حتى وقتٍ قريب، كان العلماء يعتقدون أنه بحلول سنِّ الرشد ومرحلة البلوغ، تصبح أدمغة البشر ثابتةً نسبياً من حيث تركيبتها ووظائفها، خاصّةً حين تتمّ مقارنتها بالأنسجة المَرِنَة، مثل العضلات التي تنمو وتتقلّص، بحسب نمط حياتنا.
غير أن العديد من التجارب الحديثة أثبتت في الحقيقة أن أدمغة البالغين قابلة للتغيير، كونها تغيّر شكلها بطرقٍ مختلفةٍ، اعتماداً على أسلوب حياتنا.
فكيف تؤثّر التمارين الرياضيّة على دماغنا وذاكرتنا؟
تغيير عمل الدماغ
تتردّد على مسامعنا دوماً هذه المقولة:" العقل السليم في الجسم السليم"، وبالفعل فقد توصّلت دراسة حديثة إلى أن مجرّد ممارسة تمرينٍ بسيطٍ من شأنه تغيير كيفية عمل أدمغتنا على الفور، بل وقدرتنا على معرفة الأسماء الشائعة والمعلومات المماثلة.
ففي الواقع، كشفت الدراسة التي ربطت بين التمارين والذاكرة والتقدّم في العمر، أن التمارين الرياضيّة يمكن أن يكون لها تأثيرات سريعة على وظائف الدماغ، وكذلك يمكن لهذه الآثار أن تساهم، على المدى الطويل، في تحسين كيفيّة عمل الدماغ وتنشيط الذاكرة.
مجرّد ممارسة تمرينٍ بسيطٍ من شأنه تغيير كيفية عمل أدمغتنا على الفور
وقد أظهرت التجارب على الحيوانات، أن التمارين الرياضيّة تزيد من إنتاج المواد الكيميائيّة العصبيّة، وعدد الخلايا العصبيّة حديثة التكوين في الأدمغة الناضجة، كما أنها تحسّن من قدرة هذه الحيوانات على التفكير.
وبالمثل، فقد تبيّن من خلال الدراسات التي أُجريت على البشر، أن التمارين المنتظمة تزيد مع مرور الوقت من حجم الحصين، وهو جزء رئيسي من شبكات الذاكرة في الدماغ، بالإضافة إلى أنه يحسّن جوانب عديدةً من التفكير لدى البشر.
المشي يحسّن الذاكرة
وسط الأدلّة العلميّة الجديدة التي تؤكّد أن التمارين الرياضيّة قادرة على تغيير عمل الدماغ، تبرز أسئلة جوهريّة حول العلاقة بين التمارين والدماغ، بما في ذلك المدّة الزمنية للتغييرات التي تطرأ، وما إذا كانت قصيرة المدى، أو تصبح دائمةً عند المثابرة على التمرين، وهو أمر شغل بال العلماء في جامعة "ماريلاند".
ففي العام 2013 حاول العلماء البحث عن التأثيرات طويلة المدى لممارسة التمارين على أجزاء من الدماغ المسؤولة عن معالجة الذاكرة الدلاليّة، وهي معرفتنا للعالم والثقافة التي نُعتبر جزءاً منها، كمعرفة مثلاً ما هو اللون الأزرق...مع العلم أن هذه الذاكرة الدلاليّة يمكن أن تكون سريعة الزوال، خاصّةً مع التقدّم في العمر، إذ أنه غالباً ما تكون الذاكرة الدلاليّة واحدةً من أوّل أشكال الذاكرة التي تتلاشى.
أدمغة البالغين قابلة للتغيير، كونها تغيّر شكلها بطرقٍ مختلفةٍ، اعتماداً على أسلوب الحياة
لكنَّ العلماء وجدوا في دراستهم السابقة أنّ برنامج المشي على آلة "الترادميل" لمدة 12 أسبوعاً، غيّر حجم أجزاءٍ من الدماغ المسؤولة عن الذاكرة الدلاليّة، إذ أنه وبعد مرور 4 أشهر من التمارين، أصبحت هذه الأجزاء من الدماغ أقلّ نشاطاً أثناء إجراء اختبارات الذاكرة الدلاليّة، وهي نتيجة مرغوبة.
ماذا يحدث للدماغ خلال التمارين؟بالنسبة للدراسة الجديدة التي نُشرت في أبريل 2019 في المجلّة الدوليّة للعلوم العصبيّة The Journal of the International Neuropsychological Society، قرّر العلماء الرجوع إلى نقطة الصفر، وتحليل الخطوات التي ينطوي عليها الوصول إلى تلك الحالة، لهدف معرفة بالتحديد، كيف يمكن أن يساهم تمرين واحد في تغيير الطريقة التي يعالج بها العقلُ الذكريات الدلاليّة.
لذلك، قام العلماء باستقدام 26 رجلاً وامرأة تتراوح أعمارهم بين 55 و85 عاماً ويتمتّعون جميعاً بصحّةٍ جيدة، كما أنهم لا يعانون من مشاكل خطيرة تتعلّق بالذاكرة، وطلبوا منهم زيارة مختبر التمارين مرّتين، حيث كانوا يستريحون بهدوءٍ أو يركبون الدرّاجة لمدة 30 دقيقة، وهو التمرين الذي اعتقد العلماء بأنه سيحفّز المشتركين دون أن يُنهك قواهم.
المشي على آلة "الترادميل" لمدة 12 أسبوعاً، غيّر حجم أجزاءٍ من الدماغ المسؤولة عن الذاكرة الدلاليّة
وبعد ذلك، خضع المتطوّعون لمسحٍ للدماغ بواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي، وشاهدوا مجموعةً من الأسماء التي كانت تظهر وتختفي عبر شاشة الكمبيوتر الموضوعة فوق رؤوسهم، مع العلم أن بعض هذه الأسماء كانت مشهورة، في حين أنه تمّ أخذ بعض الأسماء الأخرى من دليل الهاتف.
وفي حين أن الأسماء المشهورة تشكّل عنصراً مهماً من الذاكرة الدلاليّة، طلب من المتطوّعين الضغط على زرٍّ واحدٍ على الشاشة عندما يتعرّفون على أسماء المشاهير، وعلى زرٍّ آخر عندما يكون الاسم غير مألوف، وفي الوقت نفسه، كان الباحثون يراقبون نشاط الدماغ والأجزاء المعنيّة في معالجة الذاكرة الدلاليّة.
ويوضّح "كارسون سميث"، الأستاذ المساعد في علم الحركة ومدير مختبر التمرين من أجل صحّة الدماغ في كلية الصحّة العامّة في جامعة ماريلاند، أن العلماء كانوا يتوقّعون أنّ تكون الأجزاء المتعلّقة بالذاكرة الدلاليّة أكثر هدوءاً بعد التمارين، تماماً كما كانت بعد مرور أسابيع، إلا أنه ليس هذا ما حدث، بل على العكس، كانت الأجزاء المتعلّقة بالذاكرة الدلاليّة أكثر نشاطاً لدى التمارين، مقارنةً بالوقت الذي كانوا جالسين فيه.
الدماغ اشبه بالعضلات
في البداية، تفاجىء العلماء من النتائج التي توصّلوا إليها، لكنهم سرعان ما أيقنوا أنهم كانوا يشاهدون بداية الاستجابة للتمارين.
وتعليقاً على هذا الموضوع، اعتبر "سميث" أن هناك تشابهاً لما يحدث مع العضلات، فعندما يبدأ الناس في ممارسة التمارين الرياضيّة لأوّل مرّة، تُجهد عضلاتهم وتسخن بفعل الطاقة، ولكن عندما يصبحون أكثر لياقةً، فإنَ العضلات نفسها تستجيب بكفاءةٍ أكبر، من خلال استخدام طاقةٍ أقلّ للقيام بالعمل نفسه.
وعليه فإن العلماء يعتقدون أنّ زيادة النشاط بالدماغ بعد أوّل مرّة من ممارسة التمارين، هي مقدّمة لإعادة تشكيل الأنسجة نفسها، بمعنى آخر، تصبح مراكز الذاكرة في عقولنا أكثر لياقةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون