"اللهم وفّق رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد، اللهم سدّد خطاه..."، والأهمّ كان دائماً: "مكِّنه ووفِّر له البِطانة الحسنة"... إلى ما لانهاية من الدعوات التي غالباً ما تتحول إلى صوفيّات دامعة، كان الراحل، محمد سعيد رمضان البوطي، يعتنقها وينزّلها إلى أفئدة الخَلْق كلَّ خطبة جمعة في الجامع الأموي الدمشقي العتيد، صاحب المهْد الكنائسي الآداديّ العريق، أو في جامع الإيمان حيث كان يحاضر.
الراحل البوطي، أنموذج فرْد، كان له كثير أهمية وخصوصية في (بلاد شاميّة). له مريدوه التنويريّون، مكافحو السلفيّات الظلاميّة، وهابيّة كانت أم تحزّبات بشتى ألوانها وتمظهراتها.
سبحانه وتعالى لم يستجب لـ "البطانة الحسَنة"، وحتى في مُقبلات الأزمان، يبدو أنه لن يفعل ذلك، ليس وقْفاً على نهج البوطي وتياراته المتداخلة، فإن دعوات "البِطانة" كانت سبّاقة، رياديّة، متغازرة:
- الواعظون والقسّيسون ومشايخ الخطباء وأئمّة دور العبادات: "البطانة الحسنة".
- الخوارنة والمطارنة والآباء والبطاركة وأهم باباوات الفاتيكان: "البطانة الحسنة".
- عشرات ملايين البشر من سوريين وغيرهم، الخدَّج، الأجنَّة في الأرحام، الثكالى، العرسان، في المعموديّات و(كَتْب الكتاب) والتراويح والقداديس والأكاليل في الصلْب وفي القيامة، الأشجار والأنوار والأنصاب والأزلام، (المياهات) جميعها بينابيعها ومحيطاتها.
- المستجابة أدعيتهم بالتوارث الإلهي أو التطويب والتكليف الدنيوي: "البطانة الحسنة".
كلّ هذه الأنواء، وصاحب التسعة والتسعين اسماً حسناً، الباري، الواحد، الأحد عزّ وجلّ، لا يستجيب.
المتوسطة انهارت، الأطلال اندثرت
الحالة الكونية المتناسلة هذه، هي في منتهى البساطة والوضوح، وفي منتهى الغموض والتعقيد في آنٍ معاً. في مقطوعة نثرية للراحل محمد الماغوط، يطلب من جميع بؤساء ومفجوعي وجائعي العالم والمهزومين والخائبين أن يبعثوا له بكل ما تفيض به قضايا مواجعهم وكوارثهم، لأنه يُعِدّ ملفّاً ضخماً سيرسله إلى الله، ويختم: "لكن جلّ ما أخشاه، أن يكون الله أميّاً".
وشخصيّاً، ربما يكون سبحانه وتعالى مازال عالقاً في تداعيات واجتهادات ترجمة ونقْل معاني "اقرأ". وإلّا ما مصير "أجيب دعوة الداعي إذا دعان"، أم أنه الشأن السوري المستعصي على المعجزات والدعوات والخبرات الإلهية ووكلائها على الأرض؟
لم يعد من وقت لمنطقٍ بكى واستبكى. وليس نبْشاً أو استحضاراً لبعض انتصاراتٍ في زمن الفاجعة/الهزيمة، لكن التاريخ المعاصر للسوريين محتشد بنماذج/ حالات تجاوزت فرديتها إلى نهْج جماعي شعبي، بمآثر حقيقية لا تمتّ بأدنى صلة رَحم لجمهرات الاحتفالات و(بَعِّيقَة) التجمّعات.
من دون تطويل لا فائدة منه، يبدو جليّاً أن العليّ القدير قد استقال من مهامه في الشؤون السورية، أو أنه أُجبر على ذلك. المدقعون في الفقر وأباطرة المال الآثم ومصّ الدم، وحدهم الناجون من الفجيعة. الطبقة الوسطى انهارت بعد أن طعنت خرافات قومجيّتها واشتراكياتها، فرَّت، اختفت، لم تترك أثراً، طَللاً، داراً، أو حتى بقايا حُطام.
المدقعون في الفقر وأباطرة المال الآثم ومصّ الدم، وحدهم الناجون من الفجيعة. الطبقة الوسطى انهارت بعد أن طعنت خرافات قومجيّتها واشتراكياتها، فرَّت، اختفت، لم تترك أثراً، طَللاً، داراً، أو حتى بقايا حُطام
سبّاقون في النبوغ، مغيَّبة عبقريّاتهم
منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي تحديداً، تجاوز ثمن الحمار الواحد، أضعاف ثمن أحدث سيارة في العالم.
من أقصى تلال حلب وجبال اسكندرون- اللاذقية، مروراً بالداخل إلى ما بعد الثغور في صيدا وصور، طريق واحدة لا يعترف حمارها بحدود على الخريطة. شامتاً بـسايكس وقرينه بيكو، ساخراً من مريديهما، مطمْئناً شرائح بشرية شاسعة من أصحاب الحاجات إلى يُسْر وأمان تنقُّله حيث التبادل الاقتصادي الحرّ، غير آبه بقوانين استبدادية لنظامين يحكمان شعباً حرّاً محبّاً للحياة.
معلّمو ومدرّبو هذه المخلوقات "السياديّة" على معرفة أنثروبولوجية انتقائية متميزة بشقّيها البيولوجي والطبيعي، واستلهموا تاريخ إمكانات الحمير، واخترعوا لها طفرات ذكاء معاصرة لخدمة شعوبهم الموجوعة وبلادهم المتعبة.
أساتذة الحمير النوابغ (المعنيّون) تفوّقوا في مناقبيّتهم الرعوية التربوية على القواعد المطبّقة في الديمقراطيّات الغربية بما يتعلق بشؤون الحيوان، وبالتالي الإنسان. في مثال بسيط، قامت مدينة بلاكبول الساحلية البريطانية بتطبيق قواعد صارمة للحفاظ على الحمير، منها ألا تتجاوز مدة عمل الحمار ستة أيام في الأسبوع، ما بين الساعة العاشرة صباحاً والسابعة مساء، تتخللها ساعة راحة يومياً لتناول وجبة الغداء، مع إجراء اختبارات صحية قبل بدء موسم الصيف.
أمّا حميرنا (المؤهلَّة)، فهي تحظى بحريّات مطلقة غير مسبوقة، وهذا حقّها، فهي أهل لثقة مؤهّليها: ساعات وأيام العمل غير محددة. الحمار صاحب (الثقافة العضوية) يختار الأوقات المناسبة بنفسه وأنواع البضائع والطرق، وهو على دراية كاملة بكمائن عناصر الجهات المعنية، ومَن منهم في منظومة مؤازرته، وكذلك الذين مازالوا في طور الإعداد والتعبئة. إنه يعيش حريته التي يستحقها مالكوه.
أما ما يتعلق بالرعاية الصحية، فإن الحمار طبيب نفسه، ويتمتع بمعارف بيطرية تحقق له ولمعلّمه حماية مناعية شاملة، ساحقة ماحقة للأوبئة ولسلالات الأمراض الفتاكة، حتى التي لازالت منها في طور التصنيع. وإذا كان قدامى اليونان وشرق المتوسط قد أقاموا علاقة إيمانية طقوسية ما بين الحمير وما بين أحبّْ آلهتهم إلى قلبهم (ديونيسوس، حدَدْ، إيلابيل...) فإن المعاصرين أنسَنوا الآلهة وأنزلوها من سماواتها إلى أرض العمل والإنتاج، كما استخرجوا تلك التي تتخفّى في باطن الأرض، وطبَّعوا عيشتها مع الحمير المصطفين، وانتفت أسباب قيام عشتار بعمليّات (كوماندوس) للعودة بحبيبها تموز من العالم السفلي. لأن العاشق العريق صار في الأعلى متمتعاً برفاهيات الإقامة (الجبرية الاختيارية) إلى جوار السعداء الأبديين.
مازالوا يخيطون ببطن الحمار
ماذا لو وصلت المفاوضات والحملات الاستشارية ما بين أساتذة نوابغ الحمير والقوى الافتراضية المعنية إلى النجاح؟ وتم التوافق على قيام الخبراء بإنشاء محترفات لتصنيع "بطانات حسنة"؟ ماهي المواصفات وأصناف الكوادر واللوائح التشريعية والتنفيذية؟ ما مصير "الخبراء" ومعارفهم وتراثهم التأسيسي والريادي؟ ما مصير منتوجاتهم الحميريّة المتبقية، أو تلك البشرية، إن وجدت؟
في زمن غابر يتمظهر يومياً: شاء محمد بن أبي بكر الصديق (الخليفة الراشدي الأول) أن يتخذ موقفاً أو يدلي برأي في شأن شورى الخلافة (أظهر تعاطفاً مع علي بن أبي طالب، كما يُروى) وكان الحل مع ابن الصدّيق بأن بقروا بطن حمار حيّ وانتشلوا أمعاءه وقذفوا به حيّاً إلى الجوف، ثم قاموا بخياطة بطن الحمار المشقوق، وإلى يومنا وما سيأتي: يبقون يخيطون بـبطن الحمار، ذلك أن الحمير تتكاثر بمتواليات هندسية، و(المحمّدات) في جهوزيّة لا تنضب.
من أقصى تلال حلب وجبال اسكندرون- اللاذقية، مروراً بالداخل إلى ما بعد الثغور في صيدا وصور، طريق واحدة لا يعترف حمارها بحدود على الخريطة.
كان لـ"بغْلة أبو غالب" في مدينة مصياف وسط سوريا، شهرة فولكلورية شعبية، كثيراً ما تقترن بالطرافة. إلا أن الضالعين في المعرفة وخبثاء المستشرقين من محليين أو أجانب، كانوا يدركون أهميتها الخافية على (العلماء الجهَلة). فبعد أدائها لإنجازاتها، فإن مبيت بغلة أبو غالب ثابت شرق القلعة التاريخية في المدينة، على بُعد أمتار من "سنجق صلاح الدين" في الدرب المؤدية إلى "طاقة الشيخ يوسف" عبوراً إلى تلّة "الشيخ محمد التل" وغيرها.
في مسرحية "غربة"، وبعد إعلانها دولة مستقلة، كانت حدودها السياديّة: "من الشمال: شجرة التوت اليبْسانة، من الجنوب: مزبلة أمّ صطوف، من الشرق: قهوة غربة. ومن الغرب: حمار الحجّة".
المزبلة والشجرة اليبْسانة والقهوة، ثوابت مثل بغلة أبو غالب. المتحرّك الأساسي الوحيد الحرّ هو "حمار الحجّة". بمفرده يقرر مصير الحدود والحرب والسلْم وتزكية أولي الأمر وكل (الشيئيّات)، وهو الضمان الآمن القدَري لديمومة "عُظَمَيات الدول" و"البطانات الحسنة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...