شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
غصّة البحث عن البيت… من دمشق إلى أوروبا، ومن ثم حياتي داخل كهف

غصّة البحث عن البيت… من دمشق إلى أوروبا، ومن ثم حياتي داخل كهف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 24 يونيو 202003:30 م

البحث عن البيت هي غصّة رافقتني أعواماً، منذ مغادرتي بيتي في دمشق، تكبر وتصغر لكنها دائماً في حلقي وقلبي، في خلفية أي حديث عن وطن. رغم رغبتي منذ الصغر بالعيش أقرب ما يمكن إلى الطبيعة، لكن ولدت وتربيت في المدينة. كنت أسأل والدي: لماذا لسنا من الريف؟ من ضيعة؟ فيجيب المتفاخر بدمشقيته: "شو بدك أحلى من إنك تكوني من الشام؟".

البحث عن البيت هي غصّة رافقتني أعواماً، منذ مغادرتي بيتي في دمشق، تكبر وتصغر لكنها دائماً في حلقي وقلبي، في خلفية أي حديث عن وطن.

منزلنا الكبير الذي يحتوي كل الأجهزة الكهربائية تقتصر الأشجار فيه على ياسمينة وحيدة، بعض النرجس البري في الربيع وبضع نباتات مبعثرة هنا وهناك، ألعب في شبه حديقتنا وأدفن كل النمل الذي أجده ميتاً في المساحة الترابية بالغة الصغر. الغابة بالنسبة لي رحلة مدرسية، البحر عطلة صيفية والعيش في الطبيعة حلم، ومن دمشق بدأت السفر مدينة تلو أخرى، آخرها برلين، فوضى ونظام، تلوث بيئي وحضاري، سحر مدني غريب، أغراني زمناً ثم أتعبني حدَّ الهرب.

وعادت الغصّة لأقرر هذه المرة السفر للعثور على البيت، وها أنا بالقليل من المال والكثير من الأصدقاء، بدأت رحلتي من ألمانيا إلى البرتغال إلى إسبانيا حتى جزر الكناري، تعرفت إلى شتى أشكال الناس والأماكن والروائح والعادات. وحيدة بدأت السفر، لكن طريقي امتلأ بالرفاق، وصلت إلى إحدى أصغر جزر الكناري وأكثرها خصباً، بقعة يابسة وسط محيط، حدودها الماء والسماء، تعرجات جبلية بشتى تدرجات اللون الأخضر والبني، يطوقها زنار رملي أسود، هنا الشطوط بركانية سوداء وهي سر خصوبة هذه الأرض، خفّت الغصة، بدأ قلبي ينبض بهدوء ودفء، وصوت صرخ داخلي: هنا البيت!

هنا البيت ولكن أين وكيف؟ سمعت أن هناك كهوفاً فارغة في الجبال كانت بيوت السكان الأصليين للجزيرة قبل الاحتلال الإسباني، سألت نفسي: هل يمكنني العيش في كهف؟

تعلمت في السفر الوثوق بالحياة والإنصات جيداً إلى عروضها التي تأتي أحياناً من أشخاص غير متوقعين، واقتناص الصدفة. ما نسميه صدفة ما هو إلا مفتاح يُمنح لنا عبر أيادٍ إنسانية، لنفتح أبواباً سرية لم نعرف بوجودها، وصدفةً قابلت مايا، فتاة كندية تعرفت إليها في جزيرة أخرى، أول ما قالته: تريدين كهفي؟ ترددت في داخلي، حين كانت عبارة "العيش في كهف" تُذكر أمامي، لم أكن أتخيل سوى رجل وامرأة يحمل الرجل نصف فخذ حيوان، وتحمل المرأة عصا، ويلبسان بقايا جلد نمر... لم تكن تلك صورة البيت في مخيلتي. لكن فمي سبقني وقال: نعم! أخبرتني أنها تريد الانتقال إلى كهف آخر وإن ساعدتها على نقل أغراضها يصبح الكهف لي. في الطريق كنت أسأل نفسي كيف آكل، أشرب أو أستحم؟ وبدأت باستحضار كل رحلات التخييم في حياتي حتى يهدأ قلقلي، ومايا تشرح عن مكان الحطب لإشعال النار وأقرب مصدر ماء وغيرها من تفاصيل الحاجات اليومية.

صدفةً قابلت مايا، فتاة كندية تعرفت إليها في جزيرة أخرى، أول ما قالته: تريدين كهفي؟ ترددت في داخلي، حين كانت عبارة "العيش في كهف" تُذكر أمامي، لم أكن أتخيل سوى رجل وامرأة يحمل الرجل نصف فخذ حيوان، وتحمل المرأة عصا، ويلبسان بقايا جلد نمر... لم تكن تلك صورة البيت في مخيلتي

وبعد يوم طويل مليء بالمفاجآت، الآن وحيدة تماماً في كهف، بدأت بترتيبه، هو ليس بالمساحة الصغيرة كما ظننت: زاوية للطهي، حفرة علوية لتخزين الطعام، قش على الأرض وركن دافئ للنوم، قررت تأجيل ترتيبات أخرى حين غلبني التعب ونمت عميقاً، في الصباح، شعرت باختلاف كبير، لا حاجة للنظر في مرآة ولا الاعتناء الدقيق بالشعر والملابس، لم أعد ابنة مدينة، كأن فتاة برية غير مروضة استيقظت داخلي.

قلقي الذي رافق أسئلة الطريق البارحة تلاشى مع لهب النار تحت ركوة القهوة، جلست قرب نافذتي التي هي نفسها مدخل الكهف المطل على وادٍ قاعه مجرى نهر قديم، حميمية المكان غمرتني كحميمية بيت، رائحته فرضت ألفة لا فكاك منها، نسيم عابر يهب مع تغريد الطيور يحمله هواء نقي لا يصله دخان السيارات.

مرت أيام. مع كل نهار، مع كل نفس، أشعر بقوة تتسرب عبر أنفي حتى أطراف أصابعي، سرت حافية القدمين، متصلة بالأرض كأني قبلاً كنت أعيش في رأسي فقط، تعرفت على شكل جسدي وكأنها المرة الأولى حين تعريت تحت الشمس، ورأيت ما خطّه القلق والأكل السريع فيه، وحين مشيت لأقرب مصدر ماء لم يتعبني صعود الجبل عشرين دقيقة أحمل خمساً وعشرين لتراً وكل ما استطعت التقاطه من حطب.

قوة جسدية ذكرتني أنني فتية، وأن ضعفي فكرة زرعت في ذهني، واستطاعتي أكبر بكثير مما ظننت، يوقظني بزوغ الضوء بنشاط دون النظر إلى هاتفي لمعرفة الوقت أو التاريخ أو المواعيد، كل هذا لم يعد مهماً، أنا ملكة وقتي وأقرر ما أفعله، الطهي يستغرق وقتاً أطول لكنه أكثر متعة ولذة، نار الحطب تغير من نكهة الطعام مهما كان، ولن تعرض أحدث الشاشات مشهداً طبيعياً سحرياً كما هذا الوادي الممتد على محيط بلا نهاية، سريعاً تكيفت مع المكان، وكأن السكن في الطبيعة محفور في ذاكرة عميقة لم أعرف بوجودها.

ومن ظنّي سأقضي بضعة أيام هنا إلى مرور خمسة أشهر كلحظة، غيرت داخلي الكثير: علاقتي مع الحيوانات، مفاهيمي عن النظافة والجمال، اعتنائي بجسدي وصحتي، تفكيري بحكم الآخرين على شكلي وتصرفاتي، لكن التحدي الأكبر بالنسبة لي كان تمييزي بين "ما أحتاج" و"ما أريد"، كمعتادة على استخدام كلمة يلزمني، يلزمني شراء شيء، يلزمني التحدث على الهاتف، يلزمني الإنترنت، يلزمني...لأدرك لاحقاً أن معظم الأشياء التي أدفع ثمنها مالاً ووقتاً وطاقة وتفكيراً لا تلزمني، بل تعودت وحتى أدمنت كثيراً على ما لا أحتاج، الهدوء والسلام صنعا من هذا الكهف بيتاً لي، رتبت أسئلتي عما أحتاج وما أريد؟ هل أحتاج إلى مصفف شعر؟ الذهاب إلى مطعم؟ هاتف لأتحدث؟ هناك كان الجواب سهلاً بصورة غريبة.

أن أجري عشرات المحادثات واللقاءات السطحية التي تأكل وقتي ومشاعري، أن أنسى أهمية الصمت ورجوعي لذاتي... فإن خروجي من هذه الدائرة المفرغة أعطاني أحد أهم الدروس التي تعلمتها في كهف، الآن أفكر مرتين قبل أن أقول "أريد" شيئاً، وأفكر عشرات المرات قبل أن أقول "أحتاج" أي شيء

لا بكل بساطة، وعما أريد، كانت تلك تقفز إليّ من تلقاء نفسها، كل يوم أريد مئة أمر مختلف، لكن هذه الـ "أريد" الجديدة مختلفة، فكل ما أريده أجده. حياة المدينة أرهقتني لأجد نفسي مجبرة على قبول أشياء غريبة يومياً، مقتنعة أنها تلزمني، وسرعة نمط الحياة الجديد لم يترك الكثير من الوقت للتفكير بما أفعل، علي دائماً أن أنجز شيئاً أو أصل إلى موعد أو أكلم أحدهم، أن أعتني بمظهري أكثر من الاعتناء بفكري أو حتى صحتي، أن أفكر بما يريده الناس مني أكثر من التفكير بما أريده لنفسي، أن أجري عشرات المحادثات واللقاءات السطحية التي تأكل وقتي ومشاعري، أن أنسى أهمية الصمت ورجوعي لذاتي... فإن خروجي من هذه الدائرة المفرغة أعطاني أحد أهم الدروس التي تعلمتها في كهف، الآن أفكر مرتين قبل أن أقول "أريد" شيئاً، وأفكر عشرات المرات قبل أن أقول "أحتاج" أي شيء.

وماذا عن العثور على البيت؟ اختفت غصّتي تماماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image