بدأ مرضى الأورام السرطانية وذووهم في لبنان حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمطالبة السلطات بالتدخل الفوري لتوفير أدوية السرطان، ووقف ما اعتبروه "إبادة جماعية لمرضى السرطان في لبنان"، بعد توقف استيراد الأدوية إلى المستشفيات والمراكز العلاجية في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد.
الحملة التي انطلقت في 22 أغسطس/آب الجاري تحت هاشتاغ "بدنا_دوا_السرطان"، دعا المشاركون فيها إلى اعتصام بحديقة جبران خليل جبران بالقرب من سراي الحكومة، السادسة مساء بتوقيت بيروت، الخميس المقبل. واعتبر المشاركون أن الحكومة قد أدارت ظهرها لمرضى السرطان، وتركتهم فريسة لأصحاب مخازن الأدوية من المحتكرين.
تزامن إطلاق الحملة مع قيام وزير الصحة العامة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن، أمس، بجولة ميدانية تفقد فيها بعض مخازن الأدوية، معلناً توفر العديد من الأدوية الشحيحة في السوق اللبناني داخل تلك المخازن، متهماً أصحابها ومديريها بممارسة "إجرام واتجار غير شرعي بصحة المواطن".
شهور من الحرمان
في يوليو/ تمّوز 2021، أعلنت الدّولة اللبنانيّة رفع الدّعم عن بعض الأدوية المستوردة، باستثناء أدوية الأمراض المستعصية والسّرطانيّة والمنقذة للحياة، والأدوية الاستشفائيّة واللقاحات وحليب الأطفال وعلاجات الأمراض العصبيّة والنّفسيّة. وبالرّغم من إعطاء أولويّة الدّعم لهذه الأدوية، لا تزال تُغيَّب عن الأسواق والصّيدليّات والمستشفيات.
وقتذاك، أطلق عدد من أطبّاء الأمراض الخبيثة والسّرطانيّة في لبنان صرخاتهم المنادية بإعطاء الأولوية لتوفير العلاجات عبر محطّات الأخبار ووكالات الأنباء المحلّيّة، خوفاً على مرضاهم الذين يستحيل عليهم العثور على الدواء. أمّا في حال العثور عليه بعد طول البحث، فيكون بسعر مرتفع يتعذّر توفيره على معظم اللبنانيين، الذين أصبح أكثر من نصفهم تحت خطّ الفقر.
لا تفصح وزارة الصحة عن عدد مرضى السرطان بالبلاد، برغم أنها وضعت برنامجاً وطنياً في العام 1998 لإنشاء السجل الوطني للسرطان، ولديها واحدة من أفضل قواعد البيانات بشأن رصد وتتبع السرطان في العالم العربي بحسب شهادة واردة في إحدى الدراسات العلمية.
لكن الثابت هو أن أعداد المصابين بالسّرطان في لبنان كبيرة جداً، ولا تحتمل ضغط انقطاع الأدوية. فبحسب منظّمة الصّحة العالميّة، يُعتبر لبنان بالمرتبة الأولى بأعداد مرضى السّرطان في غرب آسيا، إذ هناك 242 مصاباً بالسّرطان بين كل 100 ألف لبناني سنوياً. وقالت المنظّمة في تقرير سابق إن 17 ألف لبناني أصيبوا بالسّرطان عام 2018 فقط.
بالرّغم من إعطاء أولويّة الدّعم لأدوية السرطان، إلا أنها لا تزال غائبة عن الأسواق والصّيدليّات والمستشفيات
معاناة المرض ومعاناة الدواء
تحدّث رصيف22 مع جو أصلان، الذي يحاول جاهداً منذ نهاية يوليو/ تموز الماضي، العثور على دواء لابن صديقه جوناثن نون، الذي يقل عمره عن عامين، عبر حسابه على تويتر. جوناثن مصاب بالسّاركوما العضليّة المخطّطة، وهي نوع من سرطان سريع النّمو يتطوّر من الخلايا العضليّة الهيكليّة التي فشلت في التّشكّل التّام. يوضح أصلان "يُقال لي أن أدوية جوناثن موجودة لكنّها محتكرة".
حتّى الآن، مرّ شهر على جوناثن من دون أدويته. برنامجه العلاجي يشمل أخذ بعض أدوية السرطان والأدوية التكميلية بشكل يومي، وبعضها دوري مكون من العلاج الكيميائي والعلاج الموجه. هذا البروتوكول العلاجي المعقد حرم منه الصغير جوناثن منذ يوليو/تموز الماضي، بشكل بات مهدداً لحياته. يقول أصلان إنه عندما وجد واحدة من الحقن التي يحتاجها الصغير، والتي يبلغ سعرها رسمياً 95،000 ليرة لبنانيّة، اضطرّ إلى شرائها بمبلغ 150،000 ليرة من السّوق السّوداء.
يعلق جو أصلان: "الشّعب اللبناني مثل حكّامه، يتاجرون بحياتنا"، ملقياً بقسم كبير من اللوم على مستوردي الأدوية وأصحاب الشّركات الذين يقول إنهم "يحتكرون الموجود من الدّواء". ويواصل: "حاولت التّواصل مع سفارات مختلفة من أجل تأمين الدّواء من الخارج، كونه لا يباع إلّا للمستشفيات، لكن لم يكن هناك تجاوب".
يحتاج جوناثن إلى ست جلسات علاج بأدوية غير متوفّرة، عليه أن يتممها قبل خضوعه لجراحة لاستئصال الأورام التي تحتل أنسجته، قبل أن تنتشر وتصبح مهددة لحياته، وفي حال تأخّره عن أخذ الدّواء –كما يحدث الآن- تتأخّر إمكانية إجراء الجراحة ممّا يزيد من نسبة الخطر على حياته. بالإضافة إلى هذا، لا يمكن لجوناثن أن يأخذ علاجات غير تلك الموصوفة له، إذ لا يجد البديل عنها.
يحتاج الطفل جوناثن إلى ست جلسات علاج بأدوية غير متوفّرة، عليه أن يتممها قبل خضوعه لجراحة لاستئصال الأورام التي تحتل أنسجته، قبل أن تنتشر وتصبح مهددة لحياته
منظومة غير عادلة
تتكفل الدولة عن طريق وزارة الصحة بعلاج بعض مرضى السرطان الذين لا يتمتعون بخدمات التأمين الصحي، ويبلغ عدد غير المؤمن عليهم نحو نصف المرضى. إلا أن الوزارة لا تقدم العلاج لكل هؤلاء، فهي تضع شروطاً قاسية ومعايير مشددة لتقديم العلاج لمرضى السرطان، ما يترك عدداً كبيراً من المرضى بلا أمل في تغطية التكلفة الكبيرة التي تبلغ نحو 6500 دولار سنوياً للمريض الواحد.
المرضى الذين لا أمل لهم في تغطية تكلفة العلاج عبر الدولة أو مظلاتهم التأمينية، يلجأون في الغالب إلى الجمعيات والمراكز الخيرية التي تتكفّل بتأمين الأدوية والعلاجات. هذه المراكز نفسها باتت تعاني في ظل الأزمة الاقتصادية التي أثرت على نصيبها من التبرعات، خاصة في ظل الانفلات وغياب الرقابة على العمل الخيري.
أحد تلك المراكز التي تقدم الخدمات العلاجية لمرضى السرطان الذين لا يتمتعون بتغطية الدولة أو التأمين الصحي، هو مركز علاج سرطان الأطفال في لبنان (CCCL)، الذي يؤمّن كامل العلاجات لحوالى 350 طفلاً تتراوح أعمارهم بين حديثي الولادة والـ18 سنة. ويعتمد المركز حصراً على التّبرّعات في مساعدة مرضاه الذين من الممكن أن تصل كلفة علاجهم الكاملة –جميعهم- إلى مئتيّ ألف دولار سنويّاً.
وفي حديثنا مع شارل حلو، المشرف على جمع التّبرّعات في المركز، يذكر أن 60 دواء من تلك التي يحتاجها المركز "مقطوعة"، لذا يلجأون إلى جمعيّات ومنظّمات خارجيّة لمساعدتهم في استيراد عدد من الأدوية المطلوبة.
أمّا عند شراء أي فرد للأدوية من خارج لبنان فتكون الأسعار أغلى بكثير من الأسعار المعتمدة في لبنان، "حتّى مع ترشيد الدّعم". يذكر حلو أن حقنة الأونكاسبار التي تعطى لمرضى اللوكيميا (سرطان الدّم)، وهو مرض يتلقى أصحابه علاجهم مدى الحياة، كانت تباع في لبنان بسعر ثلاثة ملايين ليرة للجرعة، أي ما كان يعادل الألفي دولار أمريكي قبل بداية أزمة انهيار الليرة منذ سنتين، واضطرّوا إلى شراء الجرعة الواحدة بـ2400 دولار أمريكي من الخارج.
تضع وزارة الصحة شروطاً ومعايير قاسية لتقديم العلاج لمرضى السرطان، ما يترك عدداً كبيراً منهم بلا أمل في تغطية التكلفة التي تبلغ نحو 6500 دولار سنوياً للمريض الواحد
في محاولة للتغلب على هذه الظروف، أطلق المركز حملة "عالجني - Treat Me" من أجل جمع التّبرّعات بغرض تأمين مستلزمات العلاج للأطفال المصابين بالسّرطان في لبنان. آية غرز الدّين، إحدى المستفيدات من مركز سرطان الأطفال في لبنان، قالت لرصيف22 إن المركز لا يزال يعمل على تأمين الأدوية والمستلزمات لجميع المستفيدين "حتّى في الظّروف الصّعبة"، إلا أن ذلك العزم المخلص يصير مهدداً بشكل أكبر كل يوم مع تراجع التبرعات وارتفاع التضخم وسيادة الاحتكار، الظروف التي تجتمع معاً لتهدد حياة فئة من أكثر فئات المجتمع استحقاقاً للحماية.
----------
تمّ استبعاد بعض التصريحات والمعلومات التي حصلنا عليها بشأن الآثار المترتبة على توقف العلاج لمرضى السرطان حرصاً على الحالة النفسية للمرضى وذويهم.
أنجز هذا التقرير ضمن مشروع "شباب22"، برنامج تدريبي لموقع رصيف22 يرعاه مشروع دي- جيل D-Jil، بالاعتماد على منحة من الاتحاد الأوروبي تشرف عليها CFI.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون