مغرية المقارنة بين التمثال الخشبي لمريم المجدلية من نحت الفنان الفلورنسي دوناتللو في القرن الخامس عشر، والذي يظهرها كجسد تائب متآكل من فرط الصوم والمجاهدات كما لو أنّه قد عاث فيه مرض الجذام، وبين الثديين العامرين للمجدلية عند زعيم مدرسة البندقية للرسم في القرن السادس عشر، تيتيان، الذي أعطى "كل السلطة للألوان" على التشكيل.
يميل معظم مؤرخي الفن المقدّس إلى أنّ دوناتللو تأثّر في منحوتته الخشبية بسيرة القديسة مريم المصرية، في القرن الخامس بعد المسيح، والتي يعيد ذكراها الأقباط في الأوّل من نيسان من كل عام، وبين مريم المجدلية التي لازمت يسوع المسيح في فترة دعوته، ويعتبرها اللاهوتيّون الكنسيّون "المعادلة للرّسل".
فمريم المصرية هذه، زانية تابت في القدس وتنسّكت في صحراء الأردن. أما مريم المجدلية، فكانت شيئاً مختلفاً تماماً، وهي، بحالاتها المختلفة، وبشعرها الطويل في الغالب، استأثرت بحصّة وافرة من تاريخ الفن المقدّس المسيحي، ومارست ألغاز شخصيتها الإنجيلية أكبر تأثير على المخيلة الأدبية والشعبية في المسيحية، وكانت بامتياز، شخصية سينمائية ما قبل ظهور السينما.
الملازمة للمسيح
هي "مجدلية" نسبة إلى قرية "مجدلا" للصيادين على ضفة بحيرة طبرية من جهة الجليل، ففيها ولدت، وليس في "مجدلا" الأخرى على السفح الجنوبي لجبل حرمون في الجولان. جليلية هي إذاً كأغلب الجماعة التي تشكّلت حول يسوع الناصري. وجد لغط طويل في تاريخ المسيحية يتعلّق بها، هل هي فقط الإمرأة التي أخرج منها الرّب سبعة شياطين أو أرواح شريرة، بحسب انجيل لوقا، أم هي كذلك الأمر تلك الزانية التي تابت على يد المسيح ثم دخلت في خدمته، أم هي نفسها مريم بنت "بيت عنيا"، أخت اليعازر ومرتا.لقرون طويلة هيمن تقليد يدمج بين هذه الشخصيات الثلاث، قبل أن تكتب الغلبة في العصر الحديث لقراءة تميّز مريم المجدلية عن الشخصيتين الأخريين. قراءة أخرى ظلت تجيء وتذهب على امتداد القرون وتجعل منها زوجة للمسيح، باعتبار أنّه ككاهن يهودي ما كان ليسمح له أصلاً بالتعليم، في الهيكل أو في أي كنيس، ما لم يكن متزوجاً، هذا في مقابل تقليد مختلف أصرّ على بتولية المسيح، بتقريبه من بتولية يوحنا المعمدان وجماعته. من جهته، يشير "انجيل فيليبوس" التي تعتبره الكنيسة من النصوص "المنحولة" إلى أن "السيد كان يحب مريم أكثر من باقي الرسل ويقبّلها على فمها"، ويعرّفها بـ"الكوينونوس" أي "الملازمة" للمسيح.
الشاهدة على القيامة
في الأناجيل الأربعة التي جرى تضمينها في "العهد الجديد" نجد مريم المجدلية مشاراً لها بهذا الوضوح، من بين النسوة اللواتي شهدن حادثة صلب المسيح (متى ومرقس). لكن الأهم، الدور المعطى لها، خصوصاً في إنجيل يوحنا، كونها الشاهدة البصرية الأولى للمسيح القائم من القبر ومن الموت. فيما كانت واقفة عند القبر تبكي، يخبرنا هذا الإنجيل، أن ملاكين بثياب بيض اقتربا منها، وسألاها أمرها، ولما قالت لهم أنهم "أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه" التفتت إلى الوراء فرأته واقفاً يسألها "لماذا تبكين من تطلبين"، وينبهها بأن لا تلمسه "لأني لم أصعد بعد إلى أبي، ولكن إذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى إلهي وإلهكم".ورغم أن هذا الإنجيل يشير إلى أنها لم تذهب إلى القبر وحدها، يمتاز ارنست رينان (مؤرخ وكاتب فرنسي) بأنّه يلتقط الفارق الكبير بين ما رأته وسمعته هي وبين همهمات النسوة الأخريات، اللواتي اكتفين بعد ذلك بإخبار الرسل بأن هناك شخصاً يلبس الأبيض قال "لم يعد هنا، اصعدوا إلى الجليل، سوف يسبقككم إليه، وسترونه هناك". شهادة مريم المجدلية كانت إذاً، وفقاً لقراءة رينان، مختلفة، وهو يعتبر أنها استطاعت أن تفرض نظرتها، بالنتيجة، على البشرية جمعاء، ويسأل رينان "من هو الحكيم الذي أعطى العالم فرحاً يعادل ما أعطته له تلك المسكونة مريم المجدلية؟".
شخصية لاعقلانية؟ ملهمة المثاليين؟
رينان هنا يتكلم عن مريم المجدلية كشخصية مسكونة، لأنّها من فرط حماستها حولت ما أرادت رؤياه إلى ما تراه بالفعل إلى ما تنبىء عنه، قبل أن يشكّك الرسل الذكور بما أخبرتهم به، ثم يبدأون الواحد تلو الآخر في تصديقه والشعور به.ورينان حين يتحدّث عن المجدلية كشخصية مسكونة، فأيضاً من باب التذكير بأنها من الأساس تدخل "القصة" كامرأة نزع منها الرب سبعة شياطين. وطبعاً، كان رينان يحاول تفسير هذا الإيمان بقيامة المسيح الذي دشّنته مريم المجدلية انطلاقاً من الطعن الذكوري بالصحة الواقعية لشهادة إمرأة.في إنجيل فيليبوس، الذي لا تعترف به الكنيسة، المسيح كان يحب المجدلية أكثر من باقي الرسل ويقبّلها على فمها، وفي إنجيل قبطي ينسب لها، كانت المريدة الأقرب للمسيح، وكان يخصّها بأسرار لم يكن يبلغها لباقي الرسل
بالتالي، عند رينان، العنصر اللاعقلاني المؤسس للإيمان بالقيامة، وبالتالي للديانة المسيحية، هو عنصر نسائي، بل نسائي مهووس. في الوقت نفسه، يثني رينان على هذا العنصر، إنما فقط من بعد تهبيط مكانته، نسبة للعقل "المذكّر"، ويخلع على مريم المجدلية لقب "ملكة وربّة المثاليين، المجدلية التي عرفت أكثر من أي كان أن تؤكد حلمها، وتفرض على الجميع الرؤية المقدّسة لحماستها الجياشة".
مريم المجدلية الفيلسوفة: إنجيل قبطي قديم
شيء من هذا التعامل "الذكوري" مع مريم المجدلية، نجده معروضاً ومنقوداً، في إنجيل قبطي من خارج الأناجيل الأربعة المعتمدة، وهو الإنجيل المنسوب إلى مريم المجدلية. في هذا الإنجيل الذي يعود إلى القرن الثاني بعد المسيح، يصبح واضحاً أنّ "خطيئة" المجدلية لم يكن لها من الأساس علاقة بتهمة الزنا أو ما شابه، ولا بالهوس ومس الجن أو بالهستيريا، كما حاول أن يوحي رينان، إنما كان بتعلّم ما كانت تحظره الشريعة اليهودية على النساء من تعلّم وتعليم هذه الشريعة.المجدلية، المرأة التي لازمت المسيح.. مارست ألغاز شخصيتها أكبر تأثير على المخيلة الأدبية والشعبية المسيحية
خطيئة المجدلية لم يكن لها علاقة بتهمة الزنا أو بالهوس، إنما برغبة تعلّم الشريعة وتعليمها، المحرمة على النساء
مريم المجدلية في هذا الإنجيل القبطي لم تكن "مخطئة" إذاً لمسلك أو لهوى، بل لأنها أرادت أن تدرس التوراة وعلومها، ما حرّم عليها قبل أن يساندها يسوع الناصري، وتصبح "مريدة" للمعلّم، بل المريدة الأقرب له، الذي كان يخصّها بأسرار لم يكن يبلغها لباقي الرسل، وهذا أصلاً محور هذا المخطوط القبطي. فيه أن بطرس يسأل المجدلية أن تخبرهم بشيء من هذه الأسرار، قائلاً "نعلم أن المسيح أحبك بشكل مختلف عن باقي النساء، هل تذكرين ما قاله لك من كلام ليس لنا دراية به". إجابة المجدلية الأساسية هي أن رؤيتها للمسيح بعد القيامة لم تكن لا بـ"النفس" والحواس المتعلقة بها، ولا بـ"الروح"، وإنّما بـ"ملاك الرّوح"، في إشارة إلى بعد آخر للوجود، وسيط بين العالم الفاني وبين العالم الآخر، منه رأت ما رأت.
النص عرفاني إلى حد كبير إذاً، ويبدو أن "السرّ العرفاني" هذا استعصى على الرسل في الحكاية، فأخذوا يتهجمون عليها كامرأة - فيلسوفة، إلى أن بكت وأخذت تنهر بولس والآخرين، هل حقاً تعتقدون أني أنشأت كل هذا، عن كذب، في مخيلتي. هنا مريم المجدلية ليست امرأة مهووسة بمعلمها إلى حد ترى الميت حياً، وليست امرأة متعلقة بالمادة وعالم الحواس إلى حد تماثل فيه بين جسد المسيح قبل الموت وبين جسده خلال القيامة. بل هي شخصية غنوصية بامتياز: تلفت إلى أنّ إدراك كنه القيامة يكون من خلال "ملاك الرّوح" هذا، الذي يحتاجه كل إنسان إذا أراد أن يتحوّل إلى إنسان كامل.
البيضة الحمراء
لم ينتشر "إنجيل مريم المجدلية" القبطي هذا، وبقي مجهولاً لقرون طويلة قبل أن يعاد اكتشافه نهاية القرن التاسع عشر من بين المخطوطات القديمة، وبشكل غير مكتمل. في المقابل، انتشرت مرويات خرافية كثيرة عن المجدلية، أبرزها تلك التي تذهب بها إلى روما بعد القيامة، لتواجه الإمبراطور طيباريوس وتحتج على صلب بيلاطس للمسيح، وتظهر آيتها بأعجوبة تحويل البيضة التي كانت تحملها في يدها إلى حمراء اللون: من هنا فولكلور بيض الفصح.مصادر يمكن العودة إليها:
Jean-Yves Leloup - L’Evangile de Marie-Myriam de Magdala
Chrisitan Doumergue - Le Mystere Marie-Madelaine
Ernest Renan - Histoire des Origines du Christianisme
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...