إليّ وتهامسوا ثم طلب أحدهم منّي أن أتناول الطعام بيدي اليمنى. شعرت بالخوف. امتلأت عيناي بالدموع. غادرت المائدة وبكيت في الغرفة المجاورة وأنا أستمع إلى صوت ملاعق رجال الدين ترتطم بصحون الطعام وكأن شيئاً لم يحدث.

قبل أن أبلغ العشرين من عمري، اكتشفت أن هناك نصوصاً دينية تقول إن الأعسر ليس شخصاً كافراً ولكن في الوقت نفسه لا يمكن اعتباره شخصاً مؤمناً أو صالحاً. جعلني ذلك أشعر بالخوف ورحت أبحث عن مدى صحة ما قرأت وأسأل رجال دين لا يعرفون أني أعسر عن الأمر.

كانت معظم الأجوبة تقول إن هناك علامات جسدية تأتي مع المولد وتدل على أن المولود كافر بشكل قطعي، وأخرى تدل على أنه لم يصل إلى درجة الكفر ولكن يجب أن نتجنبه ونحذر أثناء التعامل معه.

ومن بعض علامات الكافر الجسدية التي أخبروني بها الإصبع الزائد أو الناقص في القدمين أو اليدين، وشعر الرأس الأحمر أو الأبيض بشكل كامل. أما الأعسر فقالوا لي إنه أقرب إلى الكافر منه إلى المؤمن وفرصته في أن يصبح مؤمناً ضئيلة جداً جداً، إلا إذا شملته رحمة الله الواسعة لسبب ما لا يعلمه إلا الله وحده.

حين سمعت ذلك، قضيت أياماً وأنا أشعر بالهلع والرعب. إذاً لن أكون مؤمناً مهما فعلت من أمور جيدة في هذه الحياة وفرصتي بالنجاة من جهنم بحسب قولهم تكاد تكون معدومة ومرتبطة بأن تشملني رحمة الله لسبب ما لا يعلمه إلا هو!

"قبل أن أبلغ العشرين من عمري، اكتشفت أن هناك نصوصاً دينية تقول إن الأعسر ليس شخصاً كافراً ولكن في الوقت نفسه لا يمكن اعتباره شخصاً مؤمناً أو صالحاً. جعلني ذلك أشعر بالخوف"

وبعد تفكير طويل توصلت إلى فكرة جعلتني أشعر بقليل من الارتياح وهي أن العدل من صفات الله وعدله يلزمه ألا يحاسب شخصاً قبل أن يقترف الذنوب فكيف يمكن الحكم على شخص بأنه كافر منذ ولادته مع أنه لم يرتكب أية ذنوب؟!

حين قلت لأحد رجال الدين ذلك أجاب بثقة: يا بنيّ، كل مولد لديه حيوات سابقة يقترف فيها أخطاء أو يقوم بأعمال صالحة ومَن يلد وفيه هذه العلامات يكون في حيواته السابقة قد اقترف الكثير والكثير من الأعمال السيئة ويضع الله فيه هذه العلامة كي نعرفه ونتجنبه.

تذكرت قصة "بائعة الكبريت" لهانس كريستيان أندرسن حين انطفأ آخر عود ثقاب لديها في تلك الليلة الباردة... دمّرني نفسياً كلام رجل الدين وأعادني مرة أخرى إلى دائرة الهلع والخوف.

وبالصدفة، وبعد حوالي ثلاثة أشهر، وقع بين يديّ كتاب حول نظرية التطور لداروين. قرأته وشغلني فكرياً وكان حافزاً لكي أقرأ. وهنا بدأت رحلتي مع الكتب والسينما والمسرح والموسيقى، ونسيت خوفي من كوني أعسر بل وشعرت بالسذاجة لأني كنت خائفاً وأصبح لدي يقين كامل ببطلان وعدم صحة كلام رجال الدين لعدة أسباب كان أهمها أن أمي عسراء ورغم ذلك هي من القديسات.

والدتي تمسك القلم بيدها اليسرى، وكانت هذه أول مرة تحاول فيها الكتابة وكان عمرها حينها حوالي 79 سنة.

مع الوقت، صرت أشعر بأني أمتلك ميزة لأني أعسر وفي أكثر من مرة كانت يدي تتيح فرصة لتبادل الحديث مع الفتيات اللواتي يسألن "أنت أعسر؟"، فأبتسم وأبادر على الفور بالقول: "هل تعلمون أن الكثير من العظماء والمفكرين كانوا عُسر وأن هناك دراسات تؤكد أن الأعسر شخص مميز ومختلف عن الآخرين؟".

"كنت أبالغ إلى درجة أني قلت لأحداهن ‘هل تعلمين أن العسراويين لا يحتاجون إلى منبّه كي يستيقظوا لأنهم قبل النوم يهمسون ليدهم اليسرى كي توقظهم في ساعة محددة وفي الصباح تتحرك اليد اليسرى وتمسح على وجهوهم بلطف؟’"

بل كنت أبالغ إلى درجة أني قلت لأحداهن "هل تعلمين أن العسراويين لا يحتاجون إلى منبّه كي يستيقظوا لأنهم قبل النوم يهمسون ليدهم اليسرى كي توقظهم في ساعة محددة وفي الصباح تتحرك اليد اليسرى وتمسح على وجهوهم بلطف إلى أن يتسيقظوا؟".

ومع الوقت، أصبحت أشعر بأني لا أملك مع يدي اليمنى أي ذاكرة باستثناء أنني صافحت فيها أشخاصاً أعزاء على قلبي، أما اليسرى فهي التي رافقتني في اللعب وامتحانات الدراسة وقرع كؤوس العرق مع الأصدقاء، وأمسكت فيها يد فتيات بحجة أني أساعدهنّ في قطع الشارع المزدحم وضممت فيها أصدقاء وأحبة.

أحب قراءة ما يُكتب عن الأعسر ولا زلت أذكر كم كانت فرحتي كبيرة حين قرأت أنه في عام 1976 حُدّد يوم 13 آب/ أغسطس يوماً عالمياً للعسر، والذين تبلغ نسبتهم 10% من الناس، ورغم أنهم يشكّلون أقلية في أي مجتمع إلا أن كثيرين من المشاهير والسياسيين كانوا عُسراً.

وورد في دراسة قام بها طالبان من جامعة إكسفورد حول العسر أن لاعب كرة القدم ليونيل ميسي أكثر إبداعاً من كريستيانو رونالدو لأنه أعسر.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image