شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أنا أعسر ولديّ إحساس زيت اللافندر

أنا أعسر ولديّ إحساس زيت اللافندر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 20 أغسطس 202112:31 م

منذ حوالي أكثر من شهر وأنا أفكر ما الذي سأكتبه عن اليوم العالمي للأعسر الذي يتم الاحتفال به في 13 آب/ أغسطس، خاصة وأن أول مقال لي في رصيف22 كان في العام الماضي بعنوان "خُلقتُ أعسر وتهامس رجال الدين"، وقد كتبتُ فيه عن معاناتي لكوني أعسرَ، والضغوط والانتقادات التي تعرضتُ لها والأذى النفسي الذي طالني من المجتمع والمدرسة ورجال الدين الذين يعتبرون الأعسر شخصاً أقرب إلى أن يكون كافراً وفرصته بأن يدخل الجنة شبه معدومة مهما فعل، إلا إذا شملته رحمة الله!

بعد تفكير وعدة محاولات للكتابة لم أستطع أن أكتب سوى: البنادق مصممة ليتم الإطلاق منها باليد اليمنى، نحنُ العُسر، "الأقلية الهائلة"، لا نطلق النار بيدنا اليسرى التي كان يُنظر إليها عبر التاريخ بريبة وعدم قبول من المجتمع، ويُقال عنها الكثير من قبل رجال الدين...

بعد كلمة "الدين"، ولمدة أسبوعين لم أستطع أن أكتب كلمة واحدة.

منذ عدة أيام، وفي سهرة مع أحد الأصدقاء الذي كان برفقته عدد من الأشخاص أراهم لأول مرة، وبعد حديث طويل تبادلنا فيه الضحك ووجهات النظر حول عدة قضايا، وخلال إحدى لحظات الصمت جاءني تعليق مفاجئ: أنت تُحرك يدك اليسرى كثيراً في الهواء خلال حديثك، وكل السجائر التي دخّنتها كُنتَ تُشعلها وتمسكها بيدك اليسرى، وحتى دخان سجائرك تنفثه من جانب فمك الأيسر أكثر الأحيان، أنتَ أعسر أليس كذلك؟

اجتاحني شعور داخلي بالفرح ترجمتُه على شكل ابتسامة مع عبارة "إي، يسراوي وبيدهشوني يلي عندهن دقة بملاحظة التفاصيل". حين عدتُ إلى المنزل كان في رأسي الكثير من الأفكار التي تنتظر أن أكتبها.

في طفولتي، وبعد أن بدأت أُميّز يدي اليمنى عن اليسرى بسهولة، شعرتُ بالغرابة واختلط عليّ الأمر حين طَلب منّي والدي إحضار غرض له قائلاً: "بتشوفو بالخزانة ع جهة إيدك الشمال". حينها لم أعرف أيُّ اليدين التي أمتلكهما هي الشمال! فاستفسرتُ منه. وأخبرني أن المقصود باليد الشمال هي اليد اليسرى، كم هو جميل وساحر أن تكون يدك التي تستخدمها لتفعل كل شيء يطلق عليها اسم إحدى الجهات الأربع: "الشمال".

"بعد تفكير وعدة محاولات للكتابة لم أستطع أن أكتب سوى: البنادق مصممة ليتم الإطلاق منها باليد اليمنى، نحنُ العُسر، ‘الأقلية الهائلة’، لا نطلق النار بيدنا اليسرى..."

مع الوقت، أصبحتُ أحبّ الشمال أكثر لأن يدي تنتمي إليه بشكل ما، ولأن في شمال مدينتي اللاذقية يقع جبل الأقرع على شكل نهد كبير مؤكداً أنوثة هذه المدينة التي تسند رأسها على شاطئ المتوسط وتفتح ساقيها باتجاه شروق الشمس. يُقال إن لمدينة اللاذقية نهد أيمن اختفى منذ آلاف السنين، لأن كل عشاقها كانوا عسراويين ولم يهتموا يوماً بلمسه، وأنا أصدق ذلك، ليس لأني أعسر وحسب، بل لأنّي من عشاق هذه المدينة.

حين كبرتُ، بدأت أنتبه إلى أن هناك أعضاء في الجهة اليسرى من جسدي تقوم بمهامها بشكل أفضل من الجهة اليمنى. فعلى سبيل المثال، أجيد تسديد الكرة نحو المرمى بقدمي اليسرى بمهارة لا تقارن بالقدم اليمنى، وأسمع بأذني اليسرى أكثر من الأخرى، وفي حال قمت بسد فتحة أنفي اليمنى فإنني أستنشق الهواء براحة بينما أشعر بصعوبة لو فعلت العكس.

"مع الوقت، أصبحتُ أحبّ الشمال أكثر لأن يدي تنتمي إليه بشكل ما، ولأن في شمال مدينتي اللاذقية يقع جبل الأقرع على شكل نهد كبير مؤكداً أنوثة هذه المدينة التي تسند رأسها على شاطئ المتوسط وتفتح ساقيها باتجاه شروق الشمس"

اكتشفتُ أيضاً أن لدي عادات وسلوكيات مرتبطة بشكل غير مباشر بكوني أعسر، كالنوم على الجانب الأيسر ومضغ الطعام على الجهة اليسرى أكثر الأحيان، وأنني أضع محفظة نقودي دوماً في جيبي الأيسر، وحين أخلع وأرتدي ثيابي أبدأ بالجهة اليسرى، باستثناء بعض الأوقات التي أخرج فيها من ثيابي دفعة واحدة دون أن أنتبه.

ومع انتشار فيروس كورونا، أصبحتُ أضم يدي اليسرى على شكل قبضة لأسلّم على الآخرين. حالياً نتبادل العناق والقبل. وحين أفكر أشعر أن نصف رأسي الأيسر هو الذي يعمل ويُصاب بالصداع والتعب.

ومنذ سنوات، بدأت أشعر بعدم الراحة حين أمشي مع أي شخص في الشارع إنْ لم يَكنْ على يساري، وربما يعود السبب في ذلك لعام 2010 حين أخبرتني حبيبتي التي كانت تمشي على جهتي اليمنى أن علاقتنا انتهت. يومها، ولأول مرة، شعرت بأن هناك كلمات لها طعم ورائحة الصدأ.

حين أفكر أنني أنتمي إلى كل شيء يقع في الجهة اليسرى من جسدي أشعر بالبهجة، ويتحرك في داخلي إحساس لذيذ يشبه إحساس زيت اللافندر حين تختاره الأنثى بعد منتصف الليل من بين مجموعة زيوت لتمسح به جسدها بعد الاستحمام.

أحياناً، أتساءل: تُرى هل يعاني مَن يستعملون اليد اليمنى لإنجاز مهام حياتهم اليومية؟ أجيب نفسي: لا. ثم أسأل: هل يشعرون بمتعة حين يستخدمون يدهم اليمنى في الطقوس الحميمية؟ أجيب: نعم. رغم ذلك أرى أن إنجاز المهام بالنسبة إلى العسراويين والطقوس الحميمية لهما سحر آخر ولذة مضاعفة، وأنصح مَن يستخدمون يدهم اليمنى بأن يتمرنوا على استخدام يُسراهم لكي يعوضوا ما فاتهم من متع ولمسات ساحرة.

أعرف أن هناك أحد مستخدمي اليد اليمنى سيقول: لماذا لا يفكر العسراويون بأن استخدام اليد اليمنى بفعل الأشياء هو أكثر متعة ولذة من اليسرى؟ وسيَعتبر كلامي متطرفاً وغير منطقي وغير علمي أيضاً. وأنا بدوري سأقول له: معك حق، مضيفاً أنني لستُ مع ما يتم تداوله حول أن كل الأشخاص العُسر مميزون ويمتلكون ذكاء ومهارات خاصة وما شابه، لأنني ببساطة أعرف أشخاصاً عسراويين بمنتهى السذاجة والغباء ولا يمتلكون أية مهارات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard