أنا امرأة. أنا في حاجة إلى الحب، وإلى الجنس، وإلى الاهتمام، وإلى العائلة، وإلى الإله. هذا كان أول شيء صرّحت به عبر صفحتي في فيسبوك. لم أكن أعرف أنّ ذكر الكلمتين: "الجنس والإله"، في منشوري، سيجعلني كاتبةً قذرة، لا تكتب إلا النّصوص الرّديئة، والإيحاءات الجنسية، ونسويةً، ومتطرفةً، وجريئةً، وليبراليةً، وحتى ملحدة.
بدأت قصتي مع الكتابة، يوم شعرتُ بأنني وحيدة جداً؛ والدي شبه مُقعد، يغسل كليتيه، وأمي عاملة في البيوت. أنهيتُ دراسة الماجستير في اللغة عربية، ولم أجد عملاً مناسباً لي، أو بالأحرى لم يقبلني أحد، لذلك توجهتُ إلى الكتابة، وتحدثتُ عن مدى شوقي إلى رؤية العالم الخارجي. سألتُ مرة صديقتي: هل السّماء فوقكم، تشبه السّماء فوقنا؟ هل البشر يمتلكون الأيدي، والأقدام، والعمود الفقري؟ هل في شوارعكم قمامة على الأرض، ويأكل الأطفال منها، مثل محمد شكري؟ إذا كان الجواب "لا"، فهذا يعني بالتأكيد أنّ الإله العادل يزور حيَّكم. أرجوكِ أخبريه أن يزورنا.
بدأت قصتي مع الكتابة، يوم شعرتُ بأنني وحيدة جداً؛ والدي شبه مُقعد، يغسل كليتيه، وأمي عاملة في البيوت.
لم أشاهد العالم الخارجي، إلا من الكتب والقراءة، فأنا أعيشُ في بيتٍ تسوده الأمراض، والعجز، والفقر، والوحدة، لذا كانت الكتابة وطني.
لم يحبني المجتمع أبداً، والصديقات رفضن وجودي بينهن، فأنا امرأة متحررة، من وجهة نظرهن، أكتب حقائق قلوبهن من دون تزوير، أو زيف. جعلوني أكره نفسي. حاولتُ كثيراً قتل ما أكتب، بل قتلي. لقد جعلوني أكفر بكل شيء. حتّى الكتابة، توقفتُ عنها مدة ثلاث سنوات؛ لأن أستاذي في الجامعة أخبرني أنّ نصوصي رديئة.
إن فيسبوك هو مهربي من عالمي البائس، ما زلتُ أكتب من دون توقف، وتصلني الكثير من الرّسائل، التي تصفني بعدم الحياء. لماذا يحقّ للرجال الكتابة في كل شيء، ونحن النساء، لا يحقّ لنا ذلك؟
أصبحت سعيدة، عندما تعرّفتُ إلى نساء مثلي، يتحدثن من دون خوف. نساء حقيقيّات، وإن بأسماء زائفة. أجل، أنا أناضل، وأحارب مجتمعاً بأكمله يرفضني. مرّة عملتُ معلمة في مركز تعليمي، تناقشتُ مع المدير حول أمر ما، فقال: "لا تجعلي أي أحد يسمع ما تقولينه، وإلا حُرقت ورقتك في البلد". أصبحتُ ورقةً محروقة، غير مرغوب بها، فكيف لامرأة بسيطة فقيرة تتحدث عن رأيها في كتاب في العادات والتقاليد المتوارثة، عن النّساء المهمشات؟
أنا تلك المتمردة، من فلسطين. أعيشُ في مجتمعٍ محافظ لا يحبني، ولا يريد أن أبدي رأيي، وخاصةً في الاحتجاج ضد الذّكورية. يريدونني عبدةً لهم، ولكنني خُلقت حرّة. ولو توقف الجميع عن قبولي بينهم، فسأستمر في الكتابة، وسأفضحُ قصتي معهم.
أنا تلك المتمردة، من فلسطين. أعيشُ في مجتمعٍ محافظ لا يحبني، ولا يريد أن أبدي رأيي، وخاصةً في الاحتجاج ضد الذّكورية. يريدونني عبدةً لهم، ولكنني خُلقت حرّة. ولو توقف الجميع عن قبولي بينهم، فسأستمر في الكتابة، وسأفضحُ قصتي معهم
أتذكرُ اليوم الذي سمعتُ فيه جارتي، وهي تصرخ من الضّرب. أردتُ الاتصال بالشّرطة، ولكنني خفتُ من أن يُلحِق زوجها الأذى بوالدي المريض. أحياناً، تسمع غيرك يموت، ولا يمكنك إلا أن تضع السّماعات في رأسك؛ هذا الاحتمال الوحيد لتنقذه! وقتها، الحزن أكلني، وتكوّرت على نفسي. بكيت على قاعدة المرحاض، ودخنتُ العديد من السّجائر في الحمام، والتهمت كتاب "لا تحاول" لبوكوفسكي، وضربتُ وجهي، وبطني، ولساني، وكل جزءٍ فيّ، مثل امرأة حامل تحاول إسقاط جنينها.
لم تكن في اليد حيلة، سوى الكتابة عنها، ونشر قصتها عبر صفحات فيسبوك على هيئة نصٍ أدبي. ومن سيحاسبني على ذلك؟ حتى الإله، لن يحاكمني على ما نشرته. هؤلاء الأوغاد، الذين يضربون النّساء، ويأكلون لحم أولادهم، ويخافون من الخزي، يخافون أن نفضحهم، ونحن سنكتب عنهم دائماً. فلو أراد أي أحدٍ محاسبتنا، فنصف الكرّة الأرضية ستقول إن هذا النّص كُتب عنها!
سألتني فتاةٌ مرةً: "ألا تخجلين من ذكر لفظة "الجنس" في كتاباتك؟ وهل أهلك يعرفون شيئا عن هذه الكتابات؟". وهناك من قال لي إنني أحتاجُ إلى طبيبٍ نفسي، فأنا أعاني من نقصٍ عاطفي وفكري حاد، ويجب أن أعود إلى الرب بسرعة، وإلا بقيتُ وحيدة في النهاية.
أعيشُ بلا هدفٍ، أو معنى. كل يوم، هو كسابقه؛ المعاناة ذاتها، والكتابة ذاتها، والصّرخة ذاتها، والوطن ذاته. كل شيء مكرر. تعبتُ من مشاهدة العالم بهذا السوء كله. هدفه كله أن يقسّم العالم إلى: نحن، وأنتم. هناك مقولة شهيرة ومتداولة لسارتر: "الجحيم هو الآخرون". أجل، نحن النّساء، وحتى الرّجال الذين يكتبون عن الحرية، كلنا بالنسبة إليهم جحيم. أريدُ العيش في مجتمعٍ يتقبّل الاختلاف. ما هذا الإنسان الذي يرجم الآخر بلا رحمة؟
إنني شرهة في الكتابة، لا وطن لي في هذا العالم، ولا مال لأشتري بنطالاً جديداً، حتى لو من "البالة"، ولا ساقين من حديد لوالدي المتعب، ولا حتى لنشر رواية لي. ولو فكرتُ في بيع نصوصي، فمن سيقبل أن يشتري نصوصاً مهترئة، وسيئة السّمعة، غير امرأة لا تعرف القراءة والكتابة؛ لتمسح بها الغاز، أو الغبار، أو حتى شبابيك الحمامات؟
فتحتُ صدري مثلما تفتح فتاة مراهقة قلبها لأمها. تعرفتُ إلى نساءٍ كثيرات مثلي، ومنهن الخائفات، ومعهن الحق كله
الرّجال كانوا يقتربون مني، بدافع الفضول؛ لذلك لم يحبني أي رجل. هكذا عشتُ وحيدة في غرفتي، غرفة فرجينيا وولف للكتابة، داخل الفيسبوك. كل صرخة كتمتها في رئتي، كنت أكتبها في هيئة قصيدة. حزني كان شكلاً من أشكال الاستفزاز لديهم. فتحتُ صدري مثلما تفتح فتاة مراهقة قلبها لأمها. تعرفتُ إلى نساءٍ كثيرات مثلي، ومنهن الخائفات، ومعهن الحق كله. حتّى أنا، بعد كل نصٍ أنشره، أقول: بالتأكيد، غداً سيرى أحدهم ما أكتب، وستهاجمني العائلة، وربّما تحرمني منه. ومع ذلك أواصل الكتابة.
وحده فيسبوك وطنٌ لصرخاتي، وحده من أعطاني الحرية في الكتابة. إنّه المكان المثالي لمن لا وطن له، ولا حظ، وخاصةً للنساء الوحيدات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...