البحث عن البيت هي غصّة رافقتني أعواماً، منذ مغادرتي بيتي في دمشق، تكبر وتصغر لكنها دائماً في حلقي وقلبي، في خلفية أي حديث عن وطن. رغم رغبتي منذ الصغر بالعيش أقرب ما يمكن إلى الطبيعة، لكن ولدت وتربيت في المدينة. كنت أسأل والدي: لماذا لسنا من الريف؟ من ضيعة؟ فيجيب المتفاخر بدمشقيته: "شو بدك أحلى من إنك تكوني من الشام؟".
البحث عن البيت هي غصّة رافقتني أعواماً، منذ مغادرتي بيتي في دمشق، تكبر وتصغر لكنها دائماً في حلقي وقلبي، في خلفية أي حديث عن وطن.
منزلنا الكبير الذي يحتوي كل الأجهزة الكهربائية تقتصر الأشجار فيه على ياسمينة وحيدة، بعض النرجس البري في الربيع وبضع نباتات مبعثرة هنا وهناك، ألعب في شبه حديقتنا وأدفن كل النمل الذي أجده ميتاً في المساحة الترابية بالغة الصغر. الغابة بالنسبة لي رحلة مدرسية، البحر عطلة صيفية والعيش في الطبيعة حلم، ومن دمشق بدأت السفر مدينة تلو أخرى، آخرها برلين، فوضى ونظام، تلوث بيئي وحضاري، سحر مدني غريب، أغراني زمناً ثم أتعبني حدَّ الهرب.
وعادت الغصّة لأقرر هذه المرة السفر للعثور على البيت، وها أنا بالقليل من المال والكثير من الأصدقاء، بدأت رحلتي من ألمانيا إلى البرتغال إلى إسبانيا حتى جزر الكناري، تعرفت إلى شتى أشكال الناس والأماكن والروائح والعادات. وحيدة بدأت السفر، لكن طريقي امتلأ بالرفاق، وصلت إلى إحدى أصغر جزر الكناري وأكثرها خصباً، بقعة يابسة وسط محيط، حدودها الماء والسماء، تعرجات جبلية بشتى تدرجات اللون الأخضر والبني، يطوقها زنار رملي أسود، هنا الشطوط بركانية سوداء وهي سر خصوبة هذه الأرض، خفّت الغصة، بدأ قلبي ينبض بهدوء ودفء، وصوت صرخ داخلي: هنا البيت!
هنا البيت ولكن أين وكيف؟ سمعت أن هناك كهوفاً فارغة في الجبال كانت بيوت السكان الأصليين للجزيرة قبل الاحتلال الإسباني، سألت نفسي: هل يمكنني العيش في كهف؟
تعلمت في السفر الوثوق بالحياة والإنصات جيداً إلى عروضها التي تأتي أحياناً من أشخاص غير متوقعين، واقتناص الصدفة. ما نسميه صدفة ما هو إلا مفتاح يُمنح لنا عبر أيادٍ إنسانية، لنفتح أبواباً سرية لم نعرف بوجودها، وصدفةً قابلت مايا، فتاة كندية تعرفت إليها في جزيرة أخرى، أول ما قالته: تريدين كهفي؟ ترددت في داخلي، حين كانت عبارة "العيش في كهف" تُذكر أمامي، لم أكن أتخيل سوى رجل وامرأة يحمل الرجل نصف فخذ حيوان، وتحمل المرأة عصا، ويلبسان بقايا جلد نمر... لم تكن تلك صورة البيت في مخيلتي. لكن فمي سبقني وقال: نعم! أخبرتني أنها تريد الانتقال إلى كهف آخر وإن ساعدتها على نقل أغراضها يصبح الكهف لي. في الطريق كنت أسأل نفسي كيف آكل، أشرب أو أستحم؟ وبدأت باستحضار كل رحلات التخييم في حياتي حتى يهدأ قلقلي، ومايا تشرح عن مكان الحطب لإشعال النار وأقرب مصدر ماء وغيرها من تفاصيل الحاجات اليومية.
صدفةً قابلت مايا، فتاة كندية تعرفت إليها في جزيرة أخرى، أول ما قالته: تريدين كهفي؟ ترددت في داخلي، حين كانت عبارة "العيش في كهف" تُذكر أمامي، لم أكن أتخيل سوى رجل وامرأة يحمل الرجل نصف فخذ حيوان، وتحمل المرأة عصا، ويلبسان بقايا جلد نمر... لم تكن تلك صورة البيت في مخيلتي
وبعد يوم طويل مليء بالمفاجآت، الآن وحيدة تماماً في كهف، بدأت بترتيبه، هو ليس بالمساحة الصغيرة كما ظننت: زاوية للطهي، حفرة علوية لتخزين الطعام، قش على الأرض وركن دافئ للنوم، قررت تأجيل ترتيبات أخرى حين غلبني التعب ونمت عميقاً، في الصباح، شعرت باختلاف كبير، لا حاجة للنظر في مرآة ولا الاعتناء الدقيق بالشعر والملابس، لم أعد ابنة مدينة، كأن فتاة برية غير مروضة استيقظت داخلي.
قلقي الذي رافق أسئلة الطريق البارحة تلاشى مع لهب النار تحت ركوة القهوة، جلست قرب نافذتي التي هي نفسها مدخل الكهف المطل على وادٍ قاعه مجرى نهر قديم، حميمية المكان غمرتني كحميمية بيت، رائحته فرضت ألفة لا فكاك منها، نسيم عابر يهب مع تغريد الطيور يحمله هواء نقي لا يصله دخان السيارات.
مرت أيام. مع كل نهار، مع كل نفس، أشعر بقوة تتسرب عبر أنفي حتى أطراف أصابعي، سرت حافية القدمين، متصلة بالأرض كأني قبلاً كنت أعيش في رأسي فقط، تعرفت على شكل جسدي وكأنها المرة الأولى حين تعريت تحت الشمس، ورأيت ما خطّه القلق والأكل السريع فيه، وحين مشيت لأقرب مصدر ماء لم يتعبني صعود الجبل عشرين دقيقة أحمل خمساً وعشرين لتراً وكل ما استطعت التقاطه من حطب.
قوة جسدية ذكرتني أنني فتية، وأن ضعفي فكرة زرعت في ذهني، واستطاعتي أكبر بكثير مما ظننت، يوقظني بزوغ الضوء بنشاط دون النظر إلى هاتفي لمعرفة الوقت أو التاريخ أو المواعيد، كل هذا لم يعد مهماً، أنا ملكة وقتي وأقرر ما أفعله، الطهي يستغرق وقتاً أطول لكنه أكثر متعة ولذة، نار الحطب تغير من نكهة الطعام مهما كان، ولن تعرض أحدث الشاشات مشهداً طبيعياً سحرياً كما هذا الوادي الممتد على محيط بلا نهاية، سريعاً تكيفت مع المكان، وكأن السكن في الطبيعة محفور في ذاكرة عميقة لم أعرف بوجودها.
ومن ظنّي سأقضي بضعة أيام هنا إلى مرور خمسة أشهر كلحظة، غيرت داخلي الكثير: علاقتي مع الحيوانات، مفاهيمي عن النظافة والجمال، اعتنائي بجسدي وصحتي، تفكيري بحكم الآخرين على شكلي وتصرفاتي، لكن التحدي الأكبر بالنسبة لي كان تمييزي بين "ما أحتاج" و"ما أريد"، كمعتادة على استخدام كلمة يلزمني، يلزمني شراء شيء، يلزمني التحدث على الهاتف، يلزمني الإنترنت، يلزمني...لأدرك لاحقاً أن معظم الأشياء التي أدفع ثمنها مالاً ووقتاً وطاقة وتفكيراً لا تلزمني، بل تعودت وحتى أدمنت كثيراً على ما لا أحتاج، الهدوء والسلام صنعا من هذا الكهف بيتاً لي، رتبت أسئلتي عما أحتاج وما أريد؟ هل أحتاج إلى مصفف شعر؟ الذهاب إلى مطعم؟ هاتف لأتحدث؟ هناك كان الجواب سهلاً بصورة غريبة.
أن أجري عشرات المحادثات واللقاءات السطحية التي تأكل وقتي ومشاعري، أن أنسى أهمية الصمت ورجوعي لذاتي... فإن خروجي من هذه الدائرة المفرغة أعطاني أحد أهم الدروس التي تعلمتها في كهف، الآن أفكر مرتين قبل أن أقول "أريد" شيئاً، وأفكر عشرات المرات قبل أن أقول "أحتاج" أي شيء
لا بكل بساطة، وعما أريد، كانت تلك تقفز إليّ من تلقاء نفسها، كل يوم أريد مئة أمر مختلف، لكن هذه الـ "أريد" الجديدة مختلفة، فكل ما أريده أجده. حياة المدينة أرهقتني لأجد نفسي مجبرة على قبول أشياء غريبة يومياً، مقتنعة أنها تلزمني، وسرعة نمط الحياة الجديد لم يترك الكثير من الوقت للتفكير بما أفعل، علي دائماً أن أنجز شيئاً أو أصل إلى موعد أو أكلم أحدهم، أن أعتني بمظهري أكثر من الاعتناء بفكري أو حتى صحتي، أن أفكر بما يريده الناس مني أكثر من التفكير بما أريده لنفسي، أن أجري عشرات المحادثات واللقاءات السطحية التي تأكل وقتي ومشاعري، أن أنسى أهمية الصمت ورجوعي لذاتي... فإن خروجي من هذه الدائرة المفرغة أعطاني أحد أهم الدروس التي تعلمتها في كهف، الآن أفكر مرتين قبل أن أقول "أريد" شيئاً، وأفكر عشرات المرات قبل أن أقول "أحتاج" أي شيء.
وماذا عن العثور على البيت؟ اختفت غصّتي تماماً.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.