قبل جائحة كورونا، كان العديد من الأفراد يقصدون المعالج/ة النفسي/ة، للتحدث عن مشاكلهم الشخصية والضغوطات النفسية التي تكبّل حياتهم وتؤثر سلباً على مهامهم اليومية، فيستلقون على الأريكة ويحاولون الغوص في داخلهم، و"يفضفضون"، كما نقول بالعامية، بغية الشعور بنوع من الراحة، وكأن العبء الثقيل قد سقط عن كاهلهم.
غير أن المشهد اليوم قد اختلف، فالاستشارات النفسية باتت بمعظمها تحدث من وراء الشاشة، كما تبدلت نوعية الأحاديث، إذ لاحظ الأخصائيون في علم النفس أن الأفراد الذين يطلبون المساعدة يشكون من ضعف الذاكرة، ويتحدثون بإلحاح عن عجزهم عن التركيز في الاجتماعات والقراءة، وحتى متابعة البرامج التلفزيونية التي كانوا يستمتعون بها في السابق.
تقلّص القدرة العقلية
إن "ضباب الدماغ" (brain fog) ليس حالة طبية، بل هو مصطلح يُستخدم لأعراض معينة يمكن أن تؤثر على قدرة المرء على التفكير، بحيث أنه قد يشعر بالارتباك أو عدم التنظيم أو يجد صعوبة في التركيز.
كشف جوش كوهين، وهو صاحب كتاب How to Live. What to Do أن معظم الناس باتوا يشعرون بالوهن من خسارة الأمور الروتينية والنسيان.
وبحسب كوهين، فإن ظاهرة ضباب الدماغ هي تجربة لواحدة من أكثر جوانب اللاوعي إثارة للقلق، مستنداً إلى نظرية فرويد للدوافع، والتي تقوم على فكرة أنه لدينا قوة واحدة داخلنا تدفعنا نحو الحياة، وأخرى تجرّنا نحو الموت.
لاحظ الأخصائيون في علم النفس أن الأفراد الذين يطلبون المساعدة يشكون من ضعف الذاكرة، ويتحدثون بإلحاح عن عجزهم عن التركيز في الاجتماعات والقراءة، وحتى متابعة البرامج التلفزيونية التي كانوا يستمتعون بها في السابق
وعليه، شرح كوهين أن دافع الحياة يدفعنا إلى خلق علاقات مع الآخرين والسعي إلى "توسيع الحياة".
على النقيض من ذلك، فإن دافع الموت يحثّ على "نوع من الانكماش. إنه تحرك بعيد عن الحياة".
وأشار جوش إلى أنه "مع ضباب الدماغ نشهد ضموراً في الحيوية، يجد الناس أنفسهم أكثر خمولاً، وأن وزنهم البدني والنفسي أثقل بطريقة ما، ومن الصعب تحمله".
فبالرغم من قيام العديد من الدول في تخفيف الإجراءات المتبعة وعودة اللقاءات المباشرة إلى حدّ ما، غير أن كوهين اعتبر أن الإغلاق العام كان، بالنسبة للكثيرين، "تقلصاً للحياة وتقلصاً موازياً تقريباً للقدرة العقلية".
واللافت أن هذه الحالة الذهنية، التي يجسّدها مثلاً الدخول إلى غرفة معيّنة في المنزل ثم نسيان سبب وجودنا فيها، قد تبدو أموراً تفصيلية وغير مهمة، لكن العلماء يعتقدون أنها من الإشارات المثيرة للاهتمام والتي يجب التوقف عندها، بغية تعزيز الفهم العلمي للدماغ وعمله وحتى تغيّره وفق الظروف.
في هذا الصدد، اعتبر جون سيمونز، أستاذ علم الأعصاب الإدراكي في جامعة كامبريدج، أن مظاهر النسيان هذه هي بالتأكيد شيء علمي، مشدداً لصحيفة الغارديان البريطانية، على أنه من المفيد أن نفهم أن هذا الشعور ليس غريباً، بل هو "ردّ فعل طبيعي تماماً على هذه التجربة المؤلمة التي مررنا بها بشكل جماعي".
واللافت أن ما نطلق عليه "ضباب الدماغ"، فضلت أستاذة علم الأعصاب الإدراكي في جامعة وستمنستر، كاثرين لوفداي، تسميته "ضعف الوظيفة المعرفية"، والذي، بحسب رأيها، يشمل كل شيء "بدءاً من ذاكرتنا وانتباهنا وقدرتنا على حلّ المشاكل إلى قدرتنا على الإبداع. في الأساس، إنه التفكير".
وكشفت لوفداي أنها سمعت مؤخراً الكثير من الشكاوى المتعلقة بالنسيان: "نظراً لكوني عالمة ذاكرة، يخبرني الكثير من الناس أن ذاكرتهم ضعيفة حقاً، ويبلغون عن هذا الضباب المعرفي".
وأوضحت كاثرين أن هناك دراستين عن هذه الظاهرة، واحدة من إيطاليا، حيث أبلغ المشتركون بشكل شخصي عن هذه الأنواع من المشاكل مع الانتباه، مع تصور الوقت والتنظيم، ودراسة أخرى من اسكتلندا قامت بقياس الوظيفة الإدراكية للمشتركين عبر مجموعة من المهام في أوقات معيّنة خلال الإغلاق الأول وحتى الصيف.
وقد أظهرت النتائج أن أداء الأشخاص كان سيئاً في بداية الإغلاق، لكنه تحسن مع تخفيف القيود.
عوامل مختلفة
نظراً للعزلة والإغلاق الذي كان علينا تحمله حتى وقت قريب جداً، فإن الشكاوى المتعلقة بالنسيان، غير مستغربة بالنسبة لكل من جون سيمونز وكاثرين لوفداين، لا بل توفر لهما الفرصة لاختبار نظرياتهما حول سبب حدوث مثل هذا الضباب الدماغي، مع العلم بأنه لا يوجد تفسير واحد لهذه الظاهرة، كما أكد سيمونز: "لا بد أن يكون هناك الكثير من العوامل المختلفة التي تتجمع وتتفاعل مع بعضها البعض لتسبب ضعف الذاكرة وعجز الانتباه وصعوبات أخرى".
من بين العوامل التي تسبب النسيان والتي تحدثت عنها لوفداي هو الملل، موضحة أن الدماغ يتم تحفيزه بواسطة كل ما هو جديد ومختلف، وهذا ما يعرف بالاستجابة الموجهة: "عندما يكون هناك منبه جديد، سوف يدير الطفل رأسه تجاهه. وكبالغين قد نشاهد محاضرة مملة وإذ فجاة يدخل شخص ما إلى الغرفة، يؤدي ذلك إلى إعادة عقولنا إلى العمل".
وأضافت لوفداي: "لقد تطورنا بشكل فعال بحيث نتوقف عن إبداء الاهتمام عندما لا يتغير شيء، ولكن نولي اهتماماً خاصاً عندما تتغير الأشياء".
من هنا، اقترحت كاثرين أن نشارك في اجتماع عمل عبر الهاتف أثناء المشي في الحديقة، بحيث قد نجد أننا أكثر قدرة على التركيز، وذلك بفضل المشهد المتغير والتمرين البدني، كما نصحت بقضاء بعض الوقت في غرف مختلفة في المنزل أو تغيير شكل الغرفة: "أنا لا أقول إعادة تزيين، ولكن يمكن تغيير الصور على الجدران أو نقل الأشياء من أجل التنوع، حتى في أصغر مساحة".
غياب التميّز
في الواقع، إن تداخل الأيام من دون أي تغيير في المشهد ولا تغيير في طاقم العمل، كلها أمور يمكن أن تؤثر على الطريقة التي يعالج بها الدماغ الذكريات، بحيث أن ما نعيشه تحت الإغلاق، يفتقر إلى "التميّز".
وأشار جون سيمونز إلى أن الإحساس المرتبك والذي يتمثل بعدم القدرة على تذكر ما إذا كان شيء ما قد حدث الأسبوع الماضي أو الشهر الماضي، من المحتمل أن يرافقنا لفترة من الوقت: "سيكون من الصعب للغاية التمييز بين ذكرياتنا. من المحتمل جداً أنه في غضون عام أو عامين، قد ننظر إلى الوراء على حدث معين من العام الماضي ونقول، متى حدث ذلك؟".
من أهم سمات هذه الفترة بالنسبة لظاهرة "ضباب الدماغ" ما تسميه كاثرين لوفداي "التفاعل الاجتماعي المتدهور" الذي تحملناه: "إنه ليس نفس التفاعل الاجتماعي الطبيعي الذي كنا سنحصل عليه. تستيقظ أدمغتنا في وجود أشخاص آخرين، التواجد مع الآخرين هو أمر محفز".
من المحتمل جداً أنه في غضون عام أو عامين، قد ننظر إلى الوراء على حدث معين من العام الماضي ونقول، متى حدث ذلك؟
بدوره، اعتبر كارمين باريانتي، أستاذ الطب النفسي البيولوجي في كينغز كوليدج لندن، أن ضباب الدماغ هي تجربة شائعة، لكنها معقدة للغاية: "إنها تقريباً الطريقة التي يعبّر بها الدماغ عن الحزن، بعيداً عن المشاعر"، منوهاً بأننا بحاجة إلى التفكير في العقل والدماغ والجهاز المناعي والأنظمة الهرمونية لفهم العمليات العقلية والجسدية المختلفة التي قد تكمن وراء ضباب الإغلاق، والذي يراه نتيجة للإجهاد.
من هنا، شرح باريانتي أنه عندما يقيّم عقلنا موقفاً بأنه مرهق، فإن دماغنا ينقل الرسالة على الفور إلى جهاز المناعة وإلى الغدد الصماء.
تستجيب هذه الأنظمة تماماً بنفس الطريقة التي استجاب بها البشر الأوائل قبل مليوني عام في السافانا الأفريقية، عندما لم يكن الإجهاد مرتبطاً بالتعليم المنزلي، بل متعلقاً بالخوف من حيوان ضخم، بحيث ينبض القلب بشكل أسرع ويبدأ الالتهاب من قبل الجهاز المناعي للحماية من العدوى البكتيرية في حالة التعرض للعض، ويتم إطلاق هرمون الكورتيزول لتركيز الانتباه على الحيوان المفترس.
وقد أظهرت الدراسات أن الكورتيزول يقلل من انتباه الشخص وتركيزه وذاكرته لبيئته المباشرة.
"ضباب الدماغ" ليس حالة طبية، بل هو مصطلح يُستخدم لأعراض معينة يمكن أن تؤثر على قدرة المرء على التفكير، بحيث أنه قد يشعر بالارتباك أو عدم التنظيم أو يجد صعوبة في التركيز
وأوضح باريانتي أن هذا الضباب الذي يشعر به الناس هو مجرد مظهر واحد من مظاهر هذه الآلية، "المفيدة لمحاربة الأسد، وليس لتذكر المكان الذي وضعنا فيه نظاراتنا".
الجدير بالذكر أن جون سيمونز وفريق من الزملاء يجرون حالياً دراسة للبحث في تأثير الإغلاق على الذاكرة لدى الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً.
ويتمثل أحد أهداف هذه الدراسة في اختبار فرضية الاحتياطي المعرفي، الفكرة القائلة بأن وجود حياة اجتماعية غنية ومتنوعة، مليئة بالتحفيز الفكري والتجارب الجديدة الصعبة والعلاقات المُرضية، قد تساعد في الحفاظ على تحفيز الدماغ والحماية من التقدم في السن.
في الختام، ينصح جون سيمونز بالخروج والحصول على تجارب وتفاعلات غنية ومتنوعة قدر الإمكان، لتعزيز احتياطينا المعرفي ضمن القيود المتبقية: "نشعر جميعاً بالحزن، في أوقات في حياتنا نشعر فيها أننا لا نستطيع العمل على الإطلاق. هذه الأشياء مؤقتة ولحسن الحظ نحن نتعافى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...