لا أدري إنْ كانت مديرتي في الجامعة تعلم قبل وصولي إلى مدينة سينسيليخو في شمال كولومبيا أنني عملت سابقاً في تدريس اللغة العربية للأجانب أم لا، فقد كان عقدي ابتداءً مخصّصاً لتدريس اللغة الإنكليزية، وللمساعدة في إعداد مناهج دورات اللغة الإسبانية للأجانب، لتخصصي في مجال تدريس اللغة الإسبانية كلغة أجنبية.
لكنّنا، بعد أحاديثنا الأولى، حين أخبرتني أنها مسلمة منذ سنوات، وأنها بدأت في تعلّم اللغة العربية لكنّها لم تكمل، لانشغالها في العمل الأكاديمي والإداري، بدأنا نفكّر في بدء دورة لتعليم مبادئ اللغة والثقافة العربية.
قررتُ اختيار الثقافة المصرية تحديداً لقصر مدة الدورة، ولكي أمزج عامليْ جذبٍ كبيرين لوسط جامعي في مدينة صغيرة في قارة بعيدة لا تعرف الكثير عن عالمنا البعيد: اللغة العربية التي تُعَدُّ لغزاً عجيباً لسكان هذه البلاد، والثقافة المصرية التي يظنُّ الأغلبية هنا أنها مقتصرة على الأهرامات وأبي الهول.
"حفيف"
حضر تلك الدورة القصيرة بعض طلاب الجامعة من كليات مختلفة، وبعض الأساتذة من أصدقائي، واختارت إحداهنّ اسم "حفيف" لديوانها الأحدث حين اندهشت بأن في العربية اسماً لكل صوت.
خلال الدورة، وأثناء تجولي بين أقسام الجامعة المختلفة مع زميلتي الرومانية، نجري تدريبات لممارسة اللغة الإنكليزية لموظفي الجامعة، وتتخلل هذه الجولات محادثات مع الموظفين في مكتباتهم، سألتني عنّي ومن أين أتيت.
أثناء شهور من اجتماعات مجلس إدارة الجامعة المتكررة مع لجنة الجودة والاعتماد التي كانت تجري زيارات دورية، كنت أُصدَّرُ فيها دائماً للحديث باعتباري أستاذاً آتياً من عالمٍ بعيدٍ كل البعد، وثقافةٍ مختلفة كل الاختلاف، ولكنني على تواصل واطّلاع على ثقافة أمريكا الجنوبية والثقافة الكولومبية والكاريبية ومندمجاً فيها، رغم قصر إقامتي هنا.
كان من أكثر ما يشغل تلك الأحاديث مداخلات كثيرين من أعضاء هيئة التدريس أو مكاتب الجامعة المختلفة عن أصولهم العربية، فكثيرون منهم لديهم لقب عائلة عربيٌّ أو يعرف عن تاريخ العائلات العربية في هذه المنطقة من كولومبيا.
توازى ذلك مع حديث صديقي الشاعر سالومون فرهلست لي عن الشعراء الكولومبيين ذوي الأصول العربية، والذين شكّلوا في ما بعد واحداً من مجالات اهتماماتي الأساسية، سواء في الكتابة أو الترجمة أو التقديم، ومنهم الشعراء: راؤول غوميس خاتين، وأولغا شمس الحاج، وخورخي غارسيّا أوسطى، ومونيك فقوسّ، وغيرهم.
بدأت شيئاً فشيئاً خيوط تلك الشبكة تتركّب ليصبح واضحاً لديّ لمذا ساقتني الأقدار إلى منطقة الكاريبي الكولومبي، والتي قد تعتبر واحدةً من أفقر مناطق البلاد، باستثناء مدنها السياحيّة الكُبرى مثل كارتاخينا وسانتا مارتا، ومدينة النفوذ والحضور العربيّ الأكبر بارّانكيّا. كوني أستاذاً للغة والأدب العربيين، ومهتمّاً بالاطلاع على الإنتاج الأدبي والثقافي لكتّاب كولومبيا وأمريكا الجنوبية ذوي الأصول العربية جعل من منطقة الكاريبي مبدأ رحلة مثاليٍّ لي في هذه البلاد.
بعد أن تتبعت خُطى الكتّاب والمؤلفين ذوي الأصول العربية، بدأ التواصل مع أجيال الشباب من المهتمّين بالبحث عن أصولهم والاقتراب من لغة وثقافة أجدادهم العرب. حدث ذلك حين حدّثتني صديقتي المترجمة الأردنية تقوى مساعدة عن صديقة لها كولومبية كانت تدرس اللغة العربية في الأردن منذ سنوات، وهي من مدينة بارّانكيّا. تواصلت مع أوديت جيدي وأخبرَتني فور تواصلنا أنها تبحث عن مدرّس للغة العربية مقيم في كولومبيا منذ شهور. كانت أوديت، وهي كولومبية من أصل فلسطيني، هاجر أجدادُها إلى مدينة بارّانكيّا واستقرّ فيها أحفادهم، قد أنهت دراسة الماجستير في جامعة لندن عن أدب المهجر العربي في الأمريكتين. وبعد عودتها من المملكة المتحدة، أسّست جيدي معهد الثقافة العربية في كولومبيا في مدينة بارّانكيّا ليكون جسراً للحوار بين كولومبيا والعالم العربي وليساهم في مشاركة المعرفة في ما يتعلق بالهجرات العربية والحضور العربي في كولومبيا.
تدريس اللهجة المصرية
حدّثتني أوديت في المكالمة الأولى عن قصيدة للشاعرة الكولومبية التي عاشت حياتها كلها في مدينة بارّانكيّا، أولغا شمس الحاج، والتي كتبتها للمناضلة الفلسطينية ليلى خالد. ولتزامن حديثنا مع ذكرى النكبة الفلسطينية، ترجمتُ القصيدة إلى العربية ونشرتُها، وبدأ من وقتها التعاون مع المعهد.
بدأنا بفتح دورة لتدريس اللغة العربية باللهجة المصريّة، وذلك لاستقرارنا على طول مسيرة تعلّم العربية الفصحى لجمهور عام يريد استخدام اللغة في التواصل مع العالم العربي أو في القدرة على الغوص في معرفة الثقافة العربية المعاصرة. كان تنوّع الطلاب والعدد الكبير ممّن سجلوا مبهراً لنا. وانقسمت الأسباب التي وضعها الطلاب لرغبتهم في دراسة اللغة العربية إلى أسباب رئيسية تعبّر بشكل كبير عن فئات المهتمّين باللغة العربية في بلدان أمريكا الجنوبية:
1. الاهتمام بالثقافة العربية والرغبة في الاقتراب منها من خلال تعلّم لغتها.
2. الرغبة في التواصل مع لغة الأجداد المهاجرين من العالم العربي إلى شواطئ أمريكا الجنوبية.
3. الاهتمام بالموسيقى العربية وتحديداً الرقص الشرقي المنتشر بين أعداد كبيرة من الشابّات والشباب في مختلف دول القارة.
4. اعتناق الإسلام والرغبة في تعلّم القرآن ومبادئ اللغة العربية.
5. الاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط وخصوصاً بين طلبة أقسام كليات العلوم السياسية أو الدراسات الآسيوية والإفريقيّة.
6. الاهتمام بعلم المصريّات والرغبة في الاقتراب من الثقافة المصرية.
7. الرغبة في التواصل مع أصدقاء من العالم العربي.
8. التفكير في فرص عمل ممكنة في بلدان ناطقة باللغة العربية.
9. الاهتمام بالمطبخ العربي، خصوصاً مع حضور الكثير من الأطباق العربية في بعض الدول، ومثال مدينة بارّانكيّا ذات السبعين مطعماً عربيّاً يؤكد ذلك.
10. الاهتمام بالأدب العربي والرغبة في قراءته بلغته.
"بعد أن تتبعت خُطى الكتّاب والمؤلفين ذوي الأصول العربية، بدأ التواصل مع أجيال الشباب من المهتمّين بالبحث عن أصولهم والاقتراب من لغة وثقافة أجدادهم العرب"
كان الطلاب العشرون الذين بدأوا المستوى الأول من دورة اللغة العربية التي نظمها معهد الثقافة العربية في كولومبيا معبّرين بشكل متنوع عن الفئات المختلفة للمهتمين باللغة العربية في هذه البلاد.
الفئة الأوسع كانت من الجيل الثالث أو الرابع للمهاجرين العرب الذي جاؤوا إلى بلدان أمريكا الجنوبية نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وأكثرهم كان من مدينة بارّانكيّا في شمال كولومبيا، مسقط رأس الشاعرة الكولومبية ذات الأصل العربي أولغا شمس الحاج وكذلك المغنية الكولومبية شاكيرا، ذات الأصل اللبناني أيضاً.
كذلك كان بين الطلبة مَن تدرس علم المصريات وتهتم بالثقافة المصرية وبموسيقاها وأفلامها وباللغة العربية بالتبعيّة. أخريات كن يدرسن ويمارسن الرقص الشرقي ويردن تعلم اللغة العربية للاقتراب من الثقافة التي أنتجت هذا الفن الذي يتعلمنه، ولكي يفهمن الأغنيات العربية القديمة والحديثة من أم كلثوم إلى عمرو دياب.
السفرُ أيضاً كان حاضراً في دوافع بعض الطالبات اللواتي كن قد زرن مصر من قبل وأعجبن بها وبثقافتها وأردن التعمق في تعلم لغتها، أو لم يزرن مصر لكن عرفن أصدقاء مصريين في الخارج مثل كارين، الدبلوماسية الكولومبية التي كانت تعمل في مدينة "لاباس"، عاصمة بوليفيا لخمس سنوات وهناك تعرفت على الكثير من المصريين والعرب وأحبت الثقافة واللغة العربية.
سيندي الكولومبية وفاوستو الإيطالي كانا يتعلمان العربية لرغبتهما في الذهاب إلى فلسطين والعمل مع منظمة الصليب الأحمر هناك. والبقيّة كانوا يتعلمون لرغبة في معرفة لغة جديدة والاطّلاع على ثقافة أخرى.
"مصر في كولومبيا"
استمرت دورات اللغة العربية باللهجة المصريّة، ثم بدأت بعدها دورات للهجة الشامية التي نظمها المعهد بالتعاون مع معهد لتدريس اللغة العربية في الأردن.
وأثناء ذلك عقد المعهد محاضرات عن الأدب العربي، قديمه وحديثه، من شعر أبي نواس إلى نازك الملائكة ومحمود درويش، ثم تحدثت عن نجيب محفوظ.
كان الجمهور يزداد شيئاً بعد شيء، فليس في كولومبيا ولا في أمريكا الجنوبية بشكل عام مراكز ومعاهد كثيرة تنشر اللغة العربية وثقافتها وآدابها في خارج حدود المعاهد الإسلامية التركية أو السعودية، والتي لا تسع المشارب المختلفة للمهتمين بالثقافة العربية.
"ليس في كولومبيا ولا في أمريكا الجنوبية بشكل عام مراكز ومعاهد كثيرة تنشر اللغة العربية وثقافتها وآدابها في خارج حدود المعاهد الإسلامية التركية أو السعودية، والتي لا تسع المشارب المختلفة للمهتمين بالثقافة العربية"
بالتزامن مع التعاون مع المعهد، تعرفت على مجموعة اسمها "مصر في كولومبيا"، أنشأتها سيدة كولومبية متزوجة بشاب مصري وأغلب أعضائها عائلات مصريّة-كولومبية، إما فتيات كولومبيات متزوجات من شبان مصريين، وهو الأغلب، أو العكس.
حينها، بدأت ألحظ فئة جديدة من فئات المهتمين بتعلم اللغة العربية في كولومبيا، وهم زوجات وأزواج المصريين. لكن الملفت للنظر أن أغلب أولئك لم يكونوا يعرفون العربية حتى بعد مرور سنواتٍ كثيرة على زواجهم، ومَن لديهم أولاد منهم ولدوا ويعيشون هنا، لا يهتمون كثيراً بتعليم أولادهم العربية، وهو تحديداً ما حدث مع أبناء وأحفاد المهاجرين العرب الأوائل، ما جعل هؤلاء الشباب الذين يحملون ألقاب عائلات عربية الآن يبدأون من الصفر محاولين تعلم لغة بصعوبة العربية، في حين كان أجدادهم يستطيعون الحفاظ عليها، لولا ظروف المهاجرين الأوائل التي قد نحكي عنها في مقالة أخرى.
بعد شهور من الاشتراك في أحاديث ودعوات للحديث عن الأدب العربي وعن الكتاب الكولومبيين ذوي الأصل العربي الذين بدأت منذ شهوري الأولى في دراستهم وترجمتهم، بدأت بالانتقال إلى محاولة الحديث عن الأدب العربي المعاصر المجهول تماماً لدى قراء الإسبانية على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
تحدثت عن الشعر الجاهلي والشعر العربي في عصوره المختلفة ثم عن الأدب الأندلسي والالتقاء بين الثقافة العربية والثقافة الإسبانية ثم مجيء تلك الأخيرة إلى القارة الأمريكية بالكثير من ذلك الإرث العربي الذي لا يصل إليه مواطن أمريكا الجنوبية عادةً وهو ينظر إلى أصول الإرث الثقافي الإسباني.
عدت بعد شهور إلى تدريس المعلقات العربية بادئاً بمعلقة امرئ القيس حين تواصل معي شاب كولومبي يخبرني أنه استمع إلى حلقة راديو الحارة التي استضافتني فيها الموسيقيّة الكولومبية إيدنا مارتينيس وقرأنا فيها قصائد بالعربية والإسبانية لشعراء من منطقة الكاريبي الكولومبي من أصل عربي وقصائد لي بالعربية.
أخبرني أنه منذ عامين يبحث عن مدرّس للغة العربية يعيش في القرية الصغيرة التي يعيش هو فيها منذ عامين، وأنه بعد أن استمع إلى الحلقة في اليوم السابق بحث عن حسابي على إنستاغرام ووجد أنني أزور نفس القرية، فكتب يطلب منّي أن أدرّسه.
التقينا في اليوم التالي مباشرة وبدأنا دروس اللغة العربية التي قررنا الحديث فيها بالمصرية، واتخاذ الأدب العربي قديمه وحديثه مادة دروسنا، منذ المعلقات وقصائد المتنبي والشعر الحديث إلى روايات نجيب محفوظ، كذلك بدأنا في مشاهدة مسلسل الخواجة عبد القادر، ورشحت له قراءة ترجمة إسبانية للمعلقات أجراها المستشرق الإسباني فيديريكو كورّينتي، قبل أن نقرأ مختارات منها بالعربيّة.
كان أندريس نوبوا قد عاش في المملكة العربية السعودية عامين يدرس الماجستير في الهندسة البيئية، ثم زار فلسطين وأقام فيها ستة أشهر، ومثلها في مصر.
ذكّرني انتظار أندريس الطويل لأستاذ يدرّسه العربية وعدم توفر خيارات كثيرة بأصدقائي الكولومبيين الذين عرفتهم أو تواصلت معهم أثناء سنوات إقامتي هنا، والذين أحبوا الثقافة العربية والمصرية وعاشوا سنوات طويلة في مصر، وكتبوا أو يكتبون عنها.
أولهم ريكاردو بارغاس الذي قرأت كتابه "القاهرة أم الدنيا" المنشور ضمن سلسلة "مهاجرين" لدار نشر كولومببية تهتم بأدب الرحلات. درس ريكاردو في كلية المكسيك (El colegio de México) دراسات الشرق الأوسط واللغة العربية، ثم ذهب إلى مصر وأقام هناك أربع سنوات وغادرها حين قامت ثورة 25 يناير 2011.
كتب ريكاردو كتابه عام 2016، وحين قرأته كان خير مثال على التقاء هذين العالمين وقربهما، وعلى كل تلك الجسور التي يمكن أن تُمدّ وتجد آلاف وملايين ممّن يعبرونها من كلا الجانبين بين العالم العربي وأمريكا الجنوبية.
بعد شهور، تواصل معي كاتب كولومبي يعيش في مصر وأخبرني أنه قرأ مقالتي عن الكاتب الكولومبي ذي الأصل العربي خورخي غارسيّا أوسطى ويريد ترجمتها للإسبانية.
عن طريق ماتيّاس تواصلت مع صديقة له عاشت في مصر عشر سنوات وتكتب الآن رواية في سنوات حياتها هناك. كل تلك القصص تطيل إجابتي حين يسألني أحدهم، كولومبياً كان أو عربيّاً: لماذا يتعلّم الكولومبيّون اللغة العربية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...