على الرغم من التشابه الكبير المنعقد بين الديانات الإبراهيمية الثلاث الكبرى -اليهودية والمسيحية والإسلام- فيما يخص النظرة إلى الكون، والعلاقة بين الله والبشر، والسردية الرئيسة لنزول الإنسان على الأرض وتتابع الأنبياء والرسل عبر القرون، إلا أن هناك الكثير من الاختلافات التي تحيط بالشخصيات المعظمة في تلك الديانات، الأمر الذي يمكن ملاحظته بوضوح من خلال دراسة أي شخصية من تلك الشخصيات بشكل معمق في المصادر والأدبيات الخاصة بكل ديانة.
تلك الاختلافات تظهر بوضوح في تناول شخصية عزرا الكاتب، إذ نجده يظهر في النصوص اليهودية على كونه نبياً ومصلحاً وقائداً لبني إسرائيل وكاتباً لأسفار العهد القديم، ويظهر في النصوص الإسلامية على كونه الرجل الصالح الذي تحققت فيه إحدى المعجزات الإلهية عظيمة الشأن، هذا في الوقت الذي مالت فيه النصوص المسيحية لتناول شخصية عزرا في سياق رمزي، وعملت على ربطه بالبشارات المتعلقة بالسيد المسيح.
النبي، قائد اليهود، وكاتب الشريعة... عزرا في المصادر اليهودية
يذكر الباحث العراقي وليد البعّاج في كتابه المهم "عزرا في الديانات الإبراهيمية"، أن سيرة النبي عزرا قد وردت في السِفر المنسوب إليه في العهد القديم، هذا فضلاً عن مجموعة من الأسفار العبرية الأخرى التي ترجع إلى ما أُطلق عليه "كتابات ما بين العهدين".
بحسب ما ورد في العهد القديم، فأن عزرا –الذي يتكون اسمه من كلمتين، وهما عزرا وياه، بمعنى الله يساعد- كان أحد الكهنة الذين انحدروا من نسل النبي هارون، وكان قد تمكن من إقناع الملك الفارسي ارتحششتا الأول بأن يسمح لليهود بالعودة إلى فلسطين، وبأن يطلق يدهم فيما يخص إعادة بناء الهيكل المقدس، فمنحهم الملك المؤن وكميات كبيرة من الذهب، ومنح عزرا تفويضاً مطلقاً ليصبح على رأس السلطة الدينية في فلسطين.
بحسب ما ورد في سِفر عزرا، فقد بدأت الرحلة من نهر أهوا، حيث اجتمع عزرا ومن معه من اليهود لمدة ثلاث أيام كاملة، وهناك دخل الجميع في صيام وتضرعوا إلى الله ليحميهم من الأخطار التي قد تحدق بهم في الطريق، وبعدها بدأوا في المسير، واستغرقت رحلة العودة ما يقرب من الأربعة أشهر. وكان اليهود يتوقفون في الكثير من المحطات على الطريق لاستقبال المزيد من الإسرائيليين الذين يرغبون بالعودة إلى الوطن، ولما وصل عزرا إلى أورشليم، أصدر أمره لجميع أفراد الشعب اليهودي بأن يتركوا الزوجات غير اليهوديات، لما في ذلك من مخالفة صريحة لأوامر الشريعة الموسوية، وأصدر أوامره للتجار بأن يجوبوا جميع أنحاء فلسطين ليبيعوا مستحضرات التجميل والزينة للنساء اليهوديات، لكي يميل إليهن رجال بني إسرائيل ويقنعوا بضرورة التخلي عن الزوجات الأجنبيات.
لما وصل عزرا إلى أورشليم، أصدر أمره لجميع أفراد الشعب اليهودي بأن يتركوا الزوجات غير اليهوديات، وأصدر أوامره للتجار بأن يجوبوا جميع أنحاء فلسطين ليبيعوا مستحضرات التجميل للنساء اليهوديات، لكي يميل إليهن رجال بني إسرائيل
أحد أهم الأعمال التي تُنسب إلى عزرا بعد أن رجع إلى فلسطين، أنه أعاد تنظيم مجلس السنهدرين، وهو مجلس كبير كان يضم أهم قادة وأحبار بني إسرائيل، وكان هذا المجلس الذي أسسه النبي موسى للمرة الأولى منذ قرون، هو "أعلى سلطة تشريعية وقضائية تمارس تطبيق العدالة، وإصدار الأحكام طبقاً للشريعة اليهودية في ذلك الوقت، وكذلك تشريع القوانين الخاصة بالعبادات ومحاكمة من ينتهك هذه القوانين، وأيضاً الإشراف على الاحتفالات الكهنوتية في المعبد"، بحسب ما يذكر البعّاج في كتابه.
أما أهم الأعمال المنسوبة لعزرا على الإطلاق، فتتمثل في أنه قد قام بكتابة الشريعة الموسوية، وبذلك حفظ الإرث اليهودي من الضياع بعدما كاد الإسرائيليون العائدون من السبي الطويل، أن ينسونه في ظل غلبة الثقافات العراقية والفارسية في منطقة الشرق الأدنى القديم.
بحسب الكتابات الأبوكريفية -غير القانونية- فأن كتابة عزرا لأسفار الشريعة قد تمت بواسطة معجزة إلهية، إذ ورد في السفر المسمى بـ"سفر عزرا الرابع"، أن عزرا –الذي اشتهر بلقب الكاتب نظراً لكتابته لأسفار الشريعة- قد ناشد الرب "... أرسل في روحك القدوس، فأكتب كل ما صُنع في العالم من البداية، كل ما كُتب في شريعتك، ليستطيع الناس أن يجدوا دربك، وينال الحياة من يرغبونها في نهاية الأزمنة"، فرد عليه الربُّ وأمره أن يبتعد عن الشعب اليهودي لمدة أربعين يوماً، كما أمره أن يصطحب معه خمسة رجال "وفي اليوم التالي، دعاني الصوت وقال لي: يا عزرا، افتح فمك واشربْ ما أنا أسقيك. ففتحت فمي، فقُدمت لي كأس ملآنة. امتلأت بشيء كالماء، وكان لونها شبيهاً بالنار، فأخذت الكأس وشربت. وحين شربتُ، فجر قلبي للفهم، وانتفخ صدري بالحكمة، واحتفظ فكري بالذاكرة، فانفتح فمي وما عاد ينغلق، فأعطى العلي أيضاً الفهم للرجال الخمسة، فكتبوا ما كنت أقوله لهم بتنظيم بواسطة علامات ما كانوا يعرفونها...".
وفي الوقت الذي يؤكد فيه التقليد اليهودي على أن عزرا قد توفي في طريقه إلى بلاد فارس عن عمر يناهز المائة وعشرين عاماً، وأنه قد دُفن في منطقة ميسان في أرض العراق، تؤكد بعض النصوص غير القانونية على أنه قد قهر الموت، وأنه لم يمت كما يموت باقي البشر، بل إنه قد رُفع إلى السماء، إذ ورد في سفر عزرا الرابع "قال الربُّ لعزرا: لأنك ستؤخذ من بين البشر، لتقضي بقية الزمن مع ابني، ومع الذين يشبهونه إلى أن تتم الأزمنة".
مصلح لطيف، واعتاد أن يسلم قلبه للروح القدس... عزرا في المسيحية
على العكس من اليهودية، لم تهتم المسيحية بالأبعاد التاريخية في شخصيات العهد القديم، إذ نجد الآباء والقساوسة قد ركزوا –بالمقام الأول- على الاستفادة من القصص الواردة في العهد القديم، بشكل تأويلي يتسق ويتوافق مع مركزية شخصية السيد المسيح في العهد الجديد.
من هنا، نستطيع أن نفهم أن أهمية عزرا في الديانة المسيحية، قد أتت من عوامل التشابه بينه وبين يسوع، إذ عمل المسيحيون على الاستعانة بقصة عزرا في سياق شرح قصة المسيح، وبالتالي فقد صارت قصة عزرا واحدة من القصص الكثيرة التي اعتبرها المسيحيون بشارة ونبوءة بظهور المسيح ابن مريم.
من بين نقاط التشابه في قصتي عزرا والمسيح والتي يجملها القمص تادرس يعقوب في كتابه "شرح الكتاب المقدس"، أن الأول كان كاهناً من سبط لاوي، أما الثاني فقد نُظر إليه في المسيحية على كونه الكاهن الأعظم عبر العصور. أيضاً، ورد في العهد القديم أن عزرا قد صلى وبكى كثيراً من أجل خطايا الشعب اليهودي، الأمر الذي يتشابه مع بكاء المسيح على أورشليم، ومع دوره باعتباره الفادي والمنقذ لجميع المؤمنين.
أهمية عزرا في الديانة المسيحية، أتت من عوامل التشابه بينه وبين يسوع
في السياق التأويلي نفسه، يتشابه الشخصان في موقفهما من السبي، فإذا كان عزرا قد رد المسبيين من بابل إلى أورشليم، فـإن المسيح قد ردّ الذين سباهم إبليس، ودخل بهم إلى أورشليم السماوية/الفردوس. كما يتشابه الشخصان في الكيفية التي بدءا بها رحلتيهما؛ فإذا كان عزرا قد جمع الشعب عند نهر أهوا ومكثوا هناك لمدة ثلاث أيام قُبيل المسير نحو فلسطين، فالمسيح قد ألزم جماعة المؤمنين بطقس المعمودية، في إشارة واضحة إلى أن الماء يطهر من كل الآثام والخطايا.
ومن هنا، وتأسيساً على ذلك التوجه الروحي، فإن القمص تادرس يعقوب قد أجمل صفات عزرا الإيجابية في كتابه سابق الذكر، بكونه رجلاً متعبداً، يثق في وعود الله، ورجل إيمان، لا يتكل على ذراع بشرٍ، كما أنه مصلح لطيف، قد اعتاد أن يسلم قلبه للروح القدس.
عزير العائد من الموت، وصاحب سر القدر... عزرا في الإسلام
في الوقت الذي ذهبت فيه الأغلبية الغالبة من المصادر الإسلامية، إلى أن شخصية عزرا الكاتب قد ظهرت في الثقافة الإسلامية تحت اسم "عزير"، وهو الاسم الذي اختاره القرآن الكريم لتسمية تلك الشخصية في سورة التوبة، فإن بعض الروايات الإسلامية قد أكدت أن عزرا يختلف عن عزير، وأن الرجلين مختلفان، وأنهما كانا شقيقين، وقد ورد ذلك منسوباً إلى بعض أئمة الشيعة الإمامية الاثني عشرية.
بحسب ما يذكر أبو إسحاق الثعلبي المتوفى 427هـ في كتابه "قصص الأنبياء"، فأن عزير قد شهد وقائع السبي البابلي لفلسطين، وذلك عندما قام العاهل البابلي نبوخذ نصر بقتل أب عزير وجده، ونجا عزير من القتل لأنه كان غلاماً، وكان في ذلك الوقت قد قرأ التوراة فصار أحد علماء بني إسرائيل في بابل.
معظم التفسيرات القرآنية تتفق مع بعضها بعضاً، على أن عزير هو الشخص المقصود في الآية رقم 259 من سورة البقرة: "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ....". وبحسب ما يذكر ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ في كتابه "قصص الأنبياء"، فإن عزير لما بعث من الموت رجع إلى منزله، فوجد عجوزاً عمياء مقعدة، كانت قد ناهزت المائة والعشرين عاماً، وكانت تعرف عزير في صغرها، فلما سألها النبي العائد من الموت عن منزله وأهله، اندهشت، فقال لها: "إني أنا عزير، كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني"، فقالت له إن كنت أنت عزير، فادعُ لي ربك أن يردّ علي بصري حتى أراك، "فدعا ربه، ومسح بيده على عينيها فصحتا، وأخذ بيدها، وقال: قومي بإذن الله، فأطلق الله رجليها، فقامت....".
من بين الأمور التي تؤكد على مكانة عزير في المخيال الإسلامي، ما تواتر في المصادر الإسلامية عن اليهود الذين كانوا يحتفظون بحافرٍ لحمار يدّعون أنه حافر حمار عزرا، وكانوا قد اعتادوا أن يتبركوا به، ويقدّسوه
من بين الأمور التي تؤكد على مكانة عزير في المخيال الإسلامي وعلى الأهمية البالغة التي حظيت بها قصة بعثه إلى الحياة بعد مائة عام من موته، ما تواتر في المصادر الإسلامية عن اليهود الذين كانوا يحتفظون بحافرٍ لحمار يدّعون أنه حافر حمار عزرا، وكانوا قد اعتادوا أن يتبركوا به، ويقدسوه، كما نُقل عن وهب بن منبه أن الجنة لا يدخلها كلب ولا حمار، إلا كلب أهل الكهف، وحمار عزرا الذي أماته الله مائة عام، وذلك بحسب ما يذكر البعّاج في كتابه.
مع ذلك فقد بقيت الآية رقم 30 من سورة التوبة: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه..."، محط جدل ونقاش، وذلك لأن اليهود لا يقولون ببنوة عزير للّه، مما يتعارض بشكل صريح مع ظاهر الآية، ومن ثمّ فقد عمل المفسرون المسلمون على حلّ هذا الإشكال؛ فعلى سبيل المثال، ذكر ابن حزم المتوفى 456هـ في كتابه "الفصل في الأهواء والملل والنحل" أن هذا القول كان قول يهود اليمن على وجه التحديد.
أما الزمخشري المتوفى 538هـ فقد قال في تفسيره المعروف بـ"الكشاف" إن هذا القول كان "قول ناس من اليهود ممن كان بالمدينة، وما هو بقول كلِّهم". وفي السياق نفسه، ذكر الفخر الرازي المتوفى 606هـ في كتابه التفسير الكبير، أن القائلين بهذا المذهب هم بعض اليهود، "إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناءً على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد".
معجزة عزير، تسللت إلى بعض المباحثات الكلامية العقائدية في الثقافة الإسلامية، إذ تمّ ربطها بما عُرف باسم "سرّ القدر"، للدرجة التي حدت بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربي المتوفى 638هـ للتأكيد في كتابه "الفتوحات المكية" على "أن غاية رسالة عزير في الدنيا، هي معرفة سرّ القدر".
ويشرح الخطيب البغدادي المتوفى 463هـ في كتابه تاريخ الأنبياء، سبب ارتباط عزير بسؤال القدر، إذ ينقل عن عبد الله بن عباس قوله إن عزير كان أول من تكلم في القدر، وأن ما شاهده من تدمير لمدينة أورشليم وسبي لبني إسرائيل قد أثار العديد من الأسئلة لديه، فناجى ربه متسائلاً عن الحكمة من كل ذلك، فكان مما قاله: "إلهي اشتبه علي أمري... تسليطك عبدة النيران على أوليائك وأصفيائك حتى قتلوهم، وأسروهم، وخربوا بيتك، وحرقوا كتابك الذي جاء به موسى". فلما أخبره الله أن ذلك بسبب ذنوب بني إسرائيل، سأله عزير "ياربّ إن شئت أن لا تعصى ما عُصيت، وإن شئت أن تُطاع لأُطعت... وقد كان في بني إسرائيل من لم يرتكب الذنب، فكيف أخذت العامة بدعوة الخاصة، والبريء بذنب المجرم؟". وتنتهي تلك المجادلة بأن الله قد أمات عزير وأحياه بعد مائة عام ليعطيه درساً عملياً في القدر، كما قيل إن الله قد محا اسمه من سجل الأنبياء.
الربط بين عزير والقدر لم يبق مقصوراً على الناحية الكلامية، بل امتد ليصل الأدب والشعر، ومن ذلك أن الشاعر الشهير ابن الرومي المتوفى 283هـ قد أطلق اسم عزير على بعض معاصريه ممن اشتهروا بالسخط والغضب من أقدارهم وأحوالهم، ومن أشهر هؤلاء صاحبه ابن عمار الذي أنشد فيه قائلاً: "وفي ابن عمار عزيرية/يخاصم الله بها والقدرْ... ما كان لم كان، وما لم يكن/لم لم يكن، فهو وكيل البشر".
شخصية عزرا حضرت أيضاً في المخيال الشيعي الإمامي، إذ ورد اسم عزير في العديد من الأدعية والصلوات المشهورة، ومنها على سبيل المثال دعاء الإمام جعفر الصادق لقضاء الحوائج، وفي زيارة الإمام المهدي المعروفة باسم "زيارة الناحية المقدسة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين