تجمع شوارع المدن المصرية أجيالاً من عربات الباعة الجوالين التي تعبّر عن ثقافة كل حقبة وطقوس البيع والشراء فيها وطبيعة المعاملات التي أثرت على شكل الحياة اليومية للمصريين، إذ يبدأ اليوم بنداءات بائع الفول، وموسيقى عربته الخشبية يجرها حماره وهو يصيح "حليب يا فول" على إيقاع واحد.
هنالك اليوم العديد من العربات التي يظهر بعضها في مواسم معينة ويقترن بعضها بالليل وبعضها الآخر بكورنيش النيل والرومانسية، عربات استطاعت أن تفرض وجودها وشكلها على جميع الأزمنة، وأخرى نالت شيئاً من التحديث والإضافة، وثالثة هي بنت أفكار الشباب.
عربات الفول والبليلة: النموذج الأشهر للعربات الخشبية التي تسيطر على شوارع مصر، وخاصة القاهرة الكبرى، باللونين المتداخلين الأخضر والأحمر، والنقوش والعبارت الشهيرة المميزة باللون الأبيض مثل: "إن خلص الفول.. أنا مش مسؤول"، "ما خطرتش على بالك يوم.. تفطر عندي"، بينما ينحصر وجود البائع الجوال ذي العربة الخشبية الصغيرة التي تتسع لحمل قدر للفول وأخرى للبليلة (حبوب القمح المسلوق)، في بعض المناطق بالقاهرة.
"سوق بينا ياسطا على الكورنيش"
على الكورنيش والجسور التي تربط بين ضفتي النيل في القاهرة الكبرى، تنتشر عربات الترمس والبطاطا والتين الشوكي والفيشار (حبوب الذرة المحمصة) والحلبسة (حمص الشام) والذرة المشوية وغيرها، ولكل واحدة شكل مميز يمكن للسائر التعرف عليه عن بعد، خاصة أنها تشتهر بالدفع اليدوي أو مزودة بدراجة عادية. البطاطا: عربة لا تزال تحافظ على شكلها التقليدي وعلى طريقة التقديم في أوراق الكتب والجرائد القديمة، مضافاً إليها بعض من الملح أو السكر حسب الطلب، يتقدمها ماجور صغير ذو مدخنة وبوابة لوضع الأخشاب وهو يشبه الفرن، بينما يقوم البائع بشي البطاطا أعلاه، وتزيين بقية العربة التي يجرها بثمار موزعة في شكل بسيط ومميز. الترمس: تشتهر عربته بآنية الماء الفخارية "القلل القنائية" البيضاء ذات الرقبة الطويلة، وتعلوها أغطية هرمية من المعدن، وتتراص حبوب الترمس على الشكل الهرمي وعليها ثمار الليمون وإلى جانبه الحمص المسلوق، وفي مقدمة العربة تتراص علب الكمون والملح، وبينما كان الترمس يقدم في قرطاس ورقي مخروطي قديماً، صار يقدمه البعض في أطباق من الفوم أو الأكياس البلاستيكية. حمص الشام: تظهر في الشتاء، على الكباري والكورنيش، يمكن تمييزها عن غيرها بالأكواب المتراصة والمعلقة بشكل مميز على جوانب العربة التي تنتصفها القِدر الحديدية الكبيرة ذات القبة المميزة، وتحيطها زجاجات الشطة والدقة (خليط من الليمون والخل والتوابل)، وتقدم الحمص المطبوخ في أكواب مع ملعقة، أو أكياس بلاستيكية مزودة بالشفاطة (الأنبوب البلاستيكي). الفيشار: وبينما ظلت عربات البطاطا والترمس على حالها، تغيرت العربات التي تقدم الفيشار "الذرة المحمص/بوب كورن"، والتي لا تجر مثل البقية بل تستقر على الجزء الخلفي لها كدراجة عادية يمكن قيادتها مثل التروسيكل، ولها أوجه زجاجية وقوائم خشبية بينما تتدلى في المنتصف المحمصة، التي تخرج الفيشار ساخناً، ليعبأ في أكياس بلاستيكية، ومؤخراً أصبح البعض يجلبون العلب الكرتونية التي توزع في السينما، وإضافة السكر أو الكراميل وغيره إلى الفيشار، بدلاً من اقتصار الأمر على الملح وحده. كبدة وسجق: تعتبر تلك السندويتشات من أشهر الأكلات الشعبية المصرية، ولعربة الكبدة شكلها المميز أيضاً، إذ يعلق السجق (النقانق) خلف الزجاج المزين بحبات الطماطم والفلفل الأخضر إلى جانب هرم من أرغفة الفينو "الخبر"، إضافة إلى حلتين أساسيتين لطبخ الكبدة السجق.أجيال وموديلات الجديدة
من الدندورمة إلى النيتروجين: أطلق على بائع الأيس كريم قديماً بياع الدندورمة وللتليفزيون المصري تابلوه غنائي شهير بعنوان "دوق الدندورمة"، وبعدها انتشرت العربات الخشبية التي تقدم الأيس كريم باسم "الجيلاتي" في أكواب بلاستيكية أو أقماع البسكويت المخروطية. ولكن وجود تلك العربات انحسر لمصلحة انتشار عربات جديدة تقدم الأيس كريم المصنوع بواسطة النيتروجين، وتنافس المحلات المتخصصة والماركات الشهيرة الجاهزة، كما أن تحضيرها يمثل عرضاً فنياً ينتبه له المارة حسب مهارة البائع. زلابيا والوافل: بينما تستمر عربات الحلوى الشرقية الشهيرة في المناطق الشعبية، ظهر الجيل الجديد من عربات الحلوى الأكثر تخصصاً، إذ تقدم العربات الثابتة الصغيرة ذات الألوان الحمراء المميزة الزلابيا المعروفة سابقاً بـ"لقمة القاضي"، أو أنواع الوافل المتعددة وتبيع بعض تلك العربات البطاطس المحمرة أيضاً.كوستا في التيوتا
هكذا دمجت مجموعة من شباب منطقة فيصل بمحافظة الجيزة، اثنتين من العلامات التجارية الشهيرة، إحداها لسلسة كوفي شوب والأخرى لماركة سيارات، ليبدأ مشروعهم الذي بات من بين أهم العلامات التجارية في الشارع المعروف بازدحامه الدائم، وهو عبارة عن سيارة ميكروباص متوسطة الحجم، تقدم القهوة والأيس كريم والعصائر والمشروبات الساخنة على طريقتها الخاصة. كنا على موعد معهم، لكننا لم نجدهم في مكانهم المعتاد، إذ تواروا قبل أن تصل سيارات الحملة الحكومية لإزالة كل المخالفات التي تتسبب في الاختناق المروري، ولكنهم عادوا في اليوم التالي، وكان في انتظارهم زبائنهم من الأهالي والذين يساندون المشروع، حتى أن بعض الزبائن اقترحوا ضرورة وجود منصات على السوشيال ميديا باسم المشروع، وهو ما يعتبره أصحاب المشروع مرحلة جديدة. في منطقة تكتظ بالمطاعم والمقاهي المختلفة، ما يعني منافسة شرسة، راهن أحمد عبد العظيم، الشاب الثلاثيني خريج كلية الحقوق، على "فضول الناس وانجذابهم للمختلف، وكسر علاقتهم اليومية مع الميكروباص والتي تنحصر في كونه المواصلة الأكثر استخداماً خلال اليوم المزدحم، وهكذا يتحول الميكروباص من وسيلة مواصلات عادية لوسيلة ترفيه وخدمة مختلفة وقضاء لحظات سعيدة"، ومن هنا جاء اسم المشروع الذي عول عليه أصدقاؤهم وشركاؤه الستة. قبل أن تدخل حيز التنفيذ، درس "أبو أنس" كما يعرفه الأهالي، الشكل والمجال الذي ينتمي إليه مشروعه، ويقول "الفكرة موجودة بالفعل في العديد من الدول الغربية والعربية، منذ أكثر من 30 عاماً، وكثيراً ما يميز أصحاب تلك المشروعات أنفسهم عن المحلات، فلا يحاول أصحاب عربات الطعام مثل البرجر والهوت دوج مثلاً، أو عربات المشروبات والقهوة، أن يقدموا وجبة أو منتجاً مماثلاً لما تقدمه المحلات الشهيرة، أو حتى الاستعانة بنفس طريقة التقديم، بل يبحثون عن طريقة خاصة بهم، وبذلك يحسمون أمر المنافسة". كثيراً ما انشغل "أبو أنس" بفكرة المشروع الخاص منذ المرحلة الجامعية، فقد عمل في مجالات المطاعم والفندقة وبعض المشاريع ذات الصلة بمجال السياحي، وذلك ما شجعه على اختيار بعض المنتجات التي لم تكن قد اشتهرت في المنطقة التي بدأ فيها مشروعه "كوستا في التيوتا"، مثل الأيس كريم رول الذي كان محصوراً ببعض المحال في مناطق محدودة قبل أن ينتشر بشكل كبير، كذلك المشروبات مثل السموزي والتي لا تقدمها المقاهي المحيطة به، فضلاً عن ابتكار بعض الأصناف الخاصة به. بدءاً من موظفي البلدية وصولاً لنائب المحافظ، هنالك العديد من الإجراءات والعراقيل التي يثابر أحمد وأصدقاؤه على إنجازها وتخطيها ليتمكنوا من استيفاء التراخيص اللازمة لممارسة العمل في مشروع يجسد طموحهم بشكل طبيعي، يقول أبو أنس "لما بدأنا الفكرة لقينا شباب كتير قالوا لنا إن كان عندهم أفكار مشابهة، وحسوا إن المشروع ممكن يبقى موجود فعلاً، ولكن بمجرد التفكير فيه وفي آليات التنفيذ، وإزاي هاقف بعربية متنقلة في الشارع، إزاي أوفر كهربا مياه وهكذا، لذلك تراجعوا عن اتخاذ الخطوات الأولى"، يضيف "احنا كشباب مش محتاجين دعم مادي قد ما احنا محتاجين دعم معنوي".الماركات الفاخرة للأحياء الراقية
وبينما بدأت سيارات الميكروباص مثل "كوستا في التيوتا" في الأحياء الشعبية، بدأت أيضاً بعض المشاريع المشابهة في المناطق الراقية بالقاهرة الكبرى، ولكن باستخدام سيارات ذات علامات تجارية كبيرة مثل الجيب الرانجلر وغيره، في تقديم القهوة، ولكن دون تثبيت مكان معين، حيث يقوم بعضهم بتأجير هذه السيارات والتجول بها في بعض الأحياء الراقية في أيام الإجازات، وفي أيام العمل ببعض الأحياء الأخرى المشهورة بانتشار الشركات فيها وندرة المقاهي والمطاعم، حيث تقدم أنواعاً فاخرة من القهوة والمشروبات بأسعار تتناسب مع الفئات المستهدفة وأيضاً الإيجار المدفوع في سيارة من هذا النوع.شارع مصر
في أغسطس الماضي، افتتحت الحكومة المصرية ممثلةً في جهاز محافظة القاهرة، أول تجربة لـ"شارع مصر" لجمع المشروعات الصغيرة للشباب بالتعاون مع إحدى الشركات الخاصة بإدارة وتطوير المشروعات، وفقاً لشروط ميسرة، وبدأت بمنطقة مساكن شيراتون بالنزهة، على مساحة 1000 متر مجهزة لاستقبال عربات الأطعمة والمشروبات والمشغولات اليدوية وغيرها، مع توفير عناصر الأمن والخدمات الأساسية ومسرح صغير، وذلك بتوجيه من رئيس الجمهورية، بعد أن ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بالقضية الشهيرة لـ"فتاة عربة البرجر" التي تعرضت لإزالة مشروعها بسبب عدم وجود تراخيص. وخلال الأشهر اللاحقة، أعلنت محافظة القاهرة استثمار نجاح المشروع الأول في عدة مناطق مختلفة، كما أعلنت عدة محافظات أخرى تخطيط وتنفيذ المشروعات في مناطقها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...