شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن الشاعر الكولومبي خورخي غارسيا أوسطى وممالك أبناء المهاجرين العرب الرحّالة

عن الشاعر الكولومبي خورخي غارسيا أوسطى وممالك أبناء المهاجرين العرب الرحّالة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 7 مايو 202105:20 م

دون أن أدري لماذا، حملتني الأقدار إلى ذلك الجانب البعيد من أرض كولومبيا الشاسعة: الكاريبي. كنتُ كلّما سُئلت طوال السنوات الماضية عن سبب اختياري اللغة الإسبانية وآدابها مجالاً لدراستي أعدِّدُ أسباباً أحدها الوجود العربي في الأندلس، والعلاقة التاريخية والثقافية والأدبية بين العرب وإسبانيا.

واختبرتُ ذلك بلحمي ودمي حين ذهبتُ للدراسة في جامعة سلمنكا وبكيتُ في أول زيارة لي إلى ميدان إسبانيا في إشبيليّة، وعدتُ للبكاء على قمة مئذنة جامع إشبيليّة. لا أعلم الآن إنْ كان ذلك البكاء أسفاً أم تأثُّراً بالجمال أم لفكرة الخسارة والانهزام المتعلقة بقراءة شخصية للتاريخ.

لكنني على أي حال، وجدتُ شوارع المغرب وأزقّتها وحواريها في شوارع غرناطة والبيّازين والمطاعم العربية وقصر الحمراء، وإنْ لم أكن قد زرتُ المغرب من قبل، ولا من بعد، إذ كانت زيارة الأندلس في إجازة أسبوع الآلام اختياراً ثانياً حين لم أتمكّن من الالتحاق برحلة إلى المغرب نظّمتها مجموعة إيراسموس (المنحة التي كنت أحد طلابها) لأن الوقت لم يكن ليسعفني لطلب التأشيرة، بينما كان أصدقائي الفرنسيون والإسبان والإنكليز يستطيعون الذهاب.

أثر عربي في المقلب الآخر من العالَم

كانت شهور الدراسة في إسبانيا تَحقُّقاً لتلك الرغبة البسيطة التي شكلت أحد دوافع اختياري الدراسة، فقد رأيتُ هناك لوركا وأثر الشعر العربي فيه، ورأيتُ العمارة في الأندلس، وشاهدتُ الفلامنكو وتيقنت حينها أنه الموسيقى الأشدُّ أثراً في نفسي بعد الموسيقى العربية. لكنّني في كل ذلك، وبعد عودتي إلى مصر لم أكن قد سمعتُ عن حضور أو أثر عربي على الجانب الآخر من العالم.

بدأت بالسماع عن ذلك في محاضرات الدراسات العليا مع أستاذتي رشا عبّودي حين حدثتنا عن أعمال كاتبات وكتّاب جنوب أمريكيين من أصول عربية مثل إديت شاهين وكتابها "نعيمة، قصة أمي الطويلة"، عن رحلة أمها منذ نشأتها في سوريا وحياتها هناك حتى هجرتها إلى تشيلي ومرورها بإسبانيا والأرجنتين، وترجم الكتاب إلى العربية المترجم رفعت عطفة.

كذلك، تعرّفنا في ذات المحاضرات على الكاتبة التشيلية لينا مرواني، وهي من أجيال متأخرة من أحفاد المهاجرين الفلسطينيين إلى تشيلي. وللعلم، الجالية الفلسطينية الأكبر في العالم هي الجالية الفلسطينية في تشيلي. أتت لينا لزيارة مصر وجمعتنا الصدفة ثلاث مرات، أولاها حين كانت مدعوة لمؤتمر خريجي قسم الأدب الإنكليزي والمقارن في الجامعة الأمريكية في القاهرة وكنت أشارك بورقة بحثية في المؤتمر عن خيبة شاعر الثورة وأثرها في المسار الشعري، وتحدثت وقتها عن نموذج الشاعر المصري مصطفى إبراهيم، والشاعر النيكاراغوي الكبير إرنستو كاردينال. بعدها اجتمعنا بلينا مرواني في جامعة القاهرة وفي دار الكتب خان التي نشرت مؤخراً كتابها "أن تعودي فلسطين" بترجمة الفلسطيني شادي روحانا.

شهدت تلك الفترة أول اتصال لي بالأثر والحضور العربي في أمريكا الجنوبية. أغلب الحديث كان عن كتاب من تشيلي، حيث الجالية الفلسطينية الكبيرة، لكننا لم نتعرّف على شيء عن المهاجرين العرب الذين استقرّوا في موانئ كولومبيا الشمالية، وبشكل مركّز في مدينة بارّانكيّا حيث تعيش الآن واحدة من أكبر الجاليات من أبناء المهاجرين اللبنانيين والسوريين في كولومبيا، بالإضافة إلى تجمُّع عربي كبير في قرية مايكاو التي تقع في إقليم لا غواخيرا في شمال كولومبيا، وعمدتها اسمه محمد جعفر دسوقي الحاج، العمدة المسلم الوحيد في كولومبيا.

يدعو الكولومبيون المهاجرين العرب بـ"التُّرك" لأنهم حين جاءوا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكانوا يحملون وثائق سفر عثمانية. وحتى الآن يقول بعض الكولومبيين "التُّرك" قاصدين بذلك أصحاب الأصول العربية في مدن الشمال. السبب ذاته كان يجعل بعض أهالي القرى التي كنت أزورها في إقليم سوكري، أول الأقاليم التي عشتُ فيها، يسألونني إنْ كنت قد شاهدت مسلسل "إليف"، المسلسل التركي الأشهر بينهم.

ممالك رحّالة

لم يستقر كل المهاجرين في مدينة بارّانكيّا حيث ميناء كولومبيا (بويرتو كولومبيا) الذي كانت ترسو فيه أغلب السفن المارّة بالبلاد، فقد هبط الكثيرون إلى الأقاليم التي تقع جنوب ساحل الكاريبي، مثل إقليم سوكري، وبوليفار، وقرطبة.

في الإقليم الأخير استقرّ أجدادُ خورخي غارسيّا أوستا، أو "أوسطى"، تحديداً في قرية "سييناغا دي أورو" مسقط رأس خورخي. لكنّ المدينة التي نشأ وعاش وعمل وكتب ونشط ودرس ودرّس وترك أكثر آثاره فيها كانت مدينة كارتاخينا حيث أعيش الآن.

بعد القصيدة الأولى عن الخروج، تأتي بعض القصائد التالية: نصائح إلياس رومي إلى ابنه (1890)، أول لقاء لنبيل بربور بالبحر في كارتاخينا دي إيندياس (1910)، بشارة شليلة يروي الدخول إلى نهر السينو (1910)، سمير ساهر يشاهد الرقص في جزر الأنتيل (1915)...

سمعتُ أول مرة به في حديث جمعني بصديق لي، وهو شاعر كولومبي كان زميل عمل في الجامعة، يدرّس هو الفلسفة والأنثروبولوجيا وأدرّس أنا اللغة والأدب. أخبرني بأسماء شعراء كولومبيين من أصول عربية، ضمنهم ميرا ديلمار أو أولغا شمس الحاج.

حدّثني كذلك عن راؤول غوميس خاتين، وخورخي غارسيّا أوسطى الذي نسيتُ اسمه لكنني ظللت محتفظاً باسم ديوانه "المملكة الرحّالة" في ذاكرتي البعيدة وبين أوراق ملاحظاتي ونسيته بمرور الأيام.

غلاف كتاب "المملكة الرحالة"

بعد شهور، وصلتُ إلى بوغوتا للمرة الثانية بعد أول مرور بها قبل خمسة أشهر. كانت الزيارة الثانية مليئة بالأثقال والوحدة، لكنّ الوحدة هي الرفيق الوحيد الذي يحمل صاحبه إلى نفسه وإلى ما يريد. هذا ما حدث حين كتب إليّ مايكل بينيتيس، الشاعر الشاب الذي وجدت ديوانه صدفة في قرية صغيرة زرتها، واشتريته من فوري لعنوانه "ما أردت قوله كان شيئاً آخر". قلت في نفسي: أنا أيضاً، واشتريت الديوان.

حين وصلت إلى بوغوتا ترجمتُ قصيدة من الديوان عن المدينة وصقيعها وبرودة قلوب سكانها، ونشرتُ الترجمة دون إشارة إلى الشاعر لأنّي لم أجد حسابه. بعد قليل وجدته ينشر على صفحته ترجمتي ويكتب إليّ، واتفقنا على اللقاء في بوغوتا. وبدأت سلسلة من المصادفات جمعتني بعدها بناشر دعاني لمعرفة كاتب يدعى جون خايرو خونييليس، سيكون في ما بعد أكثر كاتب كولومبي أترجم قصصه وأشعاره إلى العربية حتى الآن.

حدّثني جون خايرو في مقهى "الكيخوتي" في قلب العاصمة الكولومبية كذلك عن كتاب وشعراء كولومبيين من أصل عربي، لكنني لم أعرف وقتها أن محدثي هو من أقرب أصدقاء وتلامذة خورخي غارسيّا أوسطى. أدوّن في كرّاستي للمرة الثانية عنوان الديوان "المملكة الرحّالة: قصائد عن الهجرة والعالم العربيّين"، هذه المرّة باسم الكاتب واضحاً.

يدعو الكولومبيون المهاجرين العرب بـ"التُّرك" لأنهم حين جاءوا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وكانوا يحملون وثائق سفر عثمانية. وحتى الآن يقول بعض الكولومبيين "التُّرك" قاصدين بذلك أصحاب الأصول العربية في مدن الشمال

بعدها، قابلت شاعراً كولومبيّاً عاش قرابة العشرين عاماً في مدينة سانتا مارتا، إحدى أكبر ثلاث مدن في منطقة الكاريبي، فأكمل لي صورة وخريطة شعراء وكتاب كولومبيا ذوي الأصول العربيّة، وعبره حصلت على الأعمال الكاملة للشاعرة أولغا شمس الحاج مُهداة بخطّ يدها إليه بعد أن فقدت بصرها.

حدثني كذلك عن كليمينسيا طريفة، ومونيك فقّوسه، وكلّهم أصدقاؤه وهو ناشرهم. عدتُ إلى مدينتي سينسيليخو في إقليم سوكري بمشروع لجمع آثار أولئك الشعراء وتقديمهم إلى العربية. تأخذني الحياة مرّة أخرى من المشروع، ثم تأتي الجائحة وتهديني إقامة فنيّة إجبارية في بيت يطلُّ على البحر لا أغادره لثلاثة أشهر.

"العرب في ماكوندو"

كنت أبحث في ليلة من ليالي الحماسة عن معلومات عن "المملكة الرحّالة"، فوجدت جون خايرو خونييليس قد كتب عن نشر كتاب آخر عنوانه "العرب في ماكوندو"، وهو سلسلة مقالات كتبها خورخي غارسيا أوسطى الصحافيّ عن الحضور العربي في أدب كتّاب كولومبيين مثل غابرييل غارسيّا ماركيز وإكتور روخاس إيراسو، وعن النفوذ السياسي للعرب في أمريكا الجنوبية، والعنصريّة التي تعرّض لها أولئك المهاجرون الأوائل التي عنون فصلها بعبارة "اطردوا التركي". وفي آخر الكتاب ديوانه "المملكة الرحّالة" في طبعة بالغة الجمال تضمّنت صوراً للمهاجرين العرب وأبنائهم واجتماعاتهم ووثائق الجرائد التي كانوا ينشرونها.

في نفس المنشور، وجدت رقم هاتف السيدة "روسيّو" أرملة الكاتب، فاتّصلتُ بها وعرّفتها بنفسي، وظللنا نتحدث حوالي ساعة، تحكي لي فيها عن زوجها وحياته وعمله وزمالته في الجريدة لماركيز وكتابه عنه "كيف تعلّم غابرييل غارسيّا ماركيز الكتابة؟" الذي لم يعجب عنوانه ماركيز، فاضطرّت دار النشر بعدها إلى تغيير العنوان إلى "سنوات ماركيز في كارتاخينا".

الكاتب والسيّدة روسيو - تصوير فابيان ألباريس.

أنهينا المكالمة باتفاقنا أن أشتري كتاب "العرب في ماكوندو" الذي يتضمّن ديوان "المملكة الرحّالة"، وكذلك كتابه عن ماركيز، وأن تهديني هي رواية لكاتب كان صديقاً وأستاذاً لخورخي، ويعدّه الكثيرون من كتّاب كولومبيا أهم كتّاب عصره وكان كذلك زميلاً لماركيز بل أستاذاً له في جريدة El universal.

أوسطى وماركيز

يصلني الكتاب فأقرأ بعض قصائد الديوان ولا تعجبني في القراءة الأولى. كان عليّ أن أترك سينسيليخو، وأذهب إلى "كارتاخينا دي إيندياس" حيث عاش وكتب حفيد أوسطى، لأزور مكتبته وأعثر فيها على ترجمات إسبانية للمعلّقات، وعلى ترجمات لإيميليو غارثيا غوميث لقصائد أندلسية، وأرى الطبعات الأولى لدواوينه ومنها ديوان "المملكة الرحّالة" وأقرأه فأحبُّه وأحبُّ قصائده التي يتحدث بعضها عن أول لقاء بأولئك المهاجرين العرب في الشارع الطويل في كارتاخينا دي إيندياس، الشارع الذي أسكن فيه الآن، وتتحدث قصيدة أخرى عن أول لقاء بين أحد المهاجرين والبحر الكاريبي.

تدعوني صديقة موسيقيّة لتسجيل حلقة عن الشعر بالعربية والإسبانية في راديو الحارة، فأترجم أول قصيدة في الديوان وأقرأها مع قصائد لأولغا شمس الحاج ومونيك فقوسه وراؤول غوميس خاتين.

الخروج: في الطريق من دمشق إلى بيروت  (1887)

اسمع أباك،

أنصِت يا منصور، إلى النار التي تقسم هذه الأصول.

سِر يا رؤوف، هناك عالم آخر

وراء هذا البحر الوافر،

هناك جبال تنهال،

وسماوات أدماها منجّمو الموالد،

وأرض تسع المزيد من الوحدة.

(سنرحل غداً

دون أن نقول شيئاً لأحد)

قد ثقلت أوزار الحرب

في هذه الدماء الخفيفة،

دماء الفخّارين.

آه من جذواتٍ هذه الأرض

التي تُذيبُ إيمان أشجار الليمون،

ومصير المؤمنين.

يا رؤوف، أعدّ عينيك.

سنحمل الآن ما نكون:

حقيبة، وأربعة أجساد، وذكريات.

غارسيا أوسطى الصحافي

لم يكتفِ غارسيّا أوسطى بتخيُّل حوارات وحكايات ولقاءات أجداده المهاجرين وكتابتها في ديوان شعر جميل، فقد كان شغفه بالبحث والصحافة شاغلاً أغلب وقته.

قبل كتابة المقالات التي شكّلت الكتاب الذي نُشر بعد وفاته عن الأثر العربي في الحياة والأدب في كولومبيا وأمريكا اللاتينية، كان يسافر بين القرى في أقاليم كولومبيا المختلفة يتحدّث مع الباقين من أجيال المهاجرين الأوائل أو أبنائهم ليحكوا له حكايات الآباء والأجداد.

لعلّ ترجمة عناوين القصائد وحدها تعطي صورة عن ذلك العالم الذي خلقه حفيد المهاجرين الذي لم يعرف قطُّ، قبل أن يخطفه الموت فجأة في الخامسة والأربعين من عمره عام 2005، دمشق مسقط رأس أجداده.

بعد القصيدة الأولى عن الخروج، تأتي بعض القصائد التالية: نصائح إلياس رومي إلى ابنه (1890)، أول لقاء لنبيل بربور بالبحر في كارتاخينا دي إيندياس (1910)، بشارة شليلة يروي الدخول إلى نهر السينو (1910)، سمير ساهر يشاهد الرقص في جزر الأنتيل (1915) إيمان أنطونيو غسّان (1918)، خوسيه فضول يتحدث عن حاضره في الشارع الطويل في كارتاخينا دي إيندياس (1919).

وتتوالى قصائد هذا الديوان وشخوصه تحكي عن ذكرياتهم وأحلامهم وآمالهم وآلامهم دون أن تطأ أقدامه أرض دمشق قبل أن يخطفه الموت وهو في قلب حياته ونشاطه وحياة طلابه الذين ترك فيهم آثاراً أقابلها وأراها إلى الآن وأنا أسير في شوارع هذه المدينة. أذكر قصيدته التي يقول فيها:

هبة الترحال

أن تتنّهد صحراواتي الشاسعة

في ظلِّ نخلتي الوحيدة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard