مجاز الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا
إعداد أحلام الطاهر
كنز تحت البلاط
يتجلّى لي بيتنا القديم دائماً في الحلم، لا أرى نفسي أسكن بيتاً سواه. أحلم دائماً بصالته المستطيلة، المقاعد على جانبيها والتلفزيون في الصدارة، بجواره على الجانبين بابان لحجرتين، على اليسار الحجرة التي وُلدت فيها، وعلى اليمين الحجرة التي كبرت فيها.
البيت القديم أرضيته بلاط مصفر، كنا نحاول دوماً إخفاءه بالموكيت الوردي، المشمع المطبوع أو السجاجيد الرخيصة. كل عيد تشتري أمي سجادة جديدة تفردها على أرض الصالة، فتشعّ رائحتها في البيت كله، تتحوّل رائحة السجاد الجديد إلى رائحة عيد، ويتحوّل العيد بشكل ما إلى فعل إخفاء، إخفاء لبلاط مربع أصفر، به نبشات خفيفة لنقاط سوداء، لا أعرف أن كانت تكوّنت عبر الزمن وخلال محاولات الإخفاء أم أنها موجودة منذ البداية. بلاط ربما تخلخلت منه واحدة أو اثنتين، أدوس فوقها فتتحرك، وأفكر أن ربما تحتها يختفي كنز ما، كنز يجعلني كلما حلمت، أعود إلى البيت القديم.
أرى نفسي في شرفته دوماً، شرفة على شكل حرف الـ L، الضلع الطويل ضيق لا يسمح سوى بمرور شخص واحد، والضلع القصير مستطيل، به مقعدان خشبيان ومائدة خضراء. زمان، كان يضم أيضاً عشة خشبية ربت فيها جدتي الدجاج، عشة صنعتها بنفسها، دقّت لها باباً وصنعت لها سقفاً. عاش فيها ديك ضخم ينقر بمنقاره الأرض والدجاجات.
ذات يوم، ابتلع الديك كتلة شعر، وامتنع عن الطعام والشراب، رقد على جانبه وكاد يموت، حتى أمسكته جدتي، وفتحت بطنه بسكين حامية وهو حي. نزعت حوصلته، واستخرجت منها كتلة الشعر وغسلتها بالماء والملح، ثم خاطت بطنه بالإبرة والخيط الأبيض. لم يتحرك الديك ولم ينقرها، كان مستسلماً تحت ساقها وبين يديها، وكأنه يعلم أنها تنقذ حياته، بعد يومين رأيت الديك يمشي متبختراً بين دجاجاته، ينقرها وينقر الأرض.
أرانب أليس في بلاد العجائب
في الضلع الطويل... أتذكر بين الحقيقة والتخيل، أنه كان ثمّة "عشة" أخرى في نهايته الضيقة، عشة صغيرة تكفي لأرنبين صغيرين، يشبهان الهامستر لكنهما أكبر. يجلسان طوال اليوم، يحركان أنفيهما ويقرضان الخضار. أتذكر ليلة ماطرة، خرجت فيها جدتي إلى الشرفة، لتراقب ولادة أربعة أرانب صغيرة، وتغطي العشة جيداً بالقماش والمشمع. لكنهم اختفوا فجأة، وكأنهم لم يوجدوا قط سوى في خيالي.
المطر والولادة والأنوف الصغيرة المرتعشة، والخشب المغطى بالشمع، ولمبة صفراء تتصل بسلك رفيع يتصل بقابس كهرباء داخل البيت. كلها تفاصيل ربما حلمت بها أو حدثت. لن أعرف الحقيقة. ماتت جدتي قبل أن أسألها، أو قبل أن أعي درامية الحكاية، فأتبين منها ما حدث فعلاً وما لم يحدث. هل عاشت عائلة من الأرانب الحقيقية في شرفتنا؟ أم أنها كانت تسكن خيالي مثل حكايات الأطفال؟ ربما هي ما قادني إلى كل ما حدث بعد ذلك، أو كل ما لم يحدث.
كل عيد تشتري أمي سجادة جديدة تفردها على أرض الصالة، فتشع رائحتها في البيت كله. تتحوّل رائحة السجاد الجديد إلى رائحة عيد، ويتحوّل العيد بشكل ما إلى فعل إخفاء، إخفاء لبلاط مربع أصفر، به نبشات خفيفة لنقاط سوداء... مجاز في رصيف22
في الشرفة أقف وحيدة أنظر إلى الزحام الشديد للسوق في الأسفل، وأسمع نداءات الباعة وصوت هسيس الحركة، احتكاك الأحذية والأخفاف بالأسفلت، أصوات فرز الخضار وتعبئته في الأكياس البلاستيكية، الجدال على سعر متر القماش، أو نقشة الستائر، قمصان نوم ملونة معروضة على مانيكانات خشبية مجوّفة وبائسة، وأبواب جرارة تُرفع أو تُنزل، عربات يدوية تتحرك أو تقف، خناقات، شجارات، تهديدات، مزاح وشتائم وغزل، رؤوس كثيرة متلاصقة تظهر لي من منظوري العلوي، منظور الرب الذي ينظر إلى رعيته.
لكني لم أكن رباً، في الحلم أنا طفلة صغيرة مرتبكة تنظر إلى العالم، وتعتقد أنها لن تخرج أبداً من هذا الشارع الذي يبدأ بجامع وينتهي بكنيسة، الشارع الذي ولدت فيه ودرست فيه وتعرفت فيه على الأصدقاء وعلى الأعداء، على الملائكة والشياطين، على الحلم والواقع، على الحب والكره. لكنها ستغادره ذات يوم، وستعيش في بيوت أخرى كثيرة. أكثر مما تتخيلها.
في هذا البيت أتأمّل الحياة بدهشة مستمرة
ولدت ذات ليلة وأمي تتناول عشاءها، حملوها إلى الغرفة الجانبية، ووضعوها على سرير مرتفع بقوائم حديدية، أحضروا لها داية عجوزاً لم تفعل شيئاً، لأني كنت قد انزلقت إلى الحياة، هادئة وصامتة، مزرقّة لأن الحبل السري التفّ حول عنقي، لم تفعل الداية شيئاً سوى فكه بسرعة حتى استعادت بشرتي لونها وبكيت، بكيت بكاء بسيطاً لا يناسب استقبالي للعالم مختنقة، الاختناق المؤقت تسبب لي في علامة دائمة، رقم 7 أحمر في منتصف جبهتي، لا يظهر إلا عند الحزن أو الغضب، أو عند اختناقي بغصّة تذكرني بلحظة الولادة.
رقم 7 لا يظهر جلياً سوى في صور لي وأنا بعمر الأيام، أحدق إلى الكاميرا بعينين دائريتين مندهشتين، والرقم واضح جداً، خفَّ مع الأيام، خفَّ مع طبقات المكياج والحزن والفرح والحب والكراهية والقلق والاطمئنان، خفَّ من غبار العالم، والهواء الذي يصدم جبهتي من شبابيك الميكروباصات المفتوحة، والسيارات السريعة والمراوح الهادرة.
كبرتُ في هذا البيت، أتأمل الحياة بدهشة مستمرة، وفيه عرفت مذاق جميع العناصر، للعيش أيضاً نكهات، أتذكّر كل لحظة بنكهة ما، ليست نكهات معتادة لطعام أو حلوى، إنما مجرد إحساس ما يغمر حواسي، ويلمس حتى حلمات التذوق على لساني، مثل مذاق صباح هادئ أجلس فيه على الأرض، في الضلع الضيق من الشرفة، أقرأ قصة وأنتقل عبرها إلى مكان آخر بعيد، أحياناً إلى بلد جديدة أو ربما إلى الفضاء.
مذاق الصباح يشبه مذاق زهرة حمراء كنا نقطفها من حديقة مدرسة الإصلاح المواجهة لمدرستي، نفتح متاعها بأصابعنا و"نلحس" السائل الشفاف داخلها، طعمه مثل العسل الخفيف، سميناها زهرة العسل. هكذا كان طعم صباحاتي، عسل خفيف رائق وزهري.
لكل غرفة في هذا البيت حكاية، ولكل قطعة عفش، كل بلاطة، كل خدش على الحائط، أو تواريخ كتبتها بالقلم بجوار السرير، مدخل البيت نفسه حكاية، وشعوري وأنا أقف أمام بابه، أستعد للضغط على الجرس حكاية.
من أين أبدأ وكل شيء يقودني إلى البيت القديم؟ أريد أن ابدأ من مدخله، أو حتى من ناصية الحارة، كل يوم عندما أرجع من المدرسة أو الجامعة، محمرة من الطقس الحار أو مزرقة من برد الشتاء، أنسى كل شيء بمجرد عبوري للناصية. سواء عبرت إلى الحارة من الشارع الرئيسي أو الشارع الخلفي الموازي لقضبان السكة الحديدية، أنسى كل شيء وأشعر بظل ما يغمر المكان، تعتدل درجة الحرارة، وأستعيد أوكسجيناً فقدته، راحة ما تكتنفني، راحة العودة إلى المنزل.
العمارة رقم 2
للعمارة رقم 2 بوابة حديدية صدئة، وعتبة مرتفعة بلّطوها ذات يوم بقطع سيراميك مختلفة الألوان، هي ربما ما تبقى من تشطيبات لعمارات أخرى، ثم حوش ضيق، أدلف إليه فأرى دراجة جدي تستند على الحائط على يميني، ذات يوم بعد موت جدي، حلمت أنه دفن رجلاً أسفلها، رجلاً من رجال الموالد الذين يطوفون بالشوارع في مواقيتها، اقتحم مدخل البيت وروّع سكانه فقتله جدي بضربة على الرأس، وصعد مرتجفاً إلى أمي.
صرخت أمي في الحلم فتمزق صدري وأنا نائمة، رأيتها تحمل الرجل مع جدي، تسحبه إلى أسفل الدراجة، وتلقيه داخل الأرض التي ابتلعته، تجلس إلى جوار جدي المرتجف على درجة سلم وتربت على كتفه، تقول: لن نتحدث أبداً عن هذا الأمر.
بعدها، عشت في بيوت كثيرة، حوائطها عارية، بلا لوحات ولا ستائر ولا ملصقات ورقية عليها صورة الكعبة أو المسجد النبوي ولا مناظر طبيعية، حيطان مصمتة اتأملها طوال اليوم دون أن يحدث شيء، دون أن أتحرر من المكان، بيوت عارية، هي شرنقة لامرأة غير مكتملة، خاملة، أو حبيسة، قاومت كثيراً حتى تحررت، وعندما تحررت، عادت إلى البيت القديم
استيقظت والألم لا يزال في صدري والرعب يظهر على ملامحي، للحظات فقدت القدرة على التمييز بين الحلم والحقيقة، كدت أسأل أمي إن كان شيئاً من هذا قد حدث، ثم أفقت وأدركت سخافتي. تذكرت مشهد الأرض التي تموجت وابتلعت رجلاً وتعجّبت من خيالي، أحلم ببيت هجرناه منذ سنين، بمدخله ودراجته وبرجل غريب يقتحمه، وبجدي الذي مات على فراشه وأمي التي لم تعد تقوى على الحركة. لم أبحث حتى عن تفسير للحلم ولم أحكِه لأحد، اكتفيت بأنه مجرد حلم آخر يعيدني للبيت القديم.
أتلذذ بالوصول إلى البيت
في حوش البيت باب خشبي يكاد يختفي في الظلام، لا يؤدي إلى شيء، لكنه كان مهماً جداً في عالمي الخيالي، وعبره رأيت العالم. ثم باباً آخر لشقة الطابق الأرضي، تعيش فيها سيدة عجوز تجلس دوماً على كنبة اسطنبولي، وتنظر من الشباك إلى الأسفلت.
أصعد درجات السلم عَدْواً. البيت في الطابق الثالث العلوي، كنا نقول الرابع اختصاراً، فوقنا لا شيء سوى سطح بُنيت عليه حجرتان، سكنهما عبر السنين عدة أشخاص، امرأة وحيدة تصنع مربى النارنج طوال الوقت، ثم عروسان كوّنا أسرة كبيرة من ثلاثة أطفال بسرعة. كون البيت في الطابق الأخير قبل السطح سمح للشمس بإضاءة مدخله، ينعكس الضوء على الجدار المجاور للباب، والذي زينه النقاش في آخر مرة طلينا فيها البيت بطلاء بارز وغائر، وتموجات لخطوط منحنية، اعتدت تمرير إصبعي عليها وأنا أصعد درجات مصطبة السلم الأخيرة ببطء متعمّد، أتلذذ بالوصول إلى البيت، أتلذذ بلحظة الوقوف أمام الباب ورن الجرس، بلحظة الدخول إلى الصالة، والمرور على المطبخ، والوصول إلى الحجرة.
لم أعش أبداً في بيت يمكن أن أطلق عليه بيتي
حجرتي ليست صومعة خاصة، هي مجرد مكان للنوم، بها سريران أشترك في أحدهما مع شقيقتي الكبري وتنفرد شقيقتي الأخرى بسرير صغير. وبها دولاب بباب مكسور، ومقعد تتراكم عليه الملابس، ومكتبة جانبية ممتلئة بالكتب القديمة.
ذات يوم، أفرغت أرفف المكتبة، وحولت الفراغات إلى بيوت متلاصقة لعرائسي. لا زلت أذكر شكل البيوت التي فرشتها بأثاث صنعته بنفسي، كنب من بقايا موكيت وردي، وموائد من علب الثقاب أو الطعام القديمة، رسمت لوحات دقيقة وعلقتها على حوائط البيوت الصغيرة، صنعت دواليب وملابس ونجف وأرفف أصغر لمكتبات أصغر، ربما داخلها بيوت أصغر لعرائس أصغر، أو لأناس أصغر!
أتلذذ بالوصول إلى البيت، أتلذذ بلحظة الوقوف أمام الباب ورن الجرس، بلحظة الدخول إلى الصالة، والمرور على المطبخ، والوصول إلى الحجرة... مجاز في رصيف22
هذه هي البيوت الوحيدة التي فرشتها على ذوقي. عشت في عشرات البيوت ولم أفرش أي منها، كنت كالغريبة دائماً، لا أملك شيئاً مما تضمه البيوت التي سكنتها ولم تسكنني، أحفظ رائحة سجاجيدها وأعرف ملمس سرائرها وشكل الأثر الغائر الذي يخلفه مقعد على الموكيت، أو درجة اصفرار جزء من الحائط نُزعت عنه لوحة أو نتيجة ورقية، لكني لم أعش أبداً في بيت يمكن أن أطلق عليه بيتي، فرشته بنفسي وزينته بنفسي واخترت له كل شيء، من منشفة اليد في الحمام إلى لون الخزائن في الغرف واللمبات في السقف.
لوحة الطفل الباكي وطبق الفاكهة والمرأة التي تقبل الأفعى
لماذا أعود دائماً إلى البيت القديم؟ ولماذا أتذكر تفاصيله وكأنني لم أغادره؟ عندما انتقلنا إلى بيت جديد، وبعد أن نقلنا كل قطع الأثاث، نقلنا الملابس والأطباق والملاعق واللوحات، وحتى البرطمانات الزجاجية الفارغة وزجاجات المياه المكدّسة أسفل الحوض، وقف للحظات في الصالة والتي للعجب تضاءلت بعد إفراغها من كل شيء، بعد إفراغها من حياة طويلة شغلتها لسنين. صالة شهدت ولادة وموتاً، شهدت حباً وبغضاً، شهدت أفراحاً وجنائز، باتت فجأة مظلمة ومتهالكة، عجوز بطلاء شاحب.
الصالة كانت حزينة، البيت كله حزن للفراق، وأنا أيضاً حزنت. لم أعترف بهذا أبداً، كلما تذكر أحد أفراد العائلة البيت سخرت منه، وقلت: لم أر فيه سوى الحزن. لكني كاذبة، إلى اليوم أشعر وكأنني انخلعت من الأرض، جذبني أحدهم من رأسي واقتلع جذوري، ربما أنا من جذبت نفسي، تمنيت التحرر من بيت قديم وشارع صاخب وسوق مزعج وجيران لا يشبهونني، وانتهيت إلى الاشتياق الدائم، انتهيت إلى الحلم الدائم بالعودة.
كان دافئاً، بستائره الملونة وفرش المقاعد المنقوش والسجاجيد الفولكلورية. خلف الكنبة ورق حائط لمنظر طبيعي، شجر أخضر ونهر رقراق يتخللها، ثمّة صخور على الجانبين، وسماء زرقاء تظهر من بين الأفرع. الجمعة 5 فبراير كنت أجلس على المقعد المقابل، وأغرق في كل تفصيل، رسمت هذا المنظر عشرات المرات، كما رسمت اللوحات المعلقة على الحيطان في الصالة والغرف، من لوحات الخط العربي "الله جل جلاله" إلى لوحة الطفل الباكي وطبق الفاكهة والمرأة التي تقبّل الأفعى.
بعدها، عشت في بيوت كثيرة، حوائطها عارية، بلا لوحات ولا ستائر ولا ملصقات ورقية عليها صورة الكعبة أو المسجد النبوي ولا مناظر طبيعية، حيطان مصمتة اتأملها طوال اليوم دون أن يحدث شيء، دون أن أتحرر من المكان. بيوت عارية، هي شرنقة لامرأة غير مكتملة، خاملة، أو حبيسة، قاومت كثيراً حتى تحررت، وعندما تحررت، عادت إلى البيت القديم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين